نجح الحزب "الدستوري الحرّ" بقيادة عبير موسي في شلّ حركة البرلمان 8 أيام، بغية فرض أجندته على الجميع، في خطوة هي الأولى من نوعها في تاريخ تونس. كان الأمر بمثابة عملية سياسية خطيرة خلطت الأوراق، وجذبت الرأي العام ووسائل الإعلام، وجعلت من موسي "نجمة" الفوضى التي فرضتها على السلطة التشريعية. قصة عبير موسي تعود إلى أيام الثورة (2011)، حين حاولت أن تتصدى للحكم القضائي القاضي بحلّ حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي أسسه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. يومها غادرت موسي قصر العدالة مكسورة وسط دعوات لرحيلها صادرة عن الكثير من زملائها والعديد من المواطنين. لم تستسلم ولم تيأس. أسست حزباً، واستفادت من الحريات الجديدة والتشريعات التي أسستها الثورة، وخططت لدخول البرلمان عبر خوض الانتخابات التشريعية الأخيرة. جنّدت أنصارها، وتجولت في البلاد طولاً وعرضاً، حتى أثارت مخاوف خصومها من الإسلاميين وغيرهم. كانت التقديرات تمنحها موقعاً متقدماً جداً، لكن مع ذلك حصدت 15 مقعداً نيابياً متمتعة بكتلة مستقلة.
ومع دخولها البرلمان عمدت موسي منذ اليوم الأول إلى استعراض قدراتها لتصبح اللاعب الرئيسي. خصمها الأساسي واضح، متمثّل في حركة "النهضة" والأطراف القريبة منها. عملت منذ افتتاح الدورة البرلمانية على إرباك المشهد حتى في لحظات أداء القسم والنشيد الوطني، لكنها أخفقت ولم تسايرها بقية النواب. وجاءتها فرصة ذهبية حين تدخلت النائبة عن حركة "النهضة" جميلة الكسيكسي، التي ارتكبت خطأً فادحاً عندما وصفت ممثلي الحزب "الدستوري الحر" بكلمات نابية. التقطت موسي الفرصة، وشرعت في شن هجوم مضاد، وقلبت الطاولة على الجميع.
أعلنت عن دخول كتلتها في اعتصام مفتوح إلى أن تقدّم كتلة "النهضة" اعتذاراً علنياً لأعضاء حزبها. كانت تعلم مسبقاً بأن خصومها لن يقبلوا بذلك بسهولة، وهو ما شأنه أن يمكنها من أن تستمر في التصعيد وخلق أجواء متوترة داخل البرلمان، مهددة بتعطيل الجلسة العامة الخاصة بميزانية 2020 التي كان يجب إقرارها قبل يوم أمس، الثلاثاء. ولم يتوقف الاعتصام الا بعد صدور ثلاثة بيانات عن مكتب مجلس النواب برئاسة راشد الغنوشي. رفضت موسي ذلك في البداية، لكنها تراجعت في النهاية وأعلنت نهاية الاعتصام.
موسي كانت من كوادر "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي تم حله بعد الثورة مباشرة. وهي معروفة بعنادها، حتى أن مؤسس الحزب "الدستوري الحر" حامد قروي تبرأ منها ولم يجاريها في أسلوبها بعدما تنازل لها عن الحزب. تغير الكثيرون إلا هي، حافظت على ولائها لبن علي حتى بعد وفاته. ترفض حتى اللحظة الاعتراف بالثورة، وبكل ما ترتب عنها من مؤسسات ودستور وانتخابات وموازين قوى جديدة، بل إنها مصرّة على إعادة المشهد العام في البلاد إلى ما كان عليه الأمر قبل 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
لا تعترف بالإسلاميين الذين ترى فيهم الخطر الرئيسي وتدعو إلى محاربتهم بلا هوادة، وفي مقدمتهم حركة "النهضة" التي تصف دائماً أعضاءها وأنصارها بـ"الإخوان المسلمين". تتوعدهم بإرجاعهم إلى السجون، وتتهمهم بالتآمر على الأمن القومي لتونس وتعتبرهم حركة إرهابية. وتحاول مواصلة المعركة الأيديولوجية والسياسية والأمنية الشاملة التي بدأها النظام القديم ضدهم. في هذا السياق لا تأخذ موسي بالاعتبار الحرية التي تتمتع بها هي وأنصارها بفضل الثورة وبفضل الديمقراطية التي نتجت عنها، والتي مكنتها من تأسيس حزب ومن خوض الانتخابات. فهي ترى في كل ذلك حق من حقوقها لا فضل لأحد عليها فيه.
أما اليوم فتعمل على تغيير النظام من داخله، أو على الأقل استغلال نقاط الضعف الكامنة في المنظومة الديمقراطية من أجل إظهار عجز الإسلاميين عن تسيير شؤون الدولة، وتحميلهم بالأساس مسؤولية الفشل المتراكم في تونس منذ الإطاحة بحكم بن علي. وتحاول في هذا السياق تأليب الرأي العام ضد حركة "النهضة" وقادتها وحلفائها، وتضع بقية الأطراف أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاصطفاف وراءها من أجل الإجهاز على الخصم المشترك، أو اتهامهم أمام الرأي العام بالخيانة في انتظار الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد خمس سنوات.