في هذه الأثناء، تبرز ثلاث ملاحظات يمكن تسجيلها على القائمة الأولية للمرشحين، لعل أهمها خلّوها من أسماء وازنة من رموز المعارضة السياسية في الجزائر التي تعلق بها الحراك الشعبي منذ فبراير/ شباط الماضي، ورافع لأجل أدائها دوراً في المرحلة السياسية الراهنة. واتخذت هذه الشخصيات قرارها بعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بسبب حالة من الشكوك والارتياب ترتبط بالترتيبات المتعلقة بهذا الاستحقاق، والطريقة التي توصف بالمريبة، والتي تمّ بها تشكيل الهيئة العليا للانتخابات، وقبلها هيئة الحوار الوطني، وصياغة قانون الانتخابات الجديد. ويُفاقم من حدة هذه الشكوك، الامتعاض السائد من رفض السلطة استبعاد حكومة نور الدين بدوي، واستمرارها في حملة التضييق على الحريات واعتقال الناشطين والهيمنة على وسائل الإعلام.
ورفض رموزٌ من المعارضة الجزائرية، من بينهم رئيسا الحكومة الأسبقان مولود حمروش وأحمد بن بيتور، ووزير الاتصال السابق عبد العزيز رحابي، ورئيس حركة "مجتمع السلم" عبد الرزاق مقري، ورئيس "جبهة العدالة والتنمية" عبد الله جاب الله، المشاركة في ما وصفوه بـ"المسرحية السياسية للسلطة"، معتبرين أنّ الانتخابات ستكون ممراً لإعادة النظام السياسي، ولكن في ثوبٍ مغاير. بالإضافة إلى هؤلاء، أعلن عدد من المرشحين المعارضين، وإن كانوا أقلّ أهمية وتأثيراً، انسحابهم من الانتخابات، بعدما كانوا قد قرروا المشاركة فيها، وجمعوا بحسب قولهم، العدد المطلوب من التوقيعات.
وأعلن الدبلوماسي الجزائري السابق، أحمد بن نعمان، قراره بالانسحاب من الانتخابات، على الرغم من جمعه 100 ألف توقيع، بسبب اكتشافه أن الانتخابات المرتقبة "مجرد لعبة سياسية للسلطة"، ولحصول ممارسات وصفها بـ"المريبة". وأكد بن نعمان، في بيان، أنه "نظراً للمستجدات على الأرض، والتي لمسناها عن قرب عقب قرارنا خوض غمار الانتخابات والعودة إلى شرعية المؤسسات، وبعدما اتضحت الصورة جلياً من خلال ممارسات مريبة نرفض أن نزكيها، فإننا نعلن انسحابنا الكامل من العملية الانتخابية المزمع إجراؤها في 12 ديسمبر 2019". وأضاف "حصلنا على أكثر من النصاب القانوني للتوقيعات، الذي قارب 100 ألف، وحددت لنا السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات موعداً لتسليم الملف كاملاً". لكن الدبلوماسي الجزائري السابق رفض الاستمرار في السباق، مؤكداً أن انسحابه مسألة "مبدأ والتزامٍ أخلاقي".
بدوره، وصف المرشح الرئاسي فارس مسدور الاستحقاق المنتظر بـ"المريب" بسبب استمرار السلطة في سلوكها السياسي ذاته، وهيمنة اللوبيات الإدارية. من جهته، عبّر المرشح أحمد شوتري، وهو رئيس حزب البعث الجزائري غير المعتمد، عن امتعاضه من تلاعبٍ سياسي وعراقيل واجهته خلال عملية الترشح.
الملاحظة الثانية والأكثر إثارة، تتعلق بكون الجزء الغالب من المرشحين يمثلون بشكلٍ أو بآخر رموزاً للنظام السياسي الذي حكم البلاد خلال العقدين الماضيين، مع اختلافٍ في قياس الزمن السياسي لعلاقتهم بالنظام، وتبدل مواقفهم من السلطة خلال فترات لاحقة.
وتبرز في الصورة هنا مجموعتان من المرشحين في علاقتهم بالنظام السابق، تضمّ الأولى المرشحين الذين ظلّوا ملتصقين بنظام عبد العزيز بوتفليقة حتى رحيله، ويصفهم الحراك الشعبي برموز نظام بوتفليقة، ويعتبر أن ترشحهم يشكل استفزازاً للشعب. أبرز هؤلاء رئيس الحكومة السابق عبد المجيد تبون، الذي عمل مع بوتفليقة لفترة 17 عاماً، ورئيساً لحكومته في عام 2017، وعز الدين ميهوبي، وزير الثقافة السابق حتى مارس/آذار 2019، وكذلك مساعد وزير الخارجية الأسبق بلقاسم ساحلي.
ويبرز في المجموعة الثانية التي اتخذت مسافةً من النظام منذ فترة، رئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس، المرشح الأبرز في انتخابات ديسمبر/ كانون الأول المقبل. ويُعلم عن بن فليس أنه كان مديراً لحملة بوتفليقة في انتخابات 1999، ثم رئيساً لحكومته وأميناً عاماً للحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني)، لكنه انشق عن النظام السابق مبكراً في عام 2004، وتحول إلى صفّ المعارضة. يُضاف إلى بن فليس، وزير السياحة السابق عبد القادر بن قرينة، والذي يحاول أن يضع نفسه في خندق المعارضة، على الرغم من دعمه لبوتفليقة في الاستحقاقات الانتخابية السابقة. كما يبرز اسم عبد العزيز بلعيد، رئيس "جبهة المستقبل" الذي عارض بوتفليقة عام 2004، لكنه كان يمثل ذراع السلطة في الجامعات، حين ظلّ يشرف على التنظيم المركزي للشباب والطلبة الموالي للسلطة.
وأعرب المحلل والناشط السياسي الدكتور أحمد لعروسي رويبات، عن اعتقاده بأن لائحة المرشحين للرئاسيات في الجزائر "تضمّ في غالبها رموز النظام المتبقين، من أمثال ميهوبي وتبون وبلعيد وبن فليس وبن قرينة". واعتبر أن هؤلاء "كان عليهم التراجع إلى الخلف لأن وجودهم، وهذه هي المشكلة، يجعل الجزائريين المقتنعين بالخيار الانتخابي لا يشعرون بوجود نيّة وتوجه فعلي للتغيير الحقيقي". وتوقع روبيات أن ينجم عن ذلك "عزوفٌ كبير عن التصويت، حتى وإن كانت السلطة القائمة ستحتفي بالنتيجة مهما كانت، لكون الدستور الجزائري نفسه لا يمنح أيّ أهمية لنسبة المشاركة". ورأى أن "رئيس الحكومة السابق علي بن فليس ربما يكون الوحيد من المرشحين ممن يوصفون ببقايا النظام الفاسد، الأقل سوءاً في علاقته بهذا النظام، والأوفر حظاً".
أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بشمول لائحة الـ22 مرشحاً، مرشحين مستقلين يطمحون الى تكرار تجربة الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيّد، إذ يفتقدون لأجهزةٍ وسندٍ حزبي يدعمهم، وكذا دون خبرة سياسية في إدارة ملفات وقطاعات رسمية، لكنهم يراهنون على شعبية اكتسبها بعضهم من الإعلام، وخاصة المرئي، كمقدم البرامج سليمان بخليلي، أو من العمل الجمعوي، كالقيادي السابق في الكشافة الإسلامية الجزائرية ومنظومة الطفولة عبد الرحمان عرعار، أو نشاط في قطاعات دينية واقتصادية كالمرشحين، الخبير الاقتصادي فارس مسدور، والمسؤول في مصرف البركة ووزارة الداخلية سابقاً نور خرشي.
لكن تكرار تجربة قيس سعيّد لا تبدو اليوم واردة في الجزائر، بسبب النظام الانتخابي الغامض وغير الشفاف، والذي لا يتيح صعود مرشح غير معروف الى حكم بلد بحجم الجزائر، وكذا السلوك الكلاسيكي للناخب الجزائري المرتهن نحو الأسماء والشخصيات ذات المعرفة والاطلاع على ملفات الحكم. ومن الممكن الإضافة إلى هذه الأسباب، أن مجموع المرشحين المستقلين دلفوا الى المشهد السياسي بشكل متأخر جداً، وبعضهم قرر الترشح منذ أسبوعين فقط، ولا يحمل أيٌّ منهم مشروعاً سياسياً جدياً.