استراتيجية السلطة في العراق لمواجهة التظاهرات: المليشيات تتولى مهمة الترهيب
تقابل تراجع وتيرة استخدام قوات الأمن العراقية لقنابل الغاز والرصاص الحي منذ نحو أسبوعين في بغداد وجنوب ووسط البلاد، ضمن أسلوبها التقليدي في مواجهة التظاهرات التي تدخل شهرها الثالث، وسائل قمع أخرى لا تضطلع بها أي من الأجهزة الأمنية المرتبطة بالحكومة، بل تتولاها مليشيات وجماعات مسلحة، بات المتظاهرون يطلقون عليها عبارة "الطرف الثالث"، في إشارة منهم إلى الجهات المسلحة في العراق المرتبطة بإيران، والتي اتخذت منذ اليوم الأول للتظاهرات موقفاً معادياً لها، تماشياً مع النظام في إيران الذي اعتبرها أعمال شغب، وطالب حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة بمواجهتها.
وتسجّل بلاد الرافدين أطول حركة احتجاجات سلمية تشهدها منذ عقود، بوجه السلطات المتّهمة بالفساد والتسبب بتفاقم معدلات الفقر والبطالة وانهيار الخدمات، وترسيخ التفرقة الطائفية داخل المجتمع العراقي، عبر سياسة المحاصصة في الحكومة ومؤسساتها المختلفة، والعملية السياسية ككلّ.
ويقول ناشطون عراقيون في بغداد وجنوبي البلاد، إن وتيرة القمع والمواجهة العنيفة للسلطات الأمنية تراجعت، لكن برزت الاغتيالات، وعمليات الخطف، ورسائل التهديد أخيراً، كوسيلة قمع جديدة تنفذها مليشيات مسلحة مرتبطة بإيران، خلّفت عشرات القتلى والمصابين والمختطفين في أقل من أسبوعين في صفوف المتظاهرين، تصدّرت العاصمة بغداد وميسان وذي قار وكربلاء، واجهة تلك العمليات العدائية ضد الناشطين بالتظاهرات، ولم تقدم السلطات لغاية الآن أي معلومات عن الجهات التي تقف وراءها.
ويقول عضو لجنة تنسيقية داخل ساحة التحرير ببغداد يدعى أحمد عباس، لـ"العربي الجديد"، إن القنابل اختفت وظهرت "الكواتم"، في إشارة إلى عمليات الاغتيال التي تطاول الناشطين بين يوم وآخر بواسطة مسدسات كاتمة للصوت. ويضيف: "تصل رسائل لمتظاهرين ناشطين على هواتفهم وآخرين شفوياً إلى منازلهم، وقسم منهم استجاب للتهديد وتراجع عن التظاهر، فيما يجد الآخرون أن بقاءهم في ساحة التحرير أكثر أمناً لهم من الخروج منها، لذلك هم يغيرون طرق ذهابهم إلى منازلهم من أجل الاستحمام أو تغيير ملابسهم".
ويتابع: "هذا قمع المليشيات. هي من تتولى الآن مواجهة التظاهرات السلمية بالاغتيال، والخطف، والتهديد، وكذلك تشويه سمعتها عبر القنوات التي تمولها إيران في العراق، وهي بالعشرات".
وفيما تخطت أرقام أعداد ضحايا القمع في ساحات التظاهر حدود الـ 520 قتيلاً، ونحو 22 ألف جريح بحسب مصادر غير رسمية، بلغت حصيلة عمليات الاغتيال 29 حالة، وفقاً لمسؤول رسمي في مفوضية حقوق الإنسان العراقية.
وقال عضو المفوضية، علي البياتي، في تصريح له قبل أيام عدة، إن "29 حالة اغتيال طاولت ناشطين منذ انطلاق موجة الاحتجاجات مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقعت 13 منها في بغدد"، مؤكداً "وقوع ثلاث محاولات اغتيال غير ناجحة". وأشار إلى أن "السلطات الحكومية لم تلقِ القبض حتى الآن على أي من الجناة"، داعياً وزارة الداخلية إلى "وضع حد لتلك العمليات".
ولم تكن الإحصائية التي أعلنتها المفوضية، نهائية، بعدما سُجّلت بعدها حوادث عدّة، بينما يؤكد ناشطون حقوقيون أن جرائم الاغتيال والخطف والتهديد، هي الأخطر والأشد تأثيراً على التظاهرات من عمليات القمع داخل الساحات، محدّدين مسارَين لتلك العمليات.
ويقول عضو "التيار المدني العراقي" فاضل الصرّاف إن "مراحل قمع التظاهرات تعدّدت وبعضها خبيثة استخدمتها الحكومة، ونحن الآن أمام أكثرها خطورة، وهو عمل عصابات ضد المتظاهرين، والحكومة تتحمل مسؤولية التفرج على جرائم قتل المتظاهرين على يد تلك العصابات". ويتابع: "نحتاج إلى أن نكون أكثر وضوحاً، وأن نقول إن إيران تتولى بشكل أو بآخر عمليات مواجهة التظاهرات في العراق".
وكان نائب رئيس الوزراء العراقي السابق، والقيادي في "التيار الصدري" بهاء الأعرجي، قد أوضح قبل أيام في لقاء مع محطة تلفزيون عراقية، أن جهات غير عراقية أدارت الملف الأمني خلال التظاهرات، مبيناً أن "مشكلة العراق لا تكمن بالنظام السياسي، وإنما بشخوص هذا النظام"، محذراً من أن "وجود العراق كدولة بات مهدداً".
ويشير إلى أن الشعب العراقي يدفع حالياً ثمن الصراع الأميركي الإيراني عبر ممارسات عدة، كان آخرها استهداف المواقع الأميركية بقرار غير عراقي، عبر أدوات عراقية.
من جهته، يوضح الناشط والحقوقي العراقي البارز، سنان العزي، لـ"العربي الجديد"، أن "الإحصائيات التي تصدر بين يوم وآخر أقل من الواقع، فهناك عمليات طعن واغتيال بالسلاح، وخطف، وترهيب، وتهديد على مدار اليوم بالعراق"، مبيناً أن "المتظاهرين اليوم يواجهون مع عمليات الاغتيال والخطف، حملات تشويه واتهامات وتلفيق تهم ورسائل تهديد عبر الهاتف، وهي أخطر من عمليات القتل داخل ساحات التظاهر، كون منفذيها أشباحاً يطاردون الناشطين بالخفاء".
ويشير إلى أن "استراتيجية إنهاء التظاهرات تسير بمسارين أحدهما مكمل للآخر، حتى وإن قلنا إن الجهات المنفذة مختلفة، لكن يجمعها هدف واحد هو إنهاء التظاهرات"، موضحاً أن "القمع الأمني داخل ساحة التظاهر هو المسار الأول، وقد خفّ إلى أدنى مستوياته في الأيام الأخيرة، مقابل تصاعد مسار الخطف والاغتيال، خارج الساحات، الأمر الذي يؤشر إلى مسلسل ممنهج تواجهه التظاهرات".
ويؤكد أن "المشهد يزداد ضبابية في ظل الصمت الحكومي والتجاهل التام، من قبلها، وهي ما زالت تتحدث عن منفذين مجهولين لتلك العمليات، في وقت لا نعلم شيئاً عن التحقيقات التي تُجرى بهذه الجرائم، في حال وجدت، كما أن البرلمان لم يتخذ أي خطوات"، مؤكداً أن "الجميع يدركون أن الجهة المنفذة هي مليشيات مرتبطة بأحزاب لا تريد استمرار التظاهرات، لكن عدم وجود تحقيقات يجعل من الحكومة شريكة بتلك الجرائم".
ويشير إلى أن "الصمت الحكومي يضعها في دائرة المساءلة القانونية، كونها لم تأخذ أي دور لإنهاء تلك الجرائم".
وعلى الرغم من التحذيرات من خطورة هذا المشهد الإجرامي، وتدخّل الأمم المتحدة ودعوتها الحكومة والبرلمان إلى أخذ دورهما إزاء ذلك، لم يكن للبرلمان العراقي دور، خلال الفترة السابقة، تجاه تلك الانتهاكات، سوى مطالبات خجولة للتحقيق بها.
ووقّع أخيراً 47 نائباً طلباً قدموه لرئاسة البرلمان، لتشكيل لجنة موقتة للتحقيق بتلك الجرائم، والاستعانة بخبراء لكشف ملابسات الجرائم.
وقال النائب عن تحالف سائرون، رياض المسعودي، لـ"العربي الجديد": "نسعى لتشكيل لجنة مشتركة من لجنتي الأمن والدفاع، وحقوق الإنسان البرلمانيتين، ومن السلطة القضائية، لتأخذ دورها بالتحقيق وكشف تلك الجهات، لوضع حد لتلك الجرائم".
وحذر من "خطورة استمرار تلك العمليات، التي ستؤثر على سمعة العراق، في وقت لم يكن للحكومة أي دور بالتحقيق، وكانت وما زالت مقصرة بهذا الجانب"، مدافعاً عن البرلمان بالقول: "حراكنا هذا ليس متأخراً، والبرلمان سبق أن اتخذ خطوات وقرارات سريعة لحقن الدماء، وأسهم إسهاماً واضحاً بذلك".
وتعترف لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، بـ"عجزها" عن أخذ دورها الرقابي، والكشف عن الجهات التي تنفذ تلك الانتهاكات، بسبب هيمنة الكتل السياسية المسيطرة على البرلمان والمشهد السياسي العراقي.
وقال رئيس لجنة حقوق الإنسان البرلمانية أرشد الصالحي، في تصريح متلفز، إن "البرلمان ولجنة حقوق الإنسان عاجزان عن اتخاذ أي إجراءات بشأن تلك الانتهاكات، أو مساءلة أي مسؤول عنها"، مبيناً أن "الكتل السياسية تتحكم بالبلد، وتفرض إرادتها بقوة، وفي ظل وجود البرلمان الحالي الذي أفرزته انتخابات غير نزيهة، فإن الحقوق ضائعة ولا توجد قدرة على محاسبة الجهات التي ترتكب الانتهاكات".
وأكد أن "عمليات الاختطاف والاغتيال وغدر الناشطين لا يمكن أن تنتهي إلا عندما تكون هناك محاسبة شديدة مع السلطة الحاكمة بالبلد"، مبيناً أن "كل تلك الانتهاكات تحصل بوجود حكومة وسلطة تتذرع بأنها مستقيلة، لكن الاستقالة لا تعفيها من القيام بمسؤولياتها".
وحمّل الصالحي، الحكومة ورئيسها مسؤولية تلك الانتهاكات، مؤكداً أن "تصعيد واستمرار تلك الانتهاكات ليس من مصلحة الحكومة، وقد دعوناها لأن تكف عن قتل الناشطين"، محذراً الحكومة من "خطورة هذا النهج الخطير، إذ أن هناك أطرافاً دولية وأممية تجمع المعلومات، وستكون الحكومة أمام محاسبة دولية من المجتمع الدولي".
ولفت إلى أنه "لدينا وثائق تؤكد وجود مختطفين مغيبين، وقد بحثنا عنهم بالسجون ولم نحصل على أي معلومات عنهم".