بعد مناظرتين متتاليتين، على مدى يومين، شارك فيهما 20 مرشحاً ديمقراطياً، يمكن القول إن المنافسة بينهم على الفوز بالترشيح الحزبي للرئاسة دخلت طور التبلور. ومن لا يتغير تأييده بعد هذه الجولة 1 أو 2 في المائة، أصبح بحكم المنسحب خلال الفترة المقبلة. وستقام المناظرة المقبلة أواسط سبتمبر/أيلول المقبل وستكون شروط المشاركة أكثر صرامة. ولن يتأهل إلا عشرة مرشحّين. وسيجرى أول تصويت في الانتخابات التمهيدية في ولاية أيوا في 3 فبراير/شباط 2020.
حتى الآن يبدو أن 5 مرشحين، وفي أحسن الأحوال 7، باقون على الساحة حتى انطلاق انتخابات التصفية الحزبية مطلع العام المقبل. ويتقدم هؤلاء نائب الرئيس السابق جو بايدن، الذي صمد في المناظرة الثانية، محتفظاً بالموقع الأول على باقي المتسابقين، ليس لأنه يمتلك مواصفات القيادة، بل لأنه لا يوجد بين منافسيه من هو أكثر كفاءة منه. ومن المتوقع، في ضوء ثبات رصيده، كما كشفت استطلاعات الرأي، أن يحتفظ بالصدارة، إلا إذا تواصل صعود أسهم أحد منافسيه، أو إذا ظهر أنه لا يستطيع مواجهة الرئيس دونالد ترامب، ما يفرض المجيء بمرشح إنقاذ بدلاً منه.
وبحسب استطلاعات الرأي بين الناخبين الديمقراطيين فإن بايدن لا يزال متقدماً على أقرب منافسيه بأكثر من 10 نقاط، ومتفوقاً على ترامب بنفس الرقم، 49 مقابل 39 في الساحة الأميركية. وبعد المناظرة الأولى، الشهر الماضي، هبط رصيد بايدن بسبب تضعضع أدائه، لكنه سرعان ما استعاده على أرضية أنه يتمتع بـ"الأفضلية" من جانب الناخب العادي. فهو يملك تجربة غنية في عالم القرار: 36 سنة في مجلس الشيوخ، تولى خلالها رئاسة لجان مهمة، مثل العلاقات الخارجية والعدل، ثم قضى بعدها 8 سنوات كنائب رئيس. ولأنه محسوب على خط الوسط المعتدل في الحزب، تمكن بايدن من استقطاب أصوات قطاعات واسعة من المحايدين والمستقلين الذين يشكلون نحو 40 في المائة من الجسم الانتخابي، والذين يمسكون عادة بمفتاح الفوز بالرئاسة. كما أنه يتمتع بتأييد واسع ووازن في صفوف الأميركيين السود وأقليات أخرى مالت إلى الحزب الديمقراطي رداً على سياسات ترامب حيالها.
لكن بايدن لديه نقاط ضعف، ليس فقط تقدمه في السن، بل أيضاً عليه مآخذ، منها شخصية جرى التذكير بها أخيراً، ومنها سياسية تعود إلى يوم كان في مجلس الشيوخ، ومنها ما لا يخلو من العنصرية والتمييز. وبادر بايدن، في المناظرة أول من أمس، إلى مهاجمة إحدى أبرز منافساته كامالا هاريس، على خلفية مواقفها في ما يتعلّق بالرعاية الصحية، قائلا "لنكن صريحين، لا يمكنك التغلّب على دونالد ترامب مع ازدواجية خطابك على هذا الصعيد". وردّت هاريس على هجومه بالعودة إلى الموضوع الذي شكل محور المواجهة بينهما في المناظرة السابقة: علاقاته قبل عقود بأعضاء من الكونغرس دعوا إلى الفصل العنصري. وقالت "لو تمكّن دعاة الفصل العنصري هؤلاء من فرض آرائهم لما أصبحت سناتوراً اليوم"، مضيفة "ولما كان باراك أوباما قادراً على تسميتك" نائباً له.
وانتقد السناتور كوري بوكر نائب الرئيس السابق الذي تولى منصب سناتور على مدى 36 عاماً لمشاركته في "كل القوانين الجنائية" منذ سبعينيات القرن الماضي، والمسؤولة عن توقيف ملايين الأميركيين. وقال بوكر "في السجون اليوم أشخاص محكومون مدى الحياة" بسبب هذه القوانين، مضيفاً "لا نتكّلم عن الماضي، نحن نتكلّم عن الحاضر". كذلك هوجم بايدن لرفضه وقف الملاحقات بحق من يدخلون بصورة غير شرعية للبلاد عبر الحدود المكسيكية. ورد بايدن "يجب أن نكون قادرين على طرد الذين يدخلون بصورة غير شرعية. إنها جريمة"، لكنّه أقر بأنه ارتكب "خطأ في التقدير" بتأييده غزو العراق في العام 2003.
وقد تسبب نبش هذه الأمور بهبوط رصيد بايدن، خصوصاً بعد المناظرة الأولى. ومع أنه استعاد تقدمه عشية الثانية، إلا أن السيناتور المرشحة أليزابيث وارن تمكنت من الزحف وبثبات إلى المرتبة الثانية، وباتت تهدد بالمزيد من التقدم، ما مكنها من تجاوز السيناتور بيرني ساندرز الذي يعتبر رمزاً لليسار الليبرالي، والسناتور كامالا هاريس التي سجلت نقاطاً قوية ضد بايدن في المناظرة الأولى، ولم تتزحزح عن هذه المرتبة في الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي جعل خطرها على بايدن حقيقياً. وأجبرت كامالا، في المناظرتين، الجميع على الاعتراف بها، إذ إن طروحاتها متماسكة وذات صدقية ولاقت التجاوب من شرائح واسعة من قاعدة الحزب الديمقراطي، وساعدها في ذلك تشديدها على وجوب البدء بإجراءات عزل الرئيس، ما عزز وضعها، خصوصاً لدى اليسار الديمقراطي. لكن مشكلتها أنها محسوبة على الخط "الاشتراكي" وصاحبه بيرني ساندرز. ومع أن التصنيف مبالغ فيه ومسلوخ عن سياقه، إلا أنه يستخدم ضدهما كفزاعة تثير مخاوف الناخب الأميركي.
في البداية برز ساندرز كمنافس رئيسي لبايدن، لكنه عاد وتراجع لتحل وارن مكانه. ومن غير المستبعد أن تستعيد حملة هاريس بعض الزخم. وبالرغم من قدرة الأربعة على منافسة ترامب، إلا أن بعض الدوائر المحسوبة على يسار الحزب الديمقراطي لا تخفي عدم اطمئنانها لقدرة أي منهم على هزيمة ترامب. فلا خيار في المعركة، المتوقع أن تكون شرسة، سوى الفوز، وعليه فإنها تحتاج إما إلى مرشح يتمتع بالقدرة على الرد بالمثل على الضربات وإما أن يكون من أصحاب الرصيد الذي لا تقوى زوابع ترامب عليه. وحسب هذا التصور، لا تتوفر هذه الشروط في المرشحين الديمقراطيين الأربع الأوائل، بايدن ووارن وساندرز وهاريس، وبالتالي لا بد من بديل عنهم، لأن الخسارة ضد ترامب "ليست خياراً". ومن الأسماء المطروحة ميشال أوباما، زوجة الرئيس السابق التي يستبعد العارفون احتمال خوضها معركة الرئاسة.
ما زال موعد الانتخاب على بُعد 460 يوماً، وقد تحصل تطورات ومستجدات كثيرة تقلب الحسابات والموازين. وحتى ذلك الحين تبقى الساحة مفتوحة للتقديرات والتكهنات واستطلاعات الرأي.