وقطع السيسي فترة الصمت مع أحمد، أمس الجمعة، ليصدر بياناً مقتضباً بتهنئته بالفوز، حمل عبارات عامة لم تتضمن إشادة خاصة به، مثل "فوز جديد لقارتنا السمراء الطامحة دوماً للسلام والساعية لتحقيق الاستقرار والتنمية"، و"أتمنى أن تستمر جهودنا البناءة الرامية لإنهاء كافة الصراعات والخلافات في القارة الأفريقية بإرادة من أبنائها وشعوبها العظيمة".
من جهته، تضمّن بيان لجنة نوبل النرويجية لأسباب منحها الجائزة لأحمد، عبارات واضحة عن دوره الرئيسي في حلّ أزمة السودان، وكذلك إصلاحاته الداخلية، ليزيد تعقيد موقف السيسي. وذكر بيان الفوز بوضوح دور أحمد في الساحة السودانية من خلال رعاية اتفاق إصدار الوثيقة الدستورية وتشكيل المجلس السيادي في السودان، الذي ظلّت مصر تعرقله طويلاً لصالح استمرار المجلس الانتقالي العسكري في إدارة شؤون الخرطوم لفترة أطول، قبل أن تلتحق متأخرة بتلك الجهود التوفيقية في الأشواط الأخيرة لحفظ ماء الوجه، وتأكيد موقعها كرئيسة للاتحاد الأفريقي، والذي أثبتت الأزمة السودانية هشاشته في مقابل الدور الكبير الذي اضطلعت به دولة المقر، إثيوبيا، في التقريب بين المجلس العسكري والمعارضة.
هذه الحساسيات التي ضربت بجذورها في العلاقة بين السيسي وأحمد، تحوّلت مع مرور الأسابيع الماضية إلى حالة من الندية، عززها أكثر غياب الرئيس المصري لأسباب أمنية عن حضور مراسم توقيع الاتفاق النهائي للإعلان الدستوري في السودان وإنابته شخصية غير معروفة تقريباً للأوساط الأفريقية هو رئيس وزرائه المغمور مصطفى مدبولي. في المقابل، برز الحضور الطاغي لأحمد والاحتفاء الكبير به من قبل السودانيين وقادة أفريقيا وممثلي المنظمات الدولية الحاضرين والتصفيق المستمر له تحية لجهوده في تسوية الأزمة.
كما أكد بيان الفوز ترحيب العالم الغربي بالإصلاحات التي يجريها أحمد على الصعيد المحلي، مثل إلغاء حالة الطوارئ في إثيوبيا، والعفو عن آلاف السجناء السياسيين، وإلغاء الرقابة على الإعلام، والاعتراف بشرعية جماعات المعارضة المحظورة سابقاً، وسجن وعزل القادة العسكريين والمدنيين الذين يشتبه بضلوعهم في الفساد، والتعهد بتعزيز الديمقراطية من خلال إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وتكاد تكون هذه الإجراءات معاكسة تماماً لما تتسم به سياسات السيسي في مصر، على الرغم من اشتراك الرجلين في الخلفية العسكرية والاستخبارية.
وتخشى مصادر دبلوماسية مصرية مما قد يعكسه فوز أحمد من آثار إيجابية بالنسبة لبلاده في ملف سدّ النهضة، ويمنحها عنصر تفضيل بالمقارنة مع مصر في الدوائر الغربية، في الوقت الذي تحاول فيه القاهرة الترويج لفكرة أن إدارة أحمد للملف بمثابة إعلان حرب وجود على مصر، نظراً للآثار السلبية الكبيرة التي سيتعذر علاجها، خصوصاً تفاقم الفقر المائي وخروج عشرات الآلاف من الأفدنة الزراعية من خطة الري السنوية.
وبدأت القاهرة وأديس أبابا منتصف العام 2018 مباحثات بشأن المشروع الذي سبق أن اتفق عليه السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايله ميريام ديسالين لإنشاء منطقة حرة صناعية مصرية في إثيوبيا، على غرار المناطق الحرة الصينية هناك. وتم الاتفاق على توسيع أعمال شركة "المقاولين العرب" الحكومية وكذلك شركة "السويدي للكابلات"، وكلاهما تعملان في مجال المقاولات والإنشاءات المعمارية، فضلاً عن دخول عدد من الشركات الحكومية والتابعة لجهات سيادية إلى السوق الإثيوبية في مجالات تصنيع الأخشاب والحديد والصلب والمعادن. لكن كل هذه المشاهد الإيجابية في طريقها للتبدد على وقع ظهور صورة مختلفة لإثيوبيا تحت حكم أحمد الذي أثبت ثقله المحلي والإقليمي الاستثنائي قياساً بأسلافه، وحتى بزعماء القارة الحاليين.
وبحسب المصادر الدبلوماسية، فإن السيسي كان يعتقد أن بإمكانه انتزاع تفوّق على حساب أحمد في ملف سدّ النهضة بالتنسيق الاستخباري مع السلطة الجديدة في السودان، وتحديداً مع شخصيات فاعلة في المجلس السيادي، على رأسها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي يعتبر الحليف الأبرز للسيسي في السودان، وذلك بغية استمالة الخرطوم للمطالب والمقترحات المصرية كاملة بعد العودة لطاولة التفاوض. مع العلم أن السودان لن يتحمّل ضرراً كبيراً من سدّ النهضة، فيما كان الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قد طوّر تعاونه مع السيسي في هذا الملف قبل أشهر قليلة فقط من الثورة السودانية، وبعد سنوات من المماطلة والوقوف إلى جانب إثيوبيا.
وفي يونيو/ حزيران 2018، تبادل السيسي وأحمد العبارات الدافئة خلال زيارة الأخير إلى القاهرة، وبدا المشهد كاريكاتورياً عندما طلب السيسي من أحمد، بصيغة أبوية لافتة ومتعالية، أن يقسم اليمين خلفه على أن إثيوبيا لن تضر بمصالح مصر المائية، وردد أحمد خلفه القسم باللغة العربية، وهو المشهد الذي عاد أمس ليجتاح صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للسخرية من الرئيس المصري.
وفي فبراير/ شباط الماضي، حرص الطرفان المصري والإثيوبي على إظهار التوافق بينهما خلال قمة الاتحاد الأفريقي، وأهدى أحمد الرئيس المصري لوحة تذكارية تعبّر عن وحدة مصير بلديهما، واستفادتهما المشتركة حضارياً واجتماعياً من مياه النيل.
لكن حالةً من الفتور بين الرجلين تسبّبت في إفشال مساعي وزارتي خارجية البلدين لعقد جلسة مباحثات بينهما في سبتمبر/ أيلول الماضي على هامش مشاركتهما في القمة السابعة لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الأفريقية (تيكاد) في اليابان.
وتجتاح مصر موجة من الانزعاج الرسمي والشعبي بسبب وصول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، بحسب وصف الحكومة المصرية، على الرغم من أن السيسي كان قد صرح مطلع العام 2018 بأنه "لم تكن هناك أزمة من الأساس حول سدّ النهضة"، بعد اجتماع في أديس أبابا مع البشير وديسالين، على هامش حضورهم قمة الاتحاد الأفريقي. وخالف السيسي بهذا التصريح كل ما سبقه على لسان المؤسسات الرسمية المصرية التي أبدى المسؤولون فيها قلقهم وغضبهم من تردي المفاوضات، وميل الخرطوم إلى مواقف أديس أبابا، وعدم مراعاتهما المخاوف المصرية من تفاقم الفقر المائي.
لكن الحكومة المصرية عادت منذ شهرين لتعرب عن مخاوفها من إطالة فترة التفاوض بحجة عدم الاستقرار السياسي في السودان، ثم اعترف السيسي خلال المؤتمر الثامن للشباب الذي عُقد الشهر الماضي بصعوبة الموقف، ملقياً باللائمة على ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 بأنها تسببت في إسراع إثيوبيا في إنشاء السد الذي كان مشروعاً معلناً وبدأ تنفيذه عملياً منذ عام 2010.
وتحدث المسؤولون الإثيوبيون خلال المفاوضات الأخيرة عن ضرورة احترام المبدأ الثامن المتعلق بالضمان الثلاثي المشترك لأمان السد وذلك ارتباطاً بمتابعة إثيوبيا لوسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي المصرية التي تحمل بعضها مطالبات بتخريب السد أو العمل على تعطيل إنشائه، معربين عن "انزعاجهم لسماح السلطات المصرية بذلك". ويأتي هذا الانزعاج على الرغم من أن الخطاب الرسمي المصري من السيسي ووزارتي الخارجية والري، يركز على اتّباع الحلول السياسية فقط، وهو ما انعكس في الواقع بظهور صفحات إلكترونية غير رسمية، يرجح مراقبون تبعيتها لأجهزة استخبارية في كل من مصر وإثيوبيا، انخرطت في مساجلات عنيفة بسبب انسداد المسار التفاوضي.