تمكّن رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، خلال عامين فقط من بدء تحقيقات الشرطة معه حول شبهات الفساد في ثلاثة ملفات مختلفة، من تجنيد الرأي العام الإسرائيلي ضد الإعلام وأجهزة تطبيق القانون في إسرائيل (الشرطة والجهاز القضائي) بما يخدم موقف نتنياهو ضد ملفات الفساد ضده. وتمكّن نتنياهو من إقناع اليمين بأن كل التهم الموجهة إليه (ثلاث تهم رئيسية هي بموجب المستشار القضائي أفيحاي مندلبليت لحكومة دولة الاحتلال: تلقي الرشوة، خيانة الأمانة العامة، والغش) ليست أكثر من ذرائع وستار تختفي خلفه مؤامرة من الإعلام واليسار وحتى جهاز القضاء ككل، لإنزال نتنياهو من المشهد السياسي وإسقاط حكم اليمين، فنتنياهو - بحسب دعايته الديماغوجية المثابرة - يعتبر أن المسّ به مسّ باليمين، وإسقاطه من الحكم إسقاطٌ لليمين ككل.
لكن نتنياهو الذي بدأ حربه ضد التحقيقات بعبارة "لن يكون شيء لأنه لم يكن هناك شيء من البداية"، وجد نفسه مضطراً مساء أمس الأول، إلى أن ينتقل بسرعة إلى مجال التنظير السياسي المناقض كلياً لأصول علم السياسة ومبادئ الديمقراطية المعروفة عالمياً منذ نظام "البولس" في اليونان واشتقاق مصطلح "الديمقراطية" من الكلمتين اليونانيتين، ديموس كراتوس، أي حكم الشعب. وهكذا أعلن نتنياهو في لقاء مع أنصاره مساء الأحد، أن "الحصانة" ركن من أركان الديمقراطية، ليضيف: خلال يومين سأقرر ما إذا كنت سأطلب تطبيق مبدأ الحصانة الجوهرية على الملفات الموجّهة إلي.
كان هذا التصريح مؤشراً واعترافاً صريحاً، عملياً من نتنياهو، بأن السبب الرئيسي للأزمة السياسية العميقة في إسرائيل، منذ أقرّ الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2018 الذهاب إلى انتخابات مبكرة، جرت في 9 إبريل/ نيسان الماضي، ثم تبعتها انتخابات ثانية في 17 سبتمبر/ أيلول الماضي، إصراره على تأمين ائتلاف حكومي يوافق أركانه على تمرير قانون جديد يضمن له الحصانة البرلمانية على غرار القانون الفرنسي، الذي ينص على عدم تقديم رئيس حكومة يزاول عمله للمحاكمة ما دام في منصبه.
وجاء إعلان نتنياهو أمس الأول لكون "الحصانة البرلمانية" ركناً أساسياً في النظام الديمقراطي، خلافاً لكل الأعراف، بفعل اضطراره إلى اتخاذ قرار نهائي حتى يوم غد الخميس، وهو الموعد الأخير، لتقديم طلب تطبيق الحصانة، وإلا فإنه ستُقدَّم لائحة الاتهامات الرسمية ضده بشكل فعلي، مع نزع الحصانة عنه، ليبدأ جدل حول موعد انعقاد المحاكمة بشكل فعلي، وهو آخر ما يريده نتنياهو في أوج معركة انتخابات ثالثة، وخصوصاً بعد فشله في تشكيل حكومة مرتين خلال هذا العام.
وإذا لم يكن هذا كافياً، فمن المقرر أن تبتّ المحكمة الإسرائيلية العليا، اليوم الثلاثاء، بالتماسات قُدّمت لها كي تبتّ بشكل واضح وقاطع ما إذا كان القانون الحالي، الذي يجيز لرئيس حكومة عادية البقاء في منصبه خلال محاكمته إلى حين صدور قرار قضائي نهائي، ينطبق على نتنياهو باعتبار الأخير رئيس حكومة انتقالية (حكومة تصريف أعمال)، وبالتالي سيكون على المحكمة أن تبتّ بالسؤال: "هل يمكن أن يفوض رئيس الدولة بعد الانتخابات، إذا كان الليكود الذي يتزعمه نتنياهو الحزب الأكبر بين باقي الأحزاب الإسرائيلية، إلى بنيامين نتنياهو تشكيل حكومة جديدة أم لا؟".
واستبق نتنياهو كل هذه الالتماسات، من خلال حملته الدعائية المتواصلة بأن ما يقرر هوية رئيس الحكومة في إسرائيل هو الانتخابات وقرار الناخب الإسرائيلي، وليس الإعلام (المنحاز بحسب ادعاء نتنياهو إلى اليسار) ولا أروقة القضاء، وهو الادعاء الذي عاد نتنياهو لتكراره أمس الأول، مع "اكتشافه" للمبدأ الجديد في الديمقراطية، كما يراها هو، بأن الحصانة ركن أساسي في النظم الديمقراطية، متجاهلاً بحسب ما قال خصومه أمس، أنه نسي أن الركن الأول في الديمقراطية هو مبدأ "المساواة أمام القانون".
وقد وجّه نتنياهو رداً رسمياً إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، تضمّن دعوته للمحكمة برفض الالتماس المقدّم لها الذي يطعن في أهلية نتنياهو لتلقي تفويض بعد الانتخابات لتشكيل حكومة بسبب لوائح الاتهامات الموجّهة إليه. وزعم نتنياهو في كتاب الرد أن بتّ هذه القضية ليس من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية، ولا من صلاحيات موظف حكومي مهما كان رفيع المستوى، مثل المستشار القضائي للحكومة، بل هو من صلاحية الناخب فقط.
ومع تزامن هذا الموقف وتصريحه بشأن جوهر الحصانة البرلمانية، مع إعلانه أنه سيبت في مسألة طلب الحصانة البرلمانية، بات واضحاً أن نتنياهو سيقدم طلبه بهذا الخصوص حتى الخميس من هذا الأسبوع، وأنه يسعى الآن إلى تمهيد الرأي العام الإسرائيلي، وتحديداً أنصاره من اليمين، لاعتماد موقفه من الحصانة، ومواجهة الادعاءات ضده، بأنه كان يجب عليه التمسك بموقفه المعلن خلال المعركة الانتخابية السابقة، بأنه لن يطلب الحصانة البرلمانية، ولن يختبئ خلفها، وأنه سيواجه المحكمة لإثبات براءته من التهم المنسوبة إليه، على اعتبار "أنه لن يكون هناك شيء، لأنه لم يحدث شيء أصلاً".
لكن اتجاه نتنياهو لطلب الحصانة البرلمانية لا يعني بالضرورة حصوله عليها، على الأقل في الوضع الحالي للخريطة الحزبية، إذ يملك خصوم نتنياهو من قائمة "كاحول لفان" أغلبية في اللجنة المنظّمة للكنيست المخوّلة البتّ بطلب نتنياهو والدعوة إلى انتخابات لجنة خاصة للتصويت على طلب الحصانة. وقد سبق أن أعلن رئيس اللجنة المنظمة لعمل الكنيست، عضو الكنيست أفي نيسكورن، من حزب "كاحول لفان"، أنه يعارض وحزبه مبدئياً منح نتنياهو حصانة برلمانية، وبالتالي فقد يضع عراقيل أمام حصول نتنياهو على الحصانة. في المقابل، إن كون رئيس الكنيست يولي إدلشتاين، من حزب "الليكود"، من شأنه أن يمنحه صلاحية الإيعاز بتشكيل لجنة كنيست، أو تأجيل وإرجاء البت في هذا الملف، إلى ما بعد انتخابات شهر مارس/آذار المقبل، أملاً بأن تفرز الانتخابات المقبلة موازين قوى جديدة داخل البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" تمكّن الأحزاب المؤيدة لنتنياهو من الحصول على أغلبية 61 صوتاً لتشكيل ائتلاف حكومي جديد، يوفر لنتنياهو الحصانة المطلوبة، على الأقل خلال شغله لمنصب رئيس الحكومة.
إلى ذلك يواجه نتنياهو، للمرة الأولى تقريباً هذا العام، موقفاً عاماً مناهضاً لمنحه حصانة كاملة. فبحسب استطلاع أجرته القناة الإسرائيلية العامة، ونشرت نتائجه رسمياً مساء الأحد، أتضح أن 51 في المائة من الإسرائيليين يعارضون منح نتنياهو حصانة برلمانية، من جهة، وتوقعات بأن تفرز الانتخابات الثالثة، موازين القوى الحالية نفسها، بحيث لا يستطيع أي من الحزبين الكبيرين، سواء "الليكود" بقيادة نتنياهو، أو حزب "كاحول لفان" بقيادة الجنرال بيني غانتس، تشكيل ائتلاف حكومي يتمتع بأغلبية تفوق ستين عضواً من أصل 120 عضواً في الكنيست الإسرائيلي. بانتظار ما ستتمخض عنه الانتخابات، سيكون على نتنياهو اليوم اجتياز عقبة المحكمة الإسرائيلية العليا، عبر التعويل على قرار قضائي بعدم التدخل في مسألة أهليته لتشكيل الحكومة العتيدة بفعل ملفات الفساد ودحرجة هذا الملف مجدداً باتجاه رئيس الدولة المكلف بحسب القانون، بتكليف رئيس الحزب الأكبر الذي يحصل على أكبر عدد من توصيات النواب لتشكيل حكومة جديدة.