في عام 2018، برزت البصرة كأداة للتحكم بتظاهرات العراق، حين احتجت المدينة الأغنى للمطالبة بتوفير المياه والكهرباء وفرص العمل، وانتهت بالعنف المفرط بواسطة عناصر الأمن، وبأمر من حيدر العبادي رئيس الحكومة السابق. وقد عادت بغداد في أكتوبر/تشرين الأول الجاري إلى صدارة المدن العراقية لتصدير الحركات الاحتجاجية، والهتاف بنفس المطالب التي نادى بها متظاهرو عام 2011.
ولعلّ أهم ما يميز التظاهرات الجارية حالياً في بغداد والمدن الجنوبية، هي الفوضى، لأنه في الأعوام السابقة، كانت التظاهرات واضحة، تقودها تنسيقيات بعناوين صريحة، مثل الحزب "الشيوعي" أو "التيار المدني" أو "التيار الصدري". فيما حركة الاحتجاجات الحالية بلا قيادة أو خطة مسبقة للتظاهر؛ تأتي عفوية بلا مكان أو زمان محدّدين.
وشهدت المدن العراقية تظاهرات حزبية أخرى، إلا أن ما يحدث حالياً، هو أن التظاهرات تبدو خالية من رموز، وغير مؤمنة أصلاً بالعمل التنسيقي بين المتظاهرين، وتكتفي بالنزول إلى الشوارع، مهما كان شكل هذا النزول.
الثلاثاء الماضي كانت شرارة موسم التظاهرات الجديد لعام 2019، وقد بدأت من بغداد لتقمع خلال ساعات، ويذهب ضحية إطلاق الرصاص الحي على المحتجين قتيلان وقرابة 200 جريح، بحسب تصريح رسمي لوزارة الصحة، وليتسبب هذا القمع بشرارة أشعلت قش الجنوب، وبانتفاضة متظاهرين غالبيتهم من الطبقة الفقيرة والخريجين العاطلين عن العمل، الباحثين عن حياة كريمة وبيئة محترمة للاستمرار في بلادهم القديمة.
ميسان كانت أولى المدن التي تبعت بغداد، وتطور الغضب الشعبي إلى درجة لافتة، وقد وصفه مراقبون التظاهرات بأنها متسرعة وغير مسؤولة، حيث اقتحم شباب المدينة مبنى مجلس المحافظة (الحكومة المحلية)؛ ولحقتها الديوانية، وقد أحرق المتظاهرون مبنى الحكومة المحلية، ثم النجف وبابل والبصرة وذي قار، وفي كربلاء حوصر مبنى الحكومة دون حرقه.
وما زال المتظاهرون حتى الآن يواصلون حراكهم الاحتجاجي في سبيل حقوقهم التي يسعون إليها، مع استمرار قمع القوات الأمنية، وتحديداً قوات ما يُعرف بـ"مكافحة الشغب". ففي بغداد، تستمرّ حالة "الكر والفر" بين المتظاهرين في منطقة ساحة الطيران، والبتاوين، والسعدون منذ ثلاثة أيام، وتسعى القوات إلى تفريق المتظاهرين، إلا أن المحتجين، وعلى الرغم من سقوط ما لا يقل عن 44 قتيلاً حتى الآن، وأكثر من 1200 جريح، إلا أنهم على ما يظهر، عازمون على الاستمرار بالتظاهر، من دون أن يظهر من بينهم من يمثلهم أو يتحدث بمطالب واضحة لهم، مثل استقالة رئيس الوزراء أو انتخابات مبكرة في البلاد.
وفي نفس السياق، قال الباحث والمحلل السياسي عبد الله الركابي لـ"العربي الجديد" إن "الحكومة العراقية متمثلة برئيسها عادل عبد المهدي والشخصيات السياسية البارزة، فشلت في احتواء الأزمة، بل أثبتت وقوفها إلى جانب القمع وتجريم المتظاهرين الذين يطالبوا بغير الحقوق، حتى أن بعضهم، حين رفع شعار "إسقاط النظام" منعوه من الاستمرار، لأنهم يريدون بالأساس إسقاط الفساد، وهذا قمة الوعي الاحتجاجي، وإن المتظاهرين ليسوا مخربين، إنما شبّان ضاقت بهم الحياة وظلمتهم حكوماتهم".
ولفت إلى أن "العنف، الذي تسببت به القوات العراقية بضرب وملاحقة المحتجين، والذي اعترفت به غالبية المنظمات الحقوقية والانسانية وسفارات الدول الأجنبية في العراق، لم يدفع الحكومة إلى تصحيح سلوكها مع المحتجين، وهذا العنف لا يفرز غير العناد والإصرار على الاستمرار من قبل المحتجين".
ويقول عضو "التيار المدني" العراقي، رياض غريب إن التظاهرات الحالية لم يقودها المدنيون أو دعاة العراق المدني اللاديني، لكن على الرغم من ذلك، فإن الشعارات التي ردّدها المتظاهرون كانت ضد الأحزاب الدينية والطائفية والمحاصصة، وهذا يعني أن المطلب عراقي عام من الشارع ككل. ويضيف: "حتى البسطاء يرفضون حكم المحاصصة الطائفية بطريقة هذه لي وهذه لك، ويدعون لعراق مدني يعامل الناس بالمواطنة على بالطائفة".
وحول توقعات ما ستسفر عنه، قال: "عملياً العراق لا يشبه أية دولة أخرى مثل السودان أو الجزائر ومصر، فالحكم برلماني، وكل أربعة سنوات تكون انتخابات، وأقصى ما يمكن أن تحققه التظاهرات هي تحفيز إعلان إجراء انتخابات مبكرة في البلاد، وتشكيل محكمة عليا، وتفعيل جميع ملفات الفساد والانتهاكات، وهذا صلب ما يدعو له المتظاهرون اليوم باعتقادي". وأضاف: "على الرغم من أن الحديث عن ذلك مبكر، لكن بشكل عام، التظاهرات في العراق أخافت الطبقة السياسية ككلّ، وما قبلها لن يكون كما بعدها. على الأقل سيكون الجميع أكثر حذراً من استفزاز الناس والاستخفاف بعقولهم بشعارات طائفية وعاطفية لم تعد تقنع غالبيتهم".