على العموم يحمل تقييم عمل حكومة عبد الله حمدوك ظلماً في الكثير من الأحيان، ربما تتحمل هي جزءاً من مسؤوليته لأنها لم تضع سقفاً للآمال المعقودة عليها منذ البداية، مع علم رئيس الحكومة وأعضائها والعالم كله أن المطلوب بهذا القدر وبهذه السرعة من الحكومة، هو أمر غير واقعي بتاتاً، ذلك أن السودان من بين أفقر بلدان العالم، وأحد أكثرها احتضاناً لحروب أهلية موزعة من الشمال إلى الجنوب فالشرق والغرب، ولأن المصائب المطلوب معالجتها جذرياً تحتاج ربما إلى عقود وإلى ورشة داخلية وعالمية يختلط فيها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. فبناء اقتصاد جديد لا يمكن لحكومة أن تنجزه بأشهر ولا بسنوات. والتخلص من فساد النظام السابق والأنظمة المتعاقبة منذ استقلال السودان، هو مسار تراكمي لا شك أنه سيستغرق العديد من السنوات. والتخلص من الحروب المزمنة وعداوات القبائل والنزاعات الدموية، هو أمر استغرق عقوداً وأحياناً أكثر في البلدان التي مرت بما يمر فيه السودان. أما اقتصادياً، فالحديث يدور عن بلد، فيه ثروات هائلة، لكنه من بين الأفقر في العالم، حتى أنه احتل المرتبة الأخيرة في قائمة الدول العربية في معدل دخل الفرد بـ720 دولاراً، طبقاً لتقرير صندوق النقد الدولي الصادر في عام 2019. كذلك فإن سرقة الذهب، المصدر الرئيسي للثروات الطبيعية لهذا البلد، بعدما خسر نفط الجنوب منذ 2009، والعقوبات الدولية المفروضة على السودان، جميعها تضع هذا البلد في لائحة الأكثر فقراً في العالم، بشكل يجعل من حمدوك ومن غير حمدوك عاجزين عن اجتراح المعجزات في ثلاثة أشهر أو ثلاث سنوات.
أولى شرارات ثورة ديسمبر كانت من مدينتين رئيسيتين، هما عطبرة وبورتسودان، ثم انتشرت بسرعة كبيرة في أكثر من 20 مدينة سودانية وعشرات القرى في الأيام اللاحقة. وانضمت الخرطوم إلى الثورة عبر موكب في 25 ديسمبر، دعا له "تجمّع المهنيين السودانيين"، الذي يضم نقابات معارضة لم يكن نظام البشير يعترف بها. وحقق موكب "تجمّع المهنيين" نجاحاً هو الأوسع طوال عهد البشير، ليواصل بعد ذلك دعوته لمليونيات جديدة. وفي الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، وقّع التجمّع مع 3 كتل أخرى ما عرف بـ"ميثاق الحرية والتغيير" ليمهد الطريق أمام تشكيل التحالف العريض الذي قاد الثورة بعد ذلك.
في 6 إبريل/نيسان الماضي، وصل الغضب ضد نظام البشير وحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم حينها، إلى ذروته، لا سيما مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وبعد التعامل العنيف مع المتظاهرين، والذي أدى إلى مقتل عشرات الأشخاص وإصابة المئات واعتقال الآلاف، فجاءت الاستجابة أكبر مما هو متوقع لمليونية أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية لمطالبتها بالتدخل وعزل رئيس النظام، وتسليم السلطة للشعب. فتحولت المليونية إلى اعتصام استمر لمدة 5 أيام، وعلى ضوء ذلك، أعلنت اللجنة الأمنية التي شكلها البشير، قرارها بعزله وحل مؤسسات الدولة وتجميد العمل بالدستور وذلك في 11 إبريل 2019، مع تشكيل مجلس عسكري برئاسة النائب الأول للبشير، الفريق أول عوض بن عوف. غير أن ما حصل لم يُرضِ الثوار، الذين زادت أعدادهم واستمروا في اعتصامهم، ما اضطر بن عوف للتنحي وإتاحة الفرصة لمجلس عسكري جديد برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
دخل المجلس العسكري في تفاوض مع تحالف "قوى الحرية والتغيير"، لتشكيل سلطة مدنية، لكنه وصل إلى طريق مسدود، حتى جاء يوم 3 يونيو/حزيران الماضي، وفيه أقدم المجلس العسكري على فض الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم، بكلفة أكثر من 100 قتيل، بعدها عُلّق التفاوض ودخلت البلاد في توتر شديد، لتستعيد الثورة بعدها زمام المبادرة من خلال حشد شارك فيه ما يقارب 10 ملايين سوداني ضد المجلس العسكري، الذي زادت الضغوط الدولية أيضاً عليه عطفاً على مجزرة فض الاعتصام، ما قاده إلى تقديم تنازلات كبيرة لـ"الحرية والتغيير"، خلال مفاوضات توسط فيها رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد والاتحاد الأفريقي، نتج عنها وثيقة دستورية وقعت في 17 أغسطس/آب، أقيمت بموجبها حكومة مدنية برئاسة عبد الله حمدوك.
ولكن بعد 3 أشهر على تشكيل هذه الحكومة، يزداد اقتناع العديد من الثوريين بفشلها في تلبية طموحات وتطلعات الثوار. معتز يوسف، واحد من شباب الثورة، شارك في كل مواكبها في ولاية الخرطوم، حتى تلك التي كانت تنظم داخل الأحياء، حتى سقط نظام عمر البشير في 11 إبريل الماضي. يوسف يشعر هذه الأيام، مع حلول الذكرى السنوية الأولى لاندلاع الثورة، بإحباط شديد وحزن وأسى، على عدم تحقيق الثورة كل أهدافها وما يعتبره اختطافاً لها من الفصيل السياسي في تحالف "الحرية والتغيير". يقول يوسف، لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة الحالية التي أنتجتها الثورة جاءت مخيبة لآمال الشعب السوداني، وشعارات الثورة الأساسية "الحرية والسلام والعدالة" لم يحدث فيها شيء، مستدلاً، بما سماه، تمثيلية محاكمة الرئيس المعزول عمر البشير الأخيرة، وعدم اهتمام الحكومة بمحاكمة قتلة ضحايا الثورة، ولا الاهتمام بقضية المفقودين المتورط في قضيتهم المكون العسكري في مجلس السيادة، والتي تدعي "الحرية والتغيير" بأنه شريك في التغيير. ويضيف أن الثورة مستمرة بكل زخمها، وسيفاجئ الشباب الثائر ولجان المقاومة الجميع في لحظة ما.
لكن آخرين يشعرون عكس ذلك وما زالوا يحتفظون بالأمل والتفاؤل، مثل محاسن عبدالله، التي شاركت في كل مواكب الخرطوم، وتم اعتقالها في 6 إبريل، وأصيبت في ظهرها وأجرت عملية جراحية نتيجة تعرضها للضرب بواسطة عناصر جهاز أمن البشير. تقول عبدالله، لـ"العربي الجديد"، إن الثورة حققت أهم هدف، وهو اقتلاع نظام البشير وإيداع رموزه السجن، وإن الآمال عريضة في الأيام المقبلة لتحقيق أهداف الثورة التي لا يمكن أن تنجز في ليلة وضحاها، مشيرة إلى أن أهم ما أنجز حتى الآن هو الحرية، وأنه بات بإمكانها أن تقول رأيها في أي مكان وأن تخرج في تظاهرات في أي وقت، مضيفة "نرى عدالة تنجز، وبدأ تقديم رموز النظام البائد للمحاكمات وزالت دولة الظلم والطغيان". وعن مدى رضاها عن تشكيل الحكومة، تقول عبدالله إنها راضية عن أدائها، عدا بعض الاستثناءات في وزارات لم ترتق إلى مستوى الثورة التي دفع الشباب ثمنها غالياً.
من جهته، يرى رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النيلين فتح الرحمن أحمد الأمين أن السودان دخل بعد نجاح الثورة في الانتقال من عهد الكبت إلى مرحلة الانفتاح في الحريات وظهور معالم الحكم المدني ما يحقق أهدافاً رئيسة للثورة. ويضيف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هناك إنجازات أخرى عديدة، منها الحراك الإيجابي الخارجي تجاه السودان، لافتاً إلى أنه خلال الـ20 سنة الماضية لم يمر عام من دون قرار دولي ضد السودان، أو عقوبات ضد تقرير سلبي، إلا هذا العام من الثورة، ما يعد مؤشراً إيجابياً حول صورة السودان في الخارج. ويشير إلى أن عام الثورة شهد أيضاً حراكاً إيجابياً داخلياً للرأي والرأي الآخر، وتراجع دور المؤسسات الأمنية في الحياة السودانية وتعدد موازين القوى.
في المقابل، فشلت الثورة، أو حكومة الثورة، في بعض الأجندات، وأهمها تحسين الواقع المعيشي والإصلاح الاقتصادي، عدا ظهور نزعات مناطقية لا سيما في شرق السودان، مع فشل تحالف "الحرية والتغيير" في هيكلة نفسه، وتأخير تشكيل البرلمان الانتقالي، والإخفاق حتى الآن في استرداد الأموال المنهوبة ومحاكمة الفاسدين. لكن القيادي في "الحرية والتغيير" كمال بولاد يعدد إنجازات الثورة، بدءاً بالحريات العامة، بدليل خروج أنصار النظام السابق في تظاهرة طالبت بعودة الرئيس المخلوع على الرغم من الأحكام الصادرة ضده بالفساد، مشيراً كذلك لإنجاز تشكيل حكومة انتقالية بتوافق وتفويض شعبي واسع، مع تشكيل لجنة للتقصي والاقتصاص لأرواح الضحايا. ويضيف بولاد، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما لم يتحقق هو استرداد الأموال المنهوبة ومحاكمة قتلة الضحايا وعلاج الأزمة الاقتصادية التي صنعها النظام الفاشي"، مشيراً إلى أن الأمل معقود على موازنة 2020 لتجاوز المشاكل الاقتصادية، مع أمل آخر بتحقق السلام في البلاد، وصولاً إلى تحول ديمقراطي يضع كل الجماهير أمام صندوق الاقتراع حتى يختاروا من يمثلهم.
أما رئيس تحرير صحيفة "مصادر"، القريب من دوائر حزب "المؤتمر الوطني" المنحل، عبد الماجد عبد الحميد، فيقول، لـ"العربي الجديد"، إن ما تحقق حتى الآن هو إزاحة الإسلاميين من السلطة بعد سقوط دولتهم، وإن كل الأحزاب السياسية وجدت نفسها أمام تحدي أجيال جديدة صنعت الثورة، ولديها رؤى واضحة حول التحول السلمي، لافتاً إلى أن أغلبية المواطنين على قناعة، بعد عام من اندلاع الثورة، بضرورة تسوية سياسية لإقامة نظام تداول سلمي للسلطة، من دون أن يكون هناك احتكار لها من أي حزب.