سد "النهضة" يعود للواجهة من بوابة تنافس السيسي وأحمد

25 اغسطس 2019
يدخل السد مرحلة التشغيل في ديسمبر 2020(زاكارياس أبوبكر/فرانس برس)
+ الخط -
يبدو أن فترة التهدئة والغزل بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، قد انتهت، على وقع النجاح الذي حققه أحمد في الساحة السودانية من خلال رعاية اتفاق إصدار الوثيقة الدستورية وتشكيل المجلس السيادي، الذي ظلّت مصر تعرقله طويلاً لصالح استمرار المجلس العسكري في إدارة شؤون السودان لفترة أطول، قبل أن تلتحق متأخرة بتلك الجهود التوفيقية في الأشواط الأخيرة لحفظ ماء الوجه والتأكيد على موقعها كرئيس للاتحاد الأفريقي، والذي أثبتت الأزمة السودانية هشاشته في مقابل الدور الكبير الذي اضطلعت به دولة المقر، إثيوبيا، في التقريب بين المجلس العسكري والمعارضة. هذه الحساسيات التي ضربت بجذورها في العلاقة بين السيسي وآبي أحمد، تحوّلت مع مرور الأسابيع الماضية إلى حالة من الندية، عززها أكثر غياب السيسي لأسباب أمنية عن حضور مراسم توقيع الاتفاق النهائي للإعلان الدستوري في السودان وإنابته شخصية غير معروفة تقريباً للأوساط الأفريقية هو رئيس وزرائه المغمور مصطفى مدبولي، في مقابل الحضور الطاغي لآبي أحمد والاحتفاء الكبير به من السودانيين وقادة أفريقيا وممثلي المنظمات الدولية الحاضرين والتصفيق المستمر له تحية على جهوده في تسوية الأزمة.

وبعد انقضاء هذا الفصل من العلاقة بين مصر وإثيوبيا والسودان، على هذا النحو من ارتفاع أسهم أديس أبابا واضطراب الرؤية في ما يخص علاقة مصر بالأفرقاء السودانيين، ستعود الدول الثلاث مرة أخرى إلى الأزمة المتعلقة بسد النهضة، والتي تخشى مصر فيها عودة التنسيق السوداني الإثيوبي ضد مصالحها، وخصوصاً أنها تشعر بأن آبي أحمد لم يقدّم شيئاً منذ صعوده إلى السلطة قبل عام ونيف إلا إهدار المزيد من الوقت لتمكين بلاده من التفاوض على خلفية واضحة من المعلومات والبيانات عن حجم الإنجاز الذي تم في بناء السد حتى الآن، خصوصاً بعد التغييرات التي طرأت على إجراءات وعقود المقاولات والشراكة مع الشركات الأجنبية العاملة في السد وتنحية شخصيات وشركات بعينها من إدارة المشروع نظراً للتأخير الذي عانى منه لسنوات.

وانعكس هذا الغضب المصري في البيان الصادر يوم الخميس الماضي من مجلس الوزراء بشأن اجتماع اللجنة العليا لمياه النيل، إذ كانت المرة الأولى التي تعلن فيها مصر عن تذمرها من "استغراق المفاوضات مدة زمنية طويلة من دون التوصل إلى اتفاق". وكان السيسي قد صرح مطلع عام 2018 أنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سد النهضة" بعد اجتماع في أديس أبابا مع نظيره السوداني عمر البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ميرام ديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي، مخالفاً بذلك كل التصريحات الرسمية المصرية التي أبدى فيها المسؤولون قلقهم وغضبهم من انسداد المسار التفاوضي، وميل الخرطوم لمواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي، في ظل استمرار أعمال بناء السد التي وصلت إلى 65 في المائة بحسب المسؤولين الإثيوبيين، وصولاً إلى صدور تصريح من وزير المياه الإثيوبي في يناير/ كانون الثاني الماضي بدخول السد مرحلة التشغيل الكامل في ديسمبر/كانون الأول 2020.

وفي يونيو/حزيران 2018، تبادل السيسي وآبي أحمد، وكلاهما عمل في الاستخبارات فترة طويلة من عمرهما، العبارات الدافئة خلال زيارة الأخير إلى القاهرة، وبدا المشهد كاريكاتورياً عندما طلب السيسي من أحمد، بصيغة أبوية لافتة ومتعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.

وبدأت القاهرة وأديس أبابا منتصف 2018 مباحثات بشأن المشروع الذي سبق واتفق عليه السيسي مع ديسالين لإنشاء منطقة حرة صناعية مصرية في إثيوبيا، على غرار المناطق الحرة الصينية هناك، وتم الاتفاق على توسيع أعمال شركة "المقاولين العرب" الحكومية وكذلك شركة "السويدي للكابلات"، وكلاهما تعملان في مجال المقاولات والإنشاءات المعمارية، فضلاً عن دخول عدد من الشركات الحكومية والتابعة لجهات سيادية السوق الإثيوبية في مجالات تصنيع الأخشاب والحديد والصلب والمعادن. لكن كل هذه المشاهد الإيجابية في طريقها للتبدد على وقع ظهور صورة مختلفة لإثيوبيا تحت حكم أحمد الذي أثبت ثقله المحلي والإقليمي الاستثنائي قياساً بأسلافه وحتى زعماء القارة الحاليين.

وقالت مصادر دبلوماسية مصرية، لـ"العربي الجديد"، إن السيسي يصر على أن ينتزع تفوّقاً من أحمد على نحو سريع لإثبات جدارته في إدارة هذا الملف، بدافع من القلق من المستقبل وبدافع من التنافسية أيضاً، ولذلك بدأت المخابرات المصرية في التواصل المكثف مع نظيرتها السودانية ومع شخصيات فاعلة في المجلس السيادي، على رأسها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي يعتبر الحليف الأبرز للسيسي في السودان، وذلك بغية استمالة الخرطوم للمطالب والمقترحات المصرية كاملة بعد العودة لطاولة التفاوض. مع العلم أن السودان لن يتحمل ضرراً كبيراً بأي شكل من سد النهضة، فيما كان الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قد طوّر تعاونه مع السيسي في هذا الملف قبل أشهر قليلة فقط من الثورة السودانية، بعد سنوات من المماطلة والوقوف إلى جانب إثيوبيا.

ووفقاً للمصادر، فإن الاجتماع السداسي المقبل الذي طالبت مصر بعقده بين وزراء المياه والخارجية في البلدان الثلاثة منتصف سبتمبر/أيلول المقبل، ستتمسك مصر فيه بحسم موقف إثيوبيا من مقترحها الفني بشأن عدد سنوات ملء الخزان الرئيسي للسد، والتي تُعتبر حتى الآن المشكلة الرئيسية بين القاهرة وأديس أبابا، والتي كان يرغب السيسي في انتزاع وعد من آبي أحمد بألا تقل عن 7 سنوات، في بداية العام الحالي، لكن هذا لم يحدث. وكان المفاوضون المصريون ينصحون بتبنّي مطالبات أكثر راديكالية بألا تقل سنوات الملء الأول عن 15 عاماً، وأن يتم وضع آلية فنية مشتركة بعيداً عن الوزراء والاستخبارات في الدول الثلاث، بإشراف مكتب خبرة أجنبي متفق عليه، لتحديد حجم الملء ونسبته عاماً بعام، لضمان عدم تضرر مصر من انخفاض منسوب المياه.

وكانت المصادر قد رجحت لـ"العربي الجديد" قبل شهر أن يشهد الصيف الحالي اجتماعاً واحداً على الأقل بحضور وزراء الخارجية والمياه في الدول الثلاث، على أن تكون الأولوية لحسم مشكلة ملء الخزان، لكن المصادر تعود الآن وتتوقع ألا تتفاعل إثيوبيا بإيجابية مع الدعوة المصرية الجديدة، إما بالمطالبة بالتأجيل أو تغيير أجندة الاجتماع، أو التهرب من حسم مسألة فترة الملء الأولى.

ويأتي هذا الاضطراب بعد فشل ما يُسمى "المجموعة الوطنية المستقلة للدراسات العلمية" التي شكلت بصورة سرية من 15 عضواً، بواقع 5 ممثلين لكل دولة، وتختص المجموعة بتقديم توصيات علمية لتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث حول عملية ملء الخزان، واستغلال الموارد المائية المشتركة في تنمية الدول الثلاث وفق معايير عادلة، والتأكد من عدم انعكاس عملية ملء الخزان بالضرر على أي طرف، إذ لم يتم حتى الآن البت في الملاحظات التي أبدتها الدول الثلاث على توضيحات الاستشاري الفرنسي في تقريره بشأن الآثار الاجتماعية والاقتصادية على دولتي المصب.

وتتمسك مصر بحسم مشكلة فترة الملء الأولى استناداً للمعلومات الواردة من إثيوبيا عن اقتراب نسبة البناء العامة في السد إلى 70 في المائة وتوقعات بلوغها 75 في المائة نهاية العام، وأن الأعمال الكهروميكانيكية تقترب من 30 في المائة بعدما كانت لم تبدأ حتى بداية العام، وذلك بعد انضمام عدد من المستثمرين الفرنسيين والصينيين إلى المشروع والاتفاق على تزويد السد بـ11 وحدة توليد طاقة ستبدأ بعضها في العمل العام المقبل 2020، الأمر الذي يؤكد أن إهدار المزيد من الوقت ليس في مصلحة مصر.

المساهمون