على الرغم من دخول لفظة الحرب لأول مرة ساحة السجال السياسي بين إثيوبيا ومصر بشأن سد النهضة، بحديث رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لبرلمان بلاده، أول من أمس الثلاثاء، عن أنه "إذا كانت ثمة حاجة لخوض حرب فيمكننا حشد الملايين"، و"إذا تسنى للبعض إطلاق صاروخ فيمكن لآخرين استخدام قنابل"، مستدركاً بأن "هذا ليس في صالح أي منا"، فإن السياق العام الذي يحكم هذه القضية، في محيطها الإقليمي واتصالاتها الدولية بالقوى العظمى، يجعل خيار اللجوء للحرب مستبعداً بالنسبة لمصر.
واختار رئيس الوزراء الإثيوبي، الفائز بجائزة نوبل للسلام، الإشارة إلى استعداد بلاده لأي عمل عدائي، عشية لقاء مقرر بينه وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في منتجع سوتشي على هامش قمة "روسيا أفريقيا 2019"، وفي ظل مساع إثيوبية لإشراك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدور في الوساطة بين البلدين، مقابل رغبة مصرية في تدخل الولايات المتحدة وليس روسيا.
ونقل مراسل وكالة "أسوشييتد برس" في أديس أبابا عن أبي أحمد حديثه عن الحرب، والذي جاء رداً على استفسارات بعض النواب، في حين تعمدت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية عدم الإشارة لهذا الجزء من حديثه، سواء في نشرتها المحلية باللغة الأمهرية أو نشرتيها المترجمتين بالإنكليزية والعربية، وهو ما يعكس إصرار أديس أبابا رسمياً على تنحية التلويح بالحرب أو الاستعداد لها عن الإطار العام للقضية، وهو ما يتفق مع العنوان العريض الذي أبرزه أبي أحمد في خطابه عندما قال إن "التفاوض هو الحل الوحيد لهذه القضية". وكرر أن "المفاوضات ولا شيء أكثر منها يمكنها إنهاء هذه المعضلة".
مصدر إعلامي إثيوبي يعمل في صحيفة محلية تابعة لتحالف الجبهة الديمقراطية الشعبية الحاكم، قال لـ"العربي الجديد"، عقب نشر تصريحات أبي أحمد، إن إصرار السيسي على عدم التطرق إلى الحل العسكري في أي مقاربة للأزمة لا يمنع قلق الإثيوبيين من الإشارات التي يزخر بها الإعلام غير الرسمي المصري، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى ضرورة حل القضية بـ"ضرب السد بالصواريخ" وغيرها من المقترحات التي سبق وأثارت هلعهم عندما تم بثها على الهواء مباشرة، عن طريق الخطأ، خلال اجتماع عقده الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي مع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية عام 2013 لمناقشة قضية السد وتأثيراتها على مصر.
وأضاف المصدر الإعلامي أن هذه الحالة من القلق استدعت أن يتحدث أبي أحمد بهذه الطريقة، التي كان من الممكن بسهولة تلافيها، بالتركيز على الجزء الثاني من حديثه عندما قال "إن خيار استخدام القوة ليس مفضلاً عند أي طرف"، لكنه تعمد الإشارة لاستعداد إثيوبيا لصد أي هجوم، بهدف تقوية الجبهة الداخلية للبلاد ومنع تداول شائعات يرددها خصومه المحليون في التحالف الحاكم وتظهر أحياناً في مناقشات البرلمان، عن "تراخيه في التعامل مع مصر"، وتعمده إبطاء إنجاز مشروع السد، ارتباطا بإشارته في السياق نفسه خلال خطابه إلى "المشاكل الإدارية التي عانى منها المشروع، وما كان من الممكن أن يترتب على استمرار الفساد المالي والإداري من تعطل إنجاز المشروع للأبد"، وهو ما كان قد ذكره العام الماضي.
وهنا يتضح وجه آخر للقضية، ربما يخفى عن المصريين والمتابعين العرب بشكل عام، وهو أن هناك جماعات ضغط تحاول دفع أبي أحمد لاتخاذ مواقف أكثر حدة، أو المزايدة لتحقيق أهداف سياسية، ويمكن ربط هذا الأمر بحالة عدم الاستقرار التي تواجه أبي أحمد من مجموعات مناوئة له وتابعة للحرس القديم بالتحالف الحاكم، ولا يمكن فصلها عن وقائع الاغتيال التي حدثت أخيراً لشخصيات عسكرية وسياسية أو محاولة اغتيال أبي أحمد نفسه العام الماضي.
لكن هناك رؤية أخرى لتصريحات أحمد من القاهرة، تتصل باستعداده لعقد لقاء مع السيسي، أمس الأربعاء، والذي يمكن تصنيفه كأول جولة مفاوضات مباشرة بينهما منذ فبراير/ شباط الماضي.
اقــرأ أيضاً
وترجح مصادر دبلوماسية مصرية أن تكون الإشارة للاستعداد للحرب وسيلة لرفع سقف المطالب خلال التفاوض أو لانتزاع تأكيد مصري صريح أمام القوى الدولية بعدم اللجوء للقوة، الأمر الذي حدث بالفعل بإصدار وزارة الخارجية المصرية بياناً، مساء أول من أمس الثلاثاء، لرفض "تلميحات" أحمد والتأكيد على الخيار السلمي للتفاوض المصري.
وعلى الرغم من أن صحيفة روسية متخصصة في شؤون السلاح نشرت أخيراً تقريراً عن حصول مصر على أسلحة تمكنها من تحطيم منشآت خرسانية، وتم تداول التقرير في موقع "روسيا اليوم" التابع للحكومة الروسية فقط ومنعت وسائل الإعلام المصرية من تداوله، بحسب مصدر إعلامي مصري مطلع، إلا أن هناك أسباباً مختلفة تمنع القاهرة من القيام بأي عمل عسكري مباشر.
فهناك العديد من الدول القريبة سياسياً لمصر تملك مصالح مباشرة في إنشاء سد النهضة وتعمل شركاتها بالمشروع، فضلاً عن توفير فوائد استثمارية لها مستقبلاً، وعلى رأسها الإمارات والسعودية وإسرائيل والصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وحتى الولايات المتحدة. ولا يرغب نظام السيسي في فقد دعم جميع هذه الدول التي يحاول كسب ثقتها لتعويض مشاكل نظامه داخلياً.
كما أن العواصم الكبرى ترى أن الشعب الإثيوبي له الحق في التنمية بعد عقود من إهدار مقوماته وموارده. ويرد الإثيوبيون على المقترحات المصرية في الأوساط الغربية بأنها قد تؤدي إلى إفشال المشروع بالكامل. وبحسب مصادر تحدثت مع "العربي الجديد"، فإنّ الإثيوبيين يقدمون إلى الجهات الدولية والعواصم الوسيطة بيانات إحصائية تفند هذه المخاوف، وهذا ينعكس على المستثمرين والشركات الكبرى الأوروبية والعربية التي ترغب في استغلال ما سيحققه السد من نجاحات محلية في توليد الطاقة الكهربائية وتوفير مزارع سمكية وترشيد للمياه بإعادة استخدامها في الري المنتظم لمساحات أوسع من الأراضي غير المستغلة، وهي جميعها تمثل فرصا للاستثمار السهل والمضمون في دولة بلغت نسبة النمو القومي فيها 10 في المائة.
في هذه الأثناء، فإن بيان الخارجية المصرية، الذي تعمد إحراج الفائز بجائزة نوبل للسلام بأنه أشار للخيار العسكري دون سابق تنويه من قبل مصر، أخفق أمام الشعب المصري في تبرير الخيبات التي لحقت بمسار التفاوض حول القضية، بل إنه اعترف ضمنياً بأن اتفاق المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس/ آذار 2015 هو محض "وعود مرسلة". وجاء في البيان أنه "كان من الأحرى أن يدفع الجانب الإثيوبي إلى إبداء الإرادة السياسية والمرونة وحُسن النوايا نحو الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل يراعي مصالح الدول الثلاث الشقيقة، حيث لا يمكن التعامل مع قضية بهذا القدر من الحساسية والتأثير علي مقدرات الشعوب الثلاثة استناداً لوعود مرسلة".
وسبق أن انتقد الإعلام المصري الموالي للنظام أبي أحمد بسبب ما وصفوه بـ"الحنث باليمين"، في إشارة إلى الواقعة التي بثت على الهواء في يونيو/ حزيران 2018 بقصر الاتحادية بالقاهرة عندما طلب السيسي من أحمد، بصيغة أبوية لافتة ومتعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.
اقــرأ أيضاً
وحتى الآن، وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وكذا تقريرا المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أن توقيع اتفاق المبادئ العشرة الموقع عام 2015 بين الدول الثلاث، الذي تتمسك مصر بتطبيقه، لم يوفر إلا الحماية للسياسات الإثيوبية الحالية.
فالمبدأ الخامس من الاتفاق والذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان.
كذلك فإن المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوفر رسمياً في الوضع الحالي. فالسودان الذي يبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيداً من بناء السد جدد ثقته في إمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات، وكذا فعلت إثيوبيا، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الأخير الذي يخشى استمرار إهدار الوقت دون اتفاق.
أما المبدأ الثامن فيتمسك الإثيوبيون به أيضاً، وهو المتعلق بالضمان الثلاثي المشترك لأمان السد، وذلك ارتباطاً بمتابعة إثيوبيا لوسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المصرية التي تحمل بعضها مطالبات بتخريب السد أو العمل على تعطيل إنشائه.
ومما سبق يتبين أن هذا الاتفاق الذي وقعه السيسي وسط رفض وقلق شعبي وحكومي كان منذ اليوم الأول لصالح إثيوبيا ويعرقل اتخاذ مصر خطوات حاسمة لحماية مصالحها.
وبسبب الصياغة غير الملائمة للتحرك المصري، كما يتضح سلفاً، فإن الخارجية المصرية طلبت من نظيرتها الأميركية المبادرة لاتخاذ خطوة وساطة من نفسها، بدلاً من انتظار التوافق الثلاثي على اللجوء إليها، فيما قبلت واشنطن ذلك من واقع العلاقة الجيدة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب ونظام السيسي، وذلك بحسب المصادر الدبلوماسية.
وكانت الخارجية المصرية قد ذكرت في بيانها الأخير أن "مصر تلقت دعوة من الإدارة الأميركية، في ظل حرصها على كسر الجمود الذي يكتنف مفاوضات سد النهضة، لاجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا في واشنطن، وهي الدعوة التي قبلتها مصر على الفور اتساقاً مع سياستها الثابتة لتفعيل بنود اتفاق إعلان المبادئ وثقةً في المساعي الحميدة التي تبذلها الولايات المتحدة".
وكان البيت الأبيض قد أصدر بيانا عشية انطلاق الجولة الأخيرة التي فشلت من المفاوضات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية والري في مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم، أعلن دعم الأطراف الثلاثة في السعي للتوصل لاتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث، ومطالبة الولايات المتحدة الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل.
لكن فشل جولة المفاوضات الجديدة، على الرغم من المناشدة الأميركية، دعا السيسي للمطالبة العلنية لأول مرة بتدخل أميركا، إذ أصدر بياناً في الخامس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي ذكر فيه أن "مصر تتطلع لقيام الولايات المتحدة الأميركية بدور فعال في هذا الصدد، خصوصاً على ضوء وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى طريق مسدود بعد مرور أكثر من أربع سنوات من المفاوضات المباشرة منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015، وهي المفاوضات التي لم تفض إلى تحقيق أي تقدم ملموس، ما يعكس الحاجة إلى دور دولي فعال لتجاوز التعثر الحالي في المفاوضات، وتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، والتوصل لاتفاق عادل ومتوازن يقوم على احترام مبادئ القانون الدولي الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، والتي تتيح للدول الاستفادة من مواردها المائية بدون الإضرار بمصالح وحقوق الأطراف الأخرى".
واختار رئيس الوزراء الإثيوبي، الفائز بجائزة نوبل للسلام، الإشارة إلى استعداد بلاده لأي عمل عدائي، عشية لقاء مقرر بينه وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في منتجع سوتشي على هامش قمة "روسيا أفريقيا 2019"، وفي ظل مساع إثيوبية لإشراك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدور في الوساطة بين البلدين، مقابل رغبة مصرية في تدخل الولايات المتحدة وليس روسيا.
ونقل مراسل وكالة "أسوشييتد برس" في أديس أبابا عن أبي أحمد حديثه عن الحرب، والذي جاء رداً على استفسارات بعض النواب، في حين تعمدت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية عدم الإشارة لهذا الجزء من حديثه، سواء في نشرتها المحلية باللغة الأمهرية أو نشرتيها المترجمتين بالإنكليزية والعربية، وهو ما يعكس إصرار أديس أبابا رسمياً على تنحية التلويح بالحرب أو الاستعداد لها عن الإطار العام للقضية، وهو ما يتفق مع العنوان العريض الذي أبرزه أبي أحمد في خطابه عندما قال إن "التفاوض هو الحل الوحيد لهذه القضية". وكرر أن "المفاوضات ولا شيء أكثر منها يمكنها إنهاء هذه المعضلة".
مصدر إعلامي إثيوبي يعمل في صحيفة محلية تابعة لتحالف الجبهة الديمقراطية الشعبية الحاكم، قال لـ"العربي الجديد"، عقب نشر تصريحات أبي أحمد، إن إصرار السيسي على عدم التطرق إلى الحل العسكري في أي مقاربة للأزمة لا يمنع قلق الإثيوبيين من الإشارات التي يزخر بها الإعلام غير الرسمي المصري، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى ضرورة حل القضية بـ"ضرب السد بالصواريخ" وغيرها من المقترحات التي سبق وأثارت هلعهم عندما تم بثها على الهواء مباشرة، عن طريق الخطأ، خلال اجتماع عقده الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي مع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية عام 2013 لمناقشة قضية السد وتأثيراتها على مصر.
وأضاف المصدر الإعلامي أن هذه الحالة من القلق استدعت أن يتحدث أبي أحمد بهذه الطريقة، التي كان من الممكن بسهولة تلافيها، بالتركيز على الجزء الثاني من حديثه عندما قال "إن خيار استخدام القوة ليس مفضلاً عند أي طرف"، لكنه تعمد الإشارة لاستعداد إثيوبيا لصد أي هجوم، بهدف تقوية الجبهة الداخلية للبلاد ومنع تداول شائعات يرددها خصومه المحليون في التحالف الحاكم وتظهر أحياناً في مناقشات البرلمان، عن "تراخيه في التعامل مع مصر"، وتعمده إبطاء إنجاز مشروع السد، ارتباطا بإشارته في السياق نفسه خلال خطابه إلى "المشاكل الإدارية التي عانى منها المشروع، وما كان من الممكن أن يترتب على استمرار الفساد المالي والإداري من تعطل إنجاز المشروع للأبد"، وهو ما كان قد ذكره العام الماضي.
وهنا يتضح وجه آخر للقضية، ربما يخفى عن المصريين والمتابعين العرب بشكل عام، وهو أن هناك جماعات ضغط تحاول دفع أبي أحمد لاتخاذ مواقف أكثر حدة، أو المزايدة لتحقيق أهداف سياسية، ويمكن ربط هذا الأمر بحالة عدم الاستقرار التي تواجه أبي أحمد من مجموعات مناوئة له وتابعة للحرس القديم بالتحالف الحاكم، ولا يمكن فصلها عن وقائع الاغتيال التي حدثت أخيراً لشخصيات عسكرية وسياسية أو محاولة اغتيال أبي أحمد نفسه العام الماضي.
لكن هناك رؤية أخرى لتصريحات أحمد من القاهرة، تتصل باستعداده لعقد لقاء مع السيسي، أمس الأربعاء، والذي يمكن تصنيفه كأول جولة مفاوضات مباشرة بينهما منذ فبراير/ شباط الماضي.
وترجح مصادر دبلوماسية مصرية أن تكون الإشارة للاستعداد للحرب وسيلة لرفع سقف المطالب خلال التفاوض أو لانتزاع تأكيد مصري صريح أمام القوى الدولية بعدم اللجوء للقوة، الأمر الذي حدث بالفعل بإصدار وزارة الخارجية المصرية بياناً، مساء أول من أمس الثلاثاء، لرفض "تلميحات" أحمد والتأكيد على الخيار السلمي للتفاوض المصري.
وعلى الرغم من أن صحيفة روسية متخصصة في شؤون السلاح نشرت أخيراً تقريراً عن حصول مصر على أسلحة تمكنها من تحطيم منشآت خرسانية، وتم تداول التقرير في موقع "روسيا اليوم" التابع للحكومة الروسية فقط ومنعت وسائل الإعلام المصرية من تداوله، بحسب مصدر إعلامي مصري مطلع، إلا أن هناك أسباباً مختلفة تمنع القاهرة من القيام بأي عمل عسكري مباشر.
فهناك العديد من الدول القريبة سياسياً لمصر تملك مصالح مباشرة في إنشاء سد النهضة وتعمل شركاتها بالمشروع، فضلاً عن توفير فوائد استثمارية لها مستقبلاً، وعلى رأسها الإمارات والسعودية وإسرائيل والصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وحتى الولايات المتحدة. ولا يرغب نظام السيسي في فقد دعم جميع هذه الدول التي يحاول كسب ثقتها لتعويض مشاكل نظامه داخلياً.
كما أن العواصم الكبرى ترى أن الشعب الإثيوبي له الحق في التنمية بعد عقود من إهدار مقوماته وموارده. ويرد الإثيوبيون على المقترحات المصرية في الأوساط الغربية بأنها قد تؤدي إلى إفشال المشروع بالكامل. وبحسب مصادر تحدثت مع "العربي الجديد"، فإنّ الإثيوبيين يقدمون إلى الجهات الدولية والعواصم الوسيطة بيانات إحصائية تفند هذه المخاوف، وهذا ينعكس على المستثمرين والشركات الكبرى الأوروبية والعربية التي ترغب في استغلال ما سيحققه السد من نجاحات محلية في توليد الطاقة الكهربائية وتوفير مزارع سمكية وترشيد للمياه بإعادة استخدامها في الري المنتظم لمساحات أوسع من الأراضي غير المستغلة، وهي جميعها تمثل فرصا للاستثمار السهل والمضمون في دولة بلغت نسبة النمو القومي فيها 10 في المائة.
في هذه الأثناء، فإن بيان الخارجية المصرية، الذي تعمد إحراج الفائز بجائزة نوبل للسلام بأنه أشار للخيار العسكري دون سابق تنويه من قبل مصر، أخفق أمام الشعب المصري في تبرير الخيبات التي لحقت بمسار التفاوض حول القضية، بل إنه اعترف ضمنياً بأن اتفاق المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس/ آذار 2015 هو محض "وعود مرسلة". وجاء في البيان أنه "كان من الأحرى أن يدفع الجانب الإثيوبي إلى إبداء الإرادة السياسية والمرونة وحُسن النوايا نحو الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل يراعي مصالح الدول الثلاث الشقيقة، حيث لا يمكن التعامل مع قضية بهذا القدر من الحساسية والتأثير علي مقدرات الشعوب الثلاثة استناداً لوعود مرسلة".
وسبق أن انتقد الإعلام المصري الموالي للنظام أبي أحمد بسبب ما وصفوه بـ"الحنث باليمين"، في إشارة إلى الواقعة التي بثت على الهواء في يونيو/ حزيران 2018 بقصر الاتحادية بالقاهرة عندما طلب السيسي من أحمد، بصيغة أبوية لافتة ومتعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية.
وحتى الآن، وعلى الرغم من أن لجنة الخبراء الدولية، وكذا تقريرا المكتبين الاستشاريين اللذين تمت الاستعانة بهما في المفاوضات، كانت قد أكدت الآثار السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ستلحق بمصر جراء المشروع، إلا أن توقيع اتفاق المبادئ العشرة الموقع عام 2015 بين الدول الثلاث، الذي تتمسك مصر بتطبيقه، لم يوفر إلا الحماية للسياسات الإثيوبية الحالية.
فالمبدأ الخامس من الاتفاق والذي يتحدث عن التعاون في الملء الأول وإدارة السد، يكتفي بالنص على التشارك في وضع "الخطوط الإرشادية والقواعد" من دون تفاصيل التشغيل، ويجيز لإثيوبيا إعادة ضبط سياسة التشغيل من وقت لآخر، بشرط "إخطار" وليس أخذ رأي أو استئذان مصر والسودان.
كذلك فإن المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية يتطلب أيضاً "اتفاق الدول الثلاث على ذلك"، وهو ما لا يتوفر رسمياً في الوضع الحالي. فالسودان الذي يبدو من الناحيتين الفنية والاقتصادية مستفيداً من بناء السد جدد ثقته في إمكانية التغلب على الخلافات باستمرار المفاوضات، وكذا فعلت إثيوبيا، ليظهر التناقض بينهما وبين الموقف المصري الأخير الذي يخشى استمرار إهدار الوقت دون اتفاق.
أما المبدأ الثامن فيتمسك الإثيوبيون به أيضاً، وهو المتعلق بالضمان الثلاثي المشترك لأمان السد، وذلك ارتباطاً بمتابعة إثيوبيا لوسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المصرية التي تحمل بعضها مطالبات بتخريب السد أو العمل على تعطيل إنشائه.
ومما سبق يتبين أن هذا الاتفاق الذي وقعه السيسي وسط رفض وقلق شعبي وحكومي كان منذ اليوم الأول لصالح إثيوبيا ويعرقل اتخاذ مصر خطوات حاسمة لحماية مصالحها.
وبسبب الصياغة غير الملائمة للتحرك المصري، كما يتضح سلفاً، فإن الخارجية المصرية طلبت من نظيرتها الأميركية المبادرة لاتخاذ خطوة وساطة من نفسها، بدلاً من انتظار التوافق الثلاثي على اللجوء إليها، فيما قبلت واشنطن ذلك من واقع العلاقة الجيدة بين إدارة الرئيس دونالد ترامب ونظام السيسي، وذلك بحسب المصادر الدبلوماسية.
وكانت الخارجية المصرية قد ذكرت في بيانها الأخير أن "مصر تلقت دعوة من الإدارة الأميركية، في ظل حرصها على كسر الجمود الذي يكتنف مفاوضات سد النهضة، لاجتماع لوزراء خارجية الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا في واشنطن، وهي الدعوة التي قبلتها مصر على الفور اتساقاً مع سياستها الثابتة لتفعيل بنود اتفاق إعلان المبادئ وثقةً في المساعي الحميدة التي تبذلها الولايات المتحدة".
وكان البيت الأبيض قد أصدر بيانا عشية انطلاق الجولة الأخيرة التي فشلت من المفاوضات الثلاثية بين وزراء الموارد المائية والري في مصر والسودان وإثيوبيا بالخرطوم، أعلن دعم الأطراف الثلاثة في السعي للتوصل لاتفاق على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث، ومطالبة الولايات المتحدة الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء وفي الوقت ذاته يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر في مياه النيل.
لكن فشل جولة المفاوضات الجديدة، على الرغم من المناشدة الأميركية، دعا السيسي للمطالبة العلنية لأول مرة بتدخل أميركا، إذ أصدر بياناً في الخامس من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي ذكر فيه أن "مصر تتطلع لقيام الولايات المتحدة الأميركية بدور فعال في هذا الصدد، خصوصاً على ضوء وصول المفاوضات بين الدول الثلاث إلى طريق مسدود بعد مرور أكثر من أربع سنوات من المفاوضات المباشرة منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في 2015، وهي المفاوضات التي لم تفض إلى تحقيق أي تقدم ملموس، ما يعكس الحاجة إلى دور دولي فعال لتجاوز التعثر الحالي في المفاوضات، وتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، والتوصل لاتفاق عادل ومتوازن يقوم على احترام مبادئ القانون الدولي الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، والتي تتيح للدول الاستفادة من مواردها المائية بدون الإضرار بمصالح وحقوق الأطراف الأخرى".