وتبدو انتخابات ديسمبر فقيرة جداً لناحية الأسماء التي تقدمت للسباق الرئاسي. فعدا رئيسا الحكومة الأسبقين، علي بن فليس وعبد المجيد تبون، تخلو قائمة المرشحين من رموز سياسية وشخصيات بارزة راهن الحراك الشعبي عليها طويلاً للعب دور مركزي في المرحلة المقبلة، لكنها رفضت الانخراط في ما تعتبره "مسرحية سياسية" يفرض الجيش نصها ونسقها وسياقها السياسي. ومن هذه الشخصيات رئيسا الحكومة الأسبقين مولود حمروش وأحمد بن بيتور، ووزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، ومنسق مؤتمر المعارضة عبد العزيز رحابي، ورئيس حركة "مجتمع السلم" (إخوان الجزائر) عبد الرزاق مقري، والمؤسس التاريخي لـ"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" سعيد سعدي وغيرهم، والذين توقف تقديرهم للموقف عند حدود اعتبار أنّ الانتخابات المقبلة هي "انتخابات أزمة وقفزة إلى المجهول"، بحسب بيان أخير أصدرته 20 شخصية سياسية، من ضمنها عدد من هؤلاء.
وعلى الرغم من مجمل هذه المواقف، واعتراض شعبي على هذه الانتخابات تعبّر عنه تظاهرات الحراك كل أسبوع، فإنّ الجيش والسلطة في الجزائر لا يبديان أي التفات لهذا الأمر، ويصرّان على إجراء الانتخابات في موعدها المحدد. وإذا سارت الأمور على هذا النحو، فإنّ السباق الرئاسي الذي سجل حتى الآن 145 مرشحاً، أغلبهم غير جديين، سينتهي إلى قائمة محدودة قد لا تتجاوز العشرة مرشحين الذين سيتمكنون من تدبير وتوفير كل الالتزامات القانونية المطلوبة للترشّح، بما في ذلك 50 ألف توقيع من الناخبين. وسينحصر السباق على الأرجح بين رئيسي الحكومة الأسبقين علي بن فليس وعبد المجيد تبون، ورئيس حركة "البناء" (جناح من إخوان الجزائر) عبد القادر بن قرينة، ورئيس "جبهة المستقبل" عبد العزيز بلعيد، والأمين العام بالنيابة لـ"التجمع الوطني الديمقراطي" وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي، ومقدّم البرامج التلفزيونية سليمان بخليلي، والمرشح المستقل نور خرشي.
يقول الناشط السياسي يوسف خبابة، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ الأنظار ستتجه خلال الأيام المقبلة إلى "سلطة الانتخابات التي تعاني من هبوط حاد في أسهم مصداقيتها"، مضيفاً "من المنتظر أن نتعرف على المرشحين الذي تحصلوا على التفويض القانوني للترشح، ومن خلال ذلك يمكن التنبؤ بمصير هذا الاستحقاق". ويتابع أنه "بالنظر إلى قائمة المتقدمين إلى طلب هذا التفويض، فإنّ المرشحين المحتملين الذين سيمرون إلى دائرة التنافس، سيكون معظمهم من مربع النظام، مثل تبون وبلعيد وميهوبي وبن فليس، إلى جانب وجود مرشح التيار إسلامي بن قرينة". ويصف خبابة هذا المشهد الانتخابي بأنه "صورة بائسة لانتخابات تأتي بعد ثورة شعبية، ويفترض أن تكون عرساً ديمقراطياً مفتوحاً وتنافسياً"، مشيراً إلى أنه كان يمكن "الاستنجاد بشخصية وازنة يمكن أن تؤثر في مجرى الأحداث وتتعاقد مع الأحزاب الأساسية المعارضة على عهدة رئاسية انتقالية تتم فيها الاستجابة الكاملة لمطالب الحراك، وفق آليات وإجراءات يتفق عليها، لكن هذا الخيار احتمالاته تتضاءل يوماً بعد يوم، نظراً لضيق الوقت المتبقي".
وتذهب المؤشرات كلها باتجاه رسم صورة استقطاب انتخابي طرفاه بن فليس وتبون، خصوصاً أنّ بوادر هذا الاستقطاب بدأت مبكراً منذ إعلان تبون ترشّحه في سبتمبر/ أيلول الماضي. إذ بادر بن فليس بمهاجمته، ووصف ترشحه بأنه محاولة لاستكمال العهدة الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وسعى إلى ربطه بنظام الأخير. واعتبر أنّ تبون يتحمل مسؤوليات سياسية وأخلاقية في النهايات الكارثية التي وصلت إليها البلاد، فيما حاول الأخير تلافي الدخول في صراع سياسي مع بن فليس ورفض الرد عليه.
وعلى الرغم من أنّ كلاً من بن فليس وتبون عملا مع بوتفليقة، وبن فليس نفسه كان رئيس حملته الانتخابية في رئاسيات عام 1999 ورئيساً لحكومته عام 2000، والأمين العام لحزبه، "جبهة التحرير الوطني"، إلا أنّه يراهن على فارق الزمن بينه وبين تبون في العلاقة مع الرئيس السابق. إذ انفصل بن فليس مبكراً عن بوتفليقة منذ نهاية عام 2003، وأعلن منذ 16 سنة معارضته السياسية له، ونافسه في الانتخابات الرئاسية بشكل حاد عامي 2004 و2014، فيما بقي تبون ضمن دائرة بوتفليقة وانتقل بين وزارات عدة إلى غاية تعيينه رئيساً للحكومة في يونيو/ حزيران 2017. كما يراهن بن فليس، الذي يقدم نفسه "مرشحاً باسم كتلة المعارضة"، على رصيده في معارضة نظام بوتفليقة منذ 16 سنة، ومواقفه الحقوقية، وكذا انخراطه في الجهود الوحدوية للمعارضة منذ سنوات، ومشاركته في مؤتمر المعارضة عامي 2014 و2016 ودعمه للحراك الشعبي.
في المقابل، لا يملك تبون دعامات كثيرة يستطيع تركيز صورته الانتخابية عليها، خصوصاً أنه كان رئيساً لحكومة بوتفليقة قبل عامين فقط، ولولا المشكلات التي حصلت بينه وبين الكارتل المالي في أغسطس/ آب 2017، وانتهت بإقالته، لكان هو نفسه المكلف بالدعاية لصالح ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة في انتخابات إبريل/ نيسان الماضي الملغاة. لكن تبون حاول، عبر عدد محدود من الحوارات الصحافية التي أجراها إلى الآن، نزع صورة "مرشح النظام" التي التصقت به، خصوصاً بعد تعيين سفير الجزائر في نيويورك عبد الله باعلي مديراً لحملته، ورموز إعلامية موالية للجيش في هذه الحملة. كما أنه يراهن على "المظلومية السياسية" التي حلّت به عام 2017 بعد انتصار بوتفليقة لصالح الكارتل المالي ضده. وقد رسم صورة لنفسه كضحية لهذا الكارتل ومحيط الرئيس السابق، فضلاً عن تعداده لـ"المؤامرات" التي حيكت ضده؛ سواء عندما كان وزيراً للسكن أو رئيساً للحكومة لفترة قصيرة، وصولاً إلى مسألة ابنه خالد المسجون إلى الآن في قضية تهريب الكوكايين الشهيرة التي كشفت العام الماضي.
لكنّ المحلل السياسي رضوان بوهيدل، يقلل من إمكانية انفراد تبون وبن فليس بالاستقطاب الانتخابي في ديسمبر المقبل، ويعتقد أنّ هناك هامشاً أيضاً للمفاجأة على الطريقة التونسية. ويقول "تبون وبن فليس لم يحسما الأمر بعد، في ظلّ تحفظ جزء من الهيئة الناخبة ورفض جزء آخر لهما، ما قد يدفع بالناخب إلى القطيعة مع كل من كان يدور في فلك النظام السابق من قريب أو بعيد، وهو ما يبقي حظوظاً لمرشحين آخرين من خارج مربعات النظام". وبرأيه فإنّ "أول المؤشرات يقول إنّ الانتخابات ستكون مفتوحة على احتمالات عدة، وربما مفاجآت، مع إعلان الهيئة المستقلة لقائمة المرشحين النهائية. كما لا يمكن تجاوز أسماء أخرى، مثل بلعيد وبن قرينة وميهوبي، وهي الشخصيات التي تملك وجوداً تنظيمياً كأحزاب".
وحتى وإن فتحت الانتخابات في تونس باباً لإمكانية بروز مرشح في صورة قيس سعيد، خصوصاً في ظلّ بروز مرشحيْن بدءاً يستقطبان الاهتمام نسبياً، وهما مقدم البرامج سليمان بخليلي والمرشح المستقل الباحث نوري خرشي، فإنّ ذلك يبدو أقلّ احتمالاً في الجزائر، بسبب طبيعة النظام الانتخابي الغامض وتعقيدات السلطة، واستمرار استخدامها للمنظومة الإدارية، وعدم توفر ما يكفي من النزاهة ومساحات التنظيم التي قد تتيح بروز قيس سعيد جزائري.
وبغضّ النظر عن الأسماء التي ستصنع الاستقطاب في انتخابات ديسمبر المقبل الرئاسية في الجزائر، أو تلك التي قد تحدث مفاجأة، فإنّ الثابت أنّ الانتخابات المقبلة، والفقيرة على صعيد لائحة الأسماء المتسابقة فيها، والغياب اللافت لشخصيات من المعارضة، تبدو مجرد فتحة صغيرة للأزمة يسعى من خلالها النظام القائم إلى تتويج رئيس بنصف شرعية معزول سياسياً، ما يفرض عليه التفاوض لاحقاً مع الحراك ومكوناته الحزبية والنخبوية حول التحول الديمقراطي الممكن. وقد تضطر هذه الظروف الرئيس المنتخب إلى تقليص عهدته لفسح المجال لمنافسة حقيقية تعاد فيها صياغة مؤسسات الانتقال الديمقراطي.