تحلّ الذكرى الرابعة لأحد أسوأ الأيام التي عاشها اليمنيون، وهي عبارة عن ملابسات السقوط الأخير لمرحلة "الدولة الضعيفة"، التي نخرت فيها الأزمات بأطرافها، وانتقلت لتوجيه "الضربة القاضية"، في مركزها، بالعاصمة صنعاء، التي لم يكن سقوطها في 21 سبتمبر/ أيلول 2014 بأيدي مسلحي جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وحلفائهم الموالين للرئيس الراحل علي عبدالله صالح، سوى السقوط الأخير في حقبة الكارثة الكبرى، والحرب الأوسع التي بدأت بتدشين السعودية تحالفاً عسكرياً لتنفيذ عمليات في اليمن في مارس/ آذار 2015.
"بعد أربع سنوات، أينما تنظر في صنعاء، تبدو الجدران واللافتات الدعائية، الشاهد الأكبر على حجم التحول وما آلت إليه العاصمة"، يقول أحمد مصلح، وهو مهاجر يمني يعمل في إحدى المهن التجارية بدولة عربية. ويضيف لـ"العربي الجديد"، إثر وصوله إلى صنعاء: "أينما تلتفت تجد صور الشهداء (القتلى)، والشعارات الخاصة بالحوثيين والدعاية المرتبطة بمناسباتهم الدينية والسياسية. وهناك أعداد كبيرة ممن اضطرتهم الحاجة إلى التسول، أو للعمل كباعة متجولين في أهم شوارع وتقاطعات العاصمة، بمن فيهم نساء وأطفال، الذين أصبحوا الشاهد الأكثر قسوة على ما آلت إليه البلاد".
بعد أيام من وصوله، اتجه مصلح إلى مستشفى خاص لعلاج أحد أقاربه، ومع اللقاءات التي أجراها بمعارفه وأقربائه، أدرك "كيف أن التغيرات العميقة المرتبطة بالدولة، تمثل الشيء الكثير، فالناس يعيشون في أوضاع شديدة القسوة، وكل ما هو متعلق بالحكومة ومنشآتها وبالمرافق العامة وحتى المساجد، صار حوثياً بإشراف وقرارات الجماعة، وقياداتها. كما أن السفارات باتت أقرب إلى مساكن الأشباح، لا تجد سوى أفراد الحراسة حولها، إذ أُغلقت منذ سنوات، والعبارات التعبوية انتشرت على الجدران واللافتات، ومعها صور الضحايا، سواء على شكل مجموعات، أو صور مكبّرة للقيادات والقادة البارزين الذين قضوا في الأشهر الأخيرة على الأقل".
وأضاف أنه "يرى أن بإمكان أي يمني أن يعيش في صنعاء دون الإحساس بتغيرات كبيرة، ناتجة عن سيطرة الحوثيين، باستثناء التغيرات المرتبطة بالحرب وما رافقها؛ إذ تحافظ صنعاء على تنوعها الذي أصبح من الصعب إحداث تغييرات كبيرة فيه".
المرحلة الثانية لصنعاء، بدأت عقب مغادرة هادي الإقامة الجبرية إلى عدن وإعلانه العدول عن الاستقالة، ومن ثم استدعاء التدخل الخارجي، فتدشين "عاصفة الحزم"، بقيادة السعودية. وحينها دخلت البلاد الحرب الأوسع في تاريخها، فالمعسكرات والعديد من المقرات والمراكز السيادية مغلقة تحت القصف، والحوثيون وحلفاؤهم الموالون لصالح يلاحقون معارضيهم، وقبل ذلك وما تلاه، كان طيفٌ واسعٌ من السياسيين الذين ارتبطت أسماؤهم بالحكومة والأحزاب السياسية والعديد من المسؤولين العسكريين قد غادروا، وتحولت مساكنهم، التي كان بعضها عناوين بارزة، إما إلى سكن لحراساتهم وعدد محدود من أقاربهم، أو اقتحمها الحوثيون وحولوها إلى مقرات خاصة لهم. وفي تلك الأثناء، لم تعد العاصمة اليمنية آمنة للعمل السياسي، والوحيدون القادرون على تدبر حياتهم وممارسة أنشطة سياسية هم الحوثيون وقياداتهم، التي هي في الغالب أسماء شابة وجديدة لأشخاص كان تأثيرهم محصوراً في إطار الجماعة، بالإضافة إلى أنشطة العديد من قيادات حزب المؤتمر، بما كان يمثله من حضور كـ"حزب حاكم" سابقاً، وتنتمي إليه الكثير من الكوادر الإدارية في الدولة، كما ارتبطت به شريحة واسعة من أصحاب المصالح.
تنفس الحوثيون الصعداء بقتلهم صالح والقضاء على خطره، الذي كانوا ينتظرونه منذ اللحظة الأولى لدخولهم العاصمة، وللمرة الأولى تأتي الذكرى الرابعة لليوم الأسود في حياة اليمنيين، وقد باتت العاصمة اليمنية أقوى ارتباطاً بالحوثيين دون غيرهم، وعلى الرغم من أن معركتهم مع حليفهم أضافت خصومة جديدة للجماعة مع غالبية شرائح الطيف السياسي والاجتماعي، إلا أن الجماعة، التي ما كان لها أن تكون شيئاً كبيراً بوجود القوى اليمنية المختلفة المؤثرة في مركز الدولة، أصبحت تقرر ما تشاء دون أن تأخذ بحسبانها أي شريك. فالقرارات لم تعد تتطلب أي مراجعات أو مفاوضات، وتعديل المناهج الدراسية على سبيل المثال، بات متاحاً بعدما عارض المؤتمر ذلك خلال فترة تحالفهما، وإزاحة عدد كبير من موظفي الدولة وهيئاتها الإدارية بات أسهل ما يمكن بالنسبة لجماعة تملك وحدها القرار، فهناك تغييرات واسعة في الأشهر الأخيرة، على مستوى الحارات ومدراء المدارس والهيئات والإدارات المختلفة، وحتى مسجد "الصالح"، أكبر معالم صنعاء، والذي لم يدخله الحوثيون منذ عام 2014، والكثير مما ارتبط بصنعاء كله بات بأيدي الحوثيين، بعد ديسمبر 2017.
في المقابل، إن السلطة تقطر دماً وتنتشر في ظلها صور القتلى أكثر من أي شيء آخر، ولا تدفع حتى رواتب الموظفين الحكوميين، ولا يملك السكان في مناطق سيطرتها منفذاً جوياً يسافرون عبره، بسبب إغلاق مطار صنعاء الدولي من قبل التحالف، وما لا مجال لحصره من مشاهد ومعالم للمأساة اليمنية. والمفارقة أن الوضع في حسابات الحوثيين الخاصة لا يبعث على الأسى بالضرورة، بالنسبة لجماعة كانت مُطاردة في جبال صعدة في سنوات سابقة.
لكن أحد الصحافيين اعتبر، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن صنعاء أصبحت مجتمع الأقارب والمعارف من القرية التي يتحدر منها، لا مجتمع المهنة التي عمل فيها محرراً لنحو 14 عاماً في صحف مختلفة. وأضاف أن "نحو 80 في المائة من زملائه والشخصيات السياسية التي ارتبط عمله في العاصمة صنعاء بها، باتوا خارجها أو يعيشون أوضاعاً بالغة القسوة، انخرط بعضهم معها باهتمامات خارجة عن تخصصه، كالعمل في أحد المتاجر، أو غيرها".
وبالإضافة إلى كون صنعاء للمرة الأولى في أيدي الحوثيين وحدهم، في الذكرى الرابعة لاجتياحهم لها، بعد التخلص من "الشريك"، فإن أحد التحولات، في الأشهر الأخيرة، هو التصعيد العسكري في الحديدة، والذي شكّل تهديداً بالنسبة لقدرة الحوثيين على تثبيت أنفسهم كسلطة لسنوات طويلة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. إذ من الصعب، بالنسبة للجماعة أن تسعى لاسترداد أي من المناطق التي فقدت السيطرة فيها بعد معارك عنيفة خلال السنوات الماضية، لكنها تسعى لتحافظ قدر الاستطاعة على ما أمكن من محافظات شمال البلاد وغربها، ولا يبدو أن في وارد حساباتها أن ترضخ لتسليم صنعاء باتفاق سياسي، في ظل حالة العداء وعدم الثقة السائدة بين مختلف الأطراف، وبالنظر لممارسات الجماعة، التي تواصل إحداث تغييرات كبيرة بفرض عناصرها في كل ما يتصل بالدولة وأجهزتها المختلفة.
وفي المناسبة ذاتها، يستذكر اليمنيون المبرر الذي رفعه الحوثيون للمطالبة بإسقاط الحكومة قبل سنوات، وهو رفض الزيادة في أسعار الوقود، مع أهمية الإشارة إلى أنه وفي ظل ما لا يكاد يحصى من الكوارث التي لحقت باليمنيين منذ اجتياح الحوثيين لصنعاء، فلا تزال تحافظ على حالة من الاستقرار والعديد من مقوّمات الحياة لليمني العادي، مقارنة بالمدن الأخرى التي تخضع للتحالف ومجموع القوات الحكومية وتلك الخاضعة لدولة الإمارات، في عدن ومحيطها على وجه التحديد، على نحوٍ تشترك فيه مجموعة من العوامل الاجتماعية والرمزية المرتبطة بالدولة وهياكلها المؤسسية بما فيها الأمنية، لكن فرص العيش تضيق، مع انهيار الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي والمصالح الحكومية وغيرها من القطاعات المتأثرة بالحرب وبالعزلة المفروضة على اليمن وعلى صنعاء خصوصاً.