وتعتبر ولاية جنوب دارفور، من أكبر الولايات السودانية (مساحتها توازي مساحة فرنسا) من حيث الكثافة السكانية والنشاط الاقتصادي، لكنها تأثرت في السنوات الأخيرة ضمن غيرها من ولايات إقليم دارفور، بالحرب بين القوات الحكومية والحركات المسلحة، فضلاً عن تأثرها بالصراعات القبلية، ما أدى إلى موجات من النزوح تقدرها الأمم المتحدة بـ2 مليون نازح، يعيش حوالي 240 ألف منهم في معسكر "كلمة"، أكبر معسكرات النزوح في السودان.
وتبعد نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، عن الخرطوم العاصمة، نحو 900 كيلومتر، وينتهي عندها خط سكة الحديد. كذلك تُعد المدينة الثانية بعد الخرطوم من حيث النشاط الاقتصادي، ولديها تبادل تجاري مع عدد من دول الجوار مثل جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا. وقبل ذلك، هي واحدة من مراكز تجارة الصمغ العربي. ويبلغ عدد سكان المدينة حوالي 600 ألف نسمة، وذلك حسب آخر إحصائية في عام 2007، ويعيش فيها عدد من القبائل. لكن ذلك النسيج الاجتماعي تعرّض لضربات موجعة بنشوب عدد كبير من النزاعات القبلية، وحدوث اصطفاف قبلي سياسي، بين الولاء لنظام عمر البشير، والانتماء للحركات المسلحة التي رفعت السلاح مطالبةً بمشاركة عادلة لإقليم دارفور في السلطة المركزية وبتنمية عادلة بين الولايات. وقد حدث ذلك في عهد البشير، في حين أن الولاية قبله كانت ككل تدين بالولاء لحزب "الأمة" بقيادة الصادق المهدي.
ولمدينة نيالا تاريخ طويل مع قوات الدعم السريع التي يقودها "حميدتي". ففي المدينة نفسها، عاش "حميدتي"، ومنها انطلق في تكوين مليشياته المسلحة التي استخدمها نظام عمر البشير في حربه على الحركات المتمردة، قبل أن تتطور تلك المليشيات ويتم الاعتراف بها كقوة نظامية، ما زاد من نفوذ قائدها حميدتي الذي أصبح أخيراً جزءاً في معادلة السياسة السودانية، وهو الآن عضو في مجلس السيادة، فيما تسيطر قواته على النفوذ العسكري في مدينة نيالا.
وبدأت شرارة الأحداث الأخيرة في 12 سبتمبر/ أيلول الحالي، عندما توفي شاب يدعى مهند تميم تحت التعذيب على أيدي قوات من الدعم السريع التي اعتقلته من منزله بواسطة قوة قوامها نحو 10 عناصر، ومعه ستة شبان آخرين. وقد نقل السبعة إلى معسكر بضاحية كشلنقو (8 كيلومترات جنوب مدينة نيالا)، بعد أن اتهمتهم تلك القوات بسرقة إطار سيارة أحد ضباطها.
ويقول أحد ضحايا الحادثة، ويدعى آدم الضي موسى، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه فور وصولهم إلى معسكر الدعم السريع، رمى بهم الجنود في بركة مياه آسنة، وانهال الجنود عليهم ضرباً بالسياط، قبل أن تُربط أيديهم وأرجلهم من الخلف، ويتم تعليقهم في سقف إحدى الحاويات، وإدخال رؤوسهم في أكياس مليئة بالفلفل الأحمر. وأضاف الضي موسى أنّ نوبات التعذيب استمرت لمدة يومين، ثمّ أعيدوا إلى منازلهم.
بدورها، تقول والدة القتيل مهند تميم، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ جنود الدعم السريع أعادوا ابنها في حالة صحية صعبة، وطلبوا منها الصمت وأمروها تحت التهديد بعدم تدوين بلاغ بالحادثة، لكنها تحدّت ذلك ونقلت ابنها إلى مركز للشرطة ودوّنت بلاغاً في مواجهة أفراد قوة الدعم السريع، قبل أن يتوفى نجلها.
ومع تزايد الانتقادات للحادثة، اضطر والي جنوب دارفور، اللواء هاشم خالد، للحضور معزياً بتميم، وأبلغ أسرته بأنّ الضابط والجنود المتهمين بقتله أودعوا السجن. لكن والدة الشاب وبقية الضحايا طالبوا بأن تسمح لهم السلطات برؤية الجناة وراء القضبان، ليطمئنوا بشأن عدم إفلاتهم من العقاب. وبينما لم يفق مجتمع الولاية من صدمة حادثة مهند تميم ورفاقه، اندلعت أعمال عنف الأحد قبل الماضي في 15 سبتمبر الحالي، بمنطقة ميرشينج (70 كيلومتراً شمال نيالا) راح ضحيتها 4 أشخاص وجرح نحو 5 آخرين. ووقع الحادث، بحسب روايات شهود عيان تحدثوا لـ"العربي الجديد"، عندما أطلق رعاة إبل في طريق عودتهم إلى باديتهم النار على الشاب منير محمد حامد (25 عاماً) بالقرب من مخيم "سيلو" للنازحين الذي يقطنه، عندما رفض تسليمهم هاتفه الجوال، ما أدى إلى مقتله. وبعد أن دوّن الأهالي بلاغاً بالحادثة في قسم شرطة ميرشينج، لم تخرج قوات الأخير لملاحقة الجناة، الأمر الذي أثار حفيظة أقرباء القتيل، فخرجوا في تظاهرات غاضبة أحرقوا خلالها مركز الشرطة. وعندما توجهوا إلى مقر جهاز الأمن والمخابرات، أطلقت عليهم قواته النار، وأردت آدم محمد آدم (20 عاماً). وأوضح أحد الشهود، ويدعى حامد قمر الدين، لـ"العربي الجديد"، أنّ الاحتجاجات تجدّدت في صبيحة اليوم التالي، وجرى إطلاق نار على المتظاهرين بالقرب من مقر قوات الأمن، فقتل شخص ثالث يدعى أبو القاسم محمد عثمان (40 عاماً).
وبعد يومين، قتل رعاة مسلحون امرأة وطفلها بقرية عيدان قرب مدينة قريضة (85 كيلومتراً جنوبي نيالا). وبحسب رواية الوالي لوسائل إعلام محلية، فإنّ الأحداث وقعت إثر دخول أبقار إلى مزارع بالمنطقة، وعندما سلّم المزارعون الأبقار إلى الشرطة، هجم عدد من الرعاة على مركز الأخيرة لاسترداد أبقارهم، ووقع اشتباك قتلت فيه امرأة وطفل فيما جرح أحد عناصر الشرطة، وتمكّن المهاجمون من استرداد أبقارهم بالفعل. وعلى إثر ذلك، أرسلت الشرطة تعزيزات إضافية للمنطقة، لكنها تعرضت لكمين نتج عنه مقتل 5 من المهاجمين وإصابة شرطي.
ومع بداية الأسبوع الحالي، انعدم الخبز تماماً في مدينة نيالا، فخرج آلاف الطلاب في مسيرات احتجاجية، تصدّت لها قوات الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع، فأصيب 21 من المحتجين و3 من أفراد الشرطة جراء رشقهم بالحجارة. واتهم المتظاهرون حكومة الولاية بالعجز عن توفير الدقيق الذي تتحكم الحكومة في توزيعه للمخابز.
وأقرّ والي جنوب دارفور، اللواء هاشم خالد، في حديث للصحافيين، بوجود شحّ في الدقيق، ما اضطر حكومته إلى تقليص الكميات المخصصة للمخابز خلال أيام الخميس والجمعة والسبت من الأسبوع الماضي، لكنه ذكر أنّ الأزمة فرجت بشكل جزئي بوصول 10 آلاف شوال دقيق من الخرطوم، وتوزيعها على الفور على المخابز بواقع 2245 شوالاً لعدد 528 مخبزاً، بدلاً عن 1800 في الأيام السابقة. وكشف خالد الاثنين الماضي، في اجتماع مع وفد مركزي برئاسة وزير الداخلية الفريق الطريفي دفع الله، الذي وصل إلى الولاية للوقوف على تطورات الأوضاع بجنوب دارفور، عن عجز الولاية في تأمين الاستهلاك اليومي من الدقيق الذي يبلغ نحو خمسة آلاف شوال.
لكنّ ناشطين في الحراك الثوري في السودان، اتهموا عناصر من حزب الرئيس المعزول (المؤتمر الوطني)، بالوقوف وراء احتجاجات الطلاب. وقال عضو لجان المقاومة في نيالا، أحمد خليل، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ لديهم معلومات "بوقوف عناصر من حزب المؤتمر الوطني وراء احتجاجات طلاب المدارس، للضغط على الحكومة التي تقودها قوى إعلان الحرية والتغيير وإفشالها".
في الأثناء، أطلق ناشطون آخرون دعوات لخروج كل مدن السودان في مواكب، تضامناً مع أسر ضحايا الأحداث في جنوب دارفور. وكانت التظاهرات في مدينة نيالا قد استمرّت، حيث خرج الآلاف من المواطنين يوم الإثنين الماضي في مواكب شملت أرجاء المدينة كافة، أحرقوا خلالها إطارات سيارات، ووضعوا متاريس في عدد من الطرق الرئيسية. وكانت تجمّعت المواكب في نقاط رئيسية وسط المدينة تمّ تحديدها بواسطة لجان المقاومة، ومن ثمّ وصلت إلى نقطة التجمع الرئيسية في دوار المحكمة وساحة الشهيد السحيني. كذلك وصل المتظاهرون إلى محيط منزل الوالي الذي طوقته الأجهزة الأمنية، لمنع دخول المتظاهرين الغاضبين إليه، حيث كان يعقد اجتماع لوزيري الداخلية والحكم الاتحادي مع زعماء القبائل. وقد تسلّم الوفد مذكرة من "قوى الحرية والتغيير" بالولاية، تطالب بإقالة الوالي وهو نفسه الحاكم العسكري اللواء هاشم خالد وتعيين والٍ مدني مكانه. كذلك سمحت القوات للمتظاهرين للمرة الأولى بأن يمروا بين قيادة الجيش ومقر حكومة الولاية، حيث رفعوا لافتات طالبوا فيها بإقالة الحاكم العسكري، وإزاحة رموز النظام السابق عن إدارة المؤسسات الحكومية، خصوصاً طاقم مكتب الوالي السابق الذي ما زال يعتمد عليه الحاكم الحالي في تسيير دولاب العمل.
وليس بعيداً عما حدث، فإنّ العلاقة بين الحركات المسلحة في دارفور، و"قوى إعلان الحرية والتغيير" ربما ألقت بظلالها على الأحداث، فبعد سقوط نظام البشير، عبّرت الحركات المسلحة عن عدم رضاها عن إجراءات ما بعد سقوط الرئيس السابق، خصوصاً الترتيبات بين المجلس العسكري وقوى "الحرية والتغيير"، لكن هذه الحركات وقّعت في الأسابيع الماضية مع مجلس السيادة، على اتفاق إطاري يمهّد الطريق لاتفاق نهائي ستبدأ المفاوضات حوله في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.