وقال السيسي صراحة: "سأقول لكم عن غلطة واحدة أو ثمن واحد دفعناه وسندفعه؛ 2011 (في إشارة إلى الثورة) لم تكن أبداً لتبنى سدود على نهر النيل إلا بها"، واصفاً حديثه بأنه "كلام في منتهى الخطورة". وتابع الرئيس المصري موضحاً: "أنا قلت 2011 فقط ليه؟ لأني جبت لكم نقطة واحدة وتقولوا لي: حل يا سيسي وهات لنا المية. أنتم (المصريين) من عملتم كده".
تحميل السيسي خطايا نظامه ونظام من سبقوه، سواء المجلس العسكري الذي حكم البلاد بعد ثورة 25 يناير، مباشرة أو نظام حسني مبارك، ينطوي على مغالطات كثيرة، بحسب مصدر مطلع، إذ إن الأزمة ليس المتسبب فيها الشعب المصري، كما يقول الرئيس المصري، فالأخير هو أول من اعترف بسدّ النهضة خلال فترة حكمه من خلال توقيعه على وثيقة سدّ النهضة في مارس/ آذار 2015. ويعد هذا التوقيع أول اعتراف مصري بالسدّ، إذ وقّع السيسي ونظيره السوداني عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا السابق هايلي ماريام ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم، وثيقة "إعلان مبادئ سدّ النهضة".
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2015، وقّع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على وثيقة الخرطوم، التي تضمنت الاتفاق والتأكيد على إعلان المبادئ الموقع من قبل رؤساء الدول الثلاث في مارس/ آذار من ذلك العام.
وصرح وزير الإعلام والاتصالات الإثيوبي غيتاشو رضا، في مايو/ أيار 2016، بأن حكومة بلاده توشك على إكمال 70 في المائة من بناء "سدّ النهضة"، وأن ما تمّ إنجازه يتضمن الأعمال الإنشائية والهندسة المدنية، وتركيب التوربينات وعمليات هندسة المياه. وبعد سلسلة طويلة من المفاوضات المتعثرة، أعربت مصر في سبتمبر/ أيلول 2017 عن قلقها البالغ من عدم حسم نقاط الخلاف في التقرير الاستهلالي للمكتب الاستشاري.
وعادت مفاوضات سدّ النهضة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، حين زار وزير الري المصري محمد عبد العاطي موقع سدّ النهضة الإثيوبي، للمرة الأولى، لمتابعة الأعمال الإنشائية والتحقق من التفاصيل الفنية في إطار أعمال اللجنة الثلاثية الفنية، وهو ما اعتبره خبراء اعترافاً أمام المجتمع الدولي بموافقة مصر على إنشاء سدّ النهضة، وهو ما استغلته وروجت له إثيوبيا أمام العالم.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، استضافت القاهرة على مدى يومين جولةً جديدة للمفاوضات بين وزراء الموارد المائية الثلاثة، لكن السودان وإثيوبيا أعلنا رفْض التقرير الاستهلالي الخاص بدراسات سدّ النهضة، وأكدت مصر عدم التوصل لاتفاق.
وبحسب المصدر، فقد تعرّض النظام المصري لعملية خداعٍ استراتيجي، إذ إنه على الرغم من تبادل الدعابات والتصوير أمام الكاميرات بين زعماء الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، التي كان آخرها ما قام به السيسي من مطالبة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالقسَم أمام سدّ النهضة أنه لن يضر بمصر، إلا أن المياه لا تزال راكدة في ما يتعلق بإنهاء دراسات السد التي تقيس تأثيره على دولتي المصب مصر والسودان من النواحي المائية والبيئية والاجتماعية.
ويعتبر رئيس قسم الموارد الطبيعية في معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، أنه لا يوجد أي تقدم ملموس على مستوى المفاوضات في سد النهضة، وأنها بشكلها الحالي تخدم إثيوبيا وتضرّ بالمصالح المصرية. وبحسب رأيه، فإن هذه المفاوضات تستهلك الوقت، ولا تمسّ جوهر المشاكل الرئيسية بين دول حوض النيل الشرقي، مصر والسودان وإثيوبيا، كما لا تتطرق إلى مشاركة مصر في ملء بحيرة سد النهضة، والذي سيؤدي إلى اقتطاع 24 مليار متر مكعب من حصتها المائية.
ويضيف شراقي، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، أن الحكومة المصرية تحاول تهدئة الأمور، مشيراً إلى جملة خطيرة قالها رئيس الوزراء الإثيوبي ولم يلتفت إليها أحد من المسؤولين في القاهرة، وهي أن بلاده "ستستفيد من حصتها المائية في مياه نهر النيل"، وهذه الجملة خطيرة، لأن إثيوبيا ليس لها حصة مائية أصلاً حتى تستفيد منها، ومن ثم هي تحاول أن تفرض أمراً واقعاً، وهذا يعني أنها ستحتجز جزءاً من حصة مصر المائية في ما تعتبره أن حصتها من المياه، حيث إن اتفاقية 1959 الموقعة بين مصر والسودان لا تعطي حصة مائية لإثيوبيا.
لم تكن سوى دعابة
ويشير شراقي إلى مطالبة السيسي لآبي أحمد بالقسم أنه لن يضر بمصلحة مصر المائية وأنه سيحافظ عليها ليردد وراءه رئيس الوزراء الإثيوبي القسم، رغم أنه لا يتكلم العربية، معتبراً أن هذا القسم غير ملزم في الاتفاقيات الدولية.
وبحسب الخبير في معهد البحوث والدراسات الأفريقية، فإن هناك ثلاثة أخطاء ارتكبتها وترتكبها الحكومة المصرية حالياً، وهي عدم الاتفاق على قواعد ملء وتشغيل سدّ النهضة، وذلك تنفيذاً لبنود اتفاقية السدّ الموقعة بين مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم، التي تقضي بضرورة التعاون في الملء الأول لسدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا، ووفقاً لذلك، بضرورة وجود خبراء مصريين في إثيوبيا للتعاون في تشغيل سدّ النهضة. ويتساءل شراقي "هل ستوافق أديس أبابا على وجود هؤلاء الخبراء على أراضيها أم ستعتبره انتقاصاً لسيادتها؟".
ويوضح الخبير المائي أن الخطأ الثاني هو عدم طرح إجراء اتفاقيات للتعاون المائي في المستقبل، وخصوصاً أن إثيوبيا تستهدف إنشاء 30 مشروعاً مائياً أخرى سيكون لها تأثيرات سلبية على مصر، منها ثلاثة سدود أخرى غير سد النهضة، وهي لا تقل خطورة عنه من حيث التأثير على حصة مصر المائية، وسيتم بناؤها على النيل الأزرق، الذي تعتمد مصر عليه بأكثر من 85 في المائة من حصتها المائية.
ولفت شراقي إلى أن الأزمة الأخيرة والثالثة التي تؤجلها مصر مع إثيوبيا هي اتفاقية عنتيبي (2010)، التي لا تعترف بحصة مصر المائية، وهي الاتفاقية التي ترفضها مصر والسودان بينما تتوافق أغلب دول المنابع عليها، وبالتالي لا بد أن تطرح مصر إعادة النظر في هذه الاتفاقية وبنودها، وأن نصل إلى صيغة توافقية مع دول المنابع، خاصة أن هناك إمكانية أن يوقع السودان على هذه الاتفاقية، ما يضع مصر في مأزق.
تأخرنا كثيراً
من جهته، يرى أستاذ الموارد المائية في جامعة القاهرة الدكتور نادر نور الدين، أن مصر "تأخرت كثيراً لوقف مخاطر هذا السد الذي سيحتجز 74 مليار متر مكعب من حصتها المائية". وبحسب رأيه، فإنه "على الرغم من محاولة الدبلوماسية المصرية إنقاذ الموقف من خلال محاولتها تقريب وجهات النظر بين الجانبين المصري والإثيوبي، إلا أن الحكومة ممثلة في وزارة الري أغرقتنا في مفاوضات لا طائل لها واستجابت للإملاءات الإثيوبية، واستطاعت أديس أبابا أن تفرض شروطها على المفاوض المصري، وأن تعلن بكل وضوح لاءاتها الثلاثة: لا تفاوض حول مواصفات السد، وسعة تخزينه، ولا تفاوض حول حصص المياه، وتمت الاستجابة من جانب المفاوض المصري راضخاً". ويلفت نور الدين إلى أن "من تولّوا هذا الملف لم يكونوا متخصصين في مياه النيل، بل إن أحد الوزراء لم يكن يعرف حتى البحيرات في دول المنابع".
ويعتبر مستشار وزير الري الأسبق والخبير المائي ضياء القوصي، في تصريحات خاصة، أن هناك رغبة إثيوبية لإذلال مصر من خلال إنشاء سدّ النهضة، لافتاً إلى أن الفكرة تعود إلى الستينيات من القرن الماضي، من خلال مكتب الاستصلاح الأميركي، الذي خطط لإنشاء 33 سداً، منها "النهضة" الذي يبعد تسعة كيلومترات عن الحدود السودانية. ويلفت إلى أن الأرض التي ينشأ عليها السدّ حالياً سبق أن تنازل عنها ملك مصر والسودان الملك فؤاد في منطقة بني شنقول.
وبحسب مصادر مطلعة، بدأت الحكومة الإثيوبية في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2009 مسحاً لموقع السد، وأعلنت نيتها بناء سد مائي على نهر النيل، سيؤثر على حصة مصر والسودان. وفي منتصف شهر إبريل/ نيسان 2010، استيقظت مصر على فشل اجتماعٍ عقد في شرم الشيخ لوزراء المياه في دول حوض النيل العشر، في التوصل لاتفاق على حصص كل منها في مياه النهر، لتواجه مصر أزمة تتعلق بوجودها ساهمت فيها جغرافيتها السياسية التي جعلتها تعتمد على مصدر واحد للمياه (نهر النيل) ينبع من أراضي دول أخرى. واجتماع شرم الشيخ الفاشل عمّق، أو بالأحرى برهن، على الخلاف بين دول المنبع (بوروندي والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وروندا وتنزانيا وأوغندا وكينيا)، ودولتي المصب (مصر والسودان).
وتصر دول المنبع على تقسيم المياه بين جميع دول الحوض بالتساوي، في حين تصر مصر والسودان على حقوقهما المائية المنصوص عليها في جميع الاتفاقيات الموقعة بين دول الحوض منذ عام 1800، بدءاً من اتفاقية أديس أبابا عام 1902، إلى اتفاقية أوغندا عام 1929، وصولاً لاتفاقية 1959 التي أعطت لمصر حصة قدرها 55.5 مليار متر مكعب من مياه النهر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان، من إجمالي كمية المياه الواصلة عند أسوان. وإضافة إلى الدول التسع السابقة، يضم حوض النيل إريتريا التي تعتبر عضواً مراقباً.
وفي البيان الختامي الصادر عن اجتماعات وزراء دول حوض النيل العشر الذي اختتم أعماله في شرم الشيخ يوم 14 إبريل 2010، أكدت دول المنبع السبع السير قدماً بمفردها في توقيع "اتفاقية الإطار المؤسسي والقانوني لمبادرة حوض النيل" اعتباراً من 14 مايو/ أيار 2010، وأن إجراءات التأسيس ستستمر لمدة عام. وأمام تعنت واضح من الحكومة الإثيوبية ورغبة في تنفيذ مخطط بناء السدود الكبرى على النيل الأزرق الذي تعتمد فيه مصر على 86 في المائة من حصتها المائية التي تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب، لم يجد المفاوض المصري حتى الآن سوى الجلوس على طاولة المفاوضات. وكما يقول وزير ري مصري سابق شارك في المفاوضات مع إثيوبيا، فإن المفاوض الإثيوبي "يتسم بالعناد الشديد، كما أنه يشك في الآخر، وعدائي إلى حد كبير، ومن الصعب إقناعه، ولا يثق بالآخرين بسهولة".
ووفق المصدر ذاته، فإن الأزمة ليس لها علاقة بثورة يناير، إذ بدأت مبكراً وقبل يناير 2011 بوقت طويل، حيث "شهدت العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا في عهد الرؤساء السابقين لمصر توترات كثيرة، بعضها لأسباب سياسية وأمنية، ففي عهد الرئيس أنور السادات، بسبب اعتراض إثيوبيا على مد مصر مياه النيل إلى سيناء، وفي عهد حسني مبارك، بسبب تعرضه لمحاولة اغتيال هناك، ومحمد مرسي، بعد إذاعة جلسات الحوار الوطني الذي عُقد لمناقشة أزمة السد على الهواء، وتلويح بعض الحاضرين لإمكانية هدم السد.
وبلغت قمة التوتر السياسي بين مصر وإثيوبيا، حينما أعلن الرئيس الراحل أنور السادات عزمه على مد مياه النيل إلى سيناء عام 1979 لاستصلاح 35 ألف فدان، ما أثار غضب وثورة إثيوبيا، التي عارضت المشروع بشدة، وقدمت شكوى رسمية ضد مصر عام 1980 إلى منظمة الوحدة الأفريقية. من جهته، وجّه السادات تحذيراً شديد اللهجة إلى إثيوبيا إذا حاولت المساس بحقوق مصر في مياه النيل، وقال نصاً: "إذا حدث وقامت إثيوبيا بعمل أي شيء يعوق وصول حقنا في المياه بالكامل، فلا سبيل إلا استخدام القوة".
وفي أوائل التسعينيات، تجدد الأمر بإعلان إثيوبيا عزمها على الاستمرار في خططها التنموية لمواردها من مياه النيل، وإقامة ما تحتاج إليه في ذلك من سدود، مؤكدة عدم وجود أي قوة على وجه الأرض يمكن أن تمنعها. هذا الإعلان دعا الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك إلى التهديد بقصف إثيوبيا إذا أقامت أي سدود على النيل، لتهدأ الأمور بين الدولتين بتوقيعهما إطار التعاون سنة 1993 وبدء انضمام أديس أبابا إلى أنشطة التعاون المشترك في إطار حوض النيل ومشاركتها فيه بفعالية. لكن سرعان ما تعقدت الأمور بين الدولتين، لتحدث القطيعة بعد تعرض مبارك لمحاولة اغتيال في العاصمة الإثيوبية في يونيو/ حزيران عام 1995. وأعلنت إثيوبيا بعد ثورة 25 يناير 2011، وتحديداً بعد اندلاع الثورة بـ68 يوماً، وضع حجر الأساس لسدّ النهضة في الثاني من إبريل 2011 في عهد رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي.