كارثة الحديدة: فرصة أخيرة لمساعي الإنقاذ

09 يونيو 2018
أمراض مختلفة أصابت الأطفال في الحديدة (Getty)
+ الخط -
لا يبدو أن أياً من أطراف الحرب اليمنية مستعد فعلاً لتقديم تنازلات من شأنها إيقاف حصيلة المأساة اليمنية عند عتبة عشرة آلاف شخص وإصابة نحو 53 ألفاً آخرين بجروح في ظل أزمة إنسانية تعتبرها الأمم المتحدة الأسوأ في العالم حالياً. حصيلة قد تتضخم بشكل كبير في حال وصل زحف تحالف القوات الإماراتية والسعودية ومسلحي الشرعية اليمنية إلى مدينة الحديدة ومينائها ومطارها، المنفذين الوحيدين المتبقيين لدخول كل ما يحتاج إليه 70 في المائة من اليمنيين، أي الملايين الذي يعيشون في المناطق التي يحكم الحوثيون سيطرتهم عليها، خصوصاً في الشمال والوسط. ومع اقتراب شبح الكارثة، ووصول القوات المهاجمة إلى مسافة عشرة كيلومترات فقط عن المدينة ومينائها عند البحر الأحمر، تتسارع وتيرة التحذيرات العالمية من كارثة قد تضرب الملايين، لا مئات الآلاف فحسب، وتزداد المساعي الدولية لإنقاذ المدينة، ومن خلفها ملايين اليمنيين، من مصير أسود سبق أن عرفه اليمن في سنوات الحرب الماضية، عندما كانت السعودية والإمارات تحاصران الميناء، وتمنعان مواصلة عمله، قبل أن تضطرا في كل مرة إلى فك الحصار عنه. وتغري فكرة الحسم العسكري القيادتين الإماراتية والسعودية على اعتبار أنّ خسارة الحوثيين للحديدة قد تؤدي بهم إلى الاستسلام، والانهيار في صنعاء وصعدة وبقية المناطق التي يسيطرون عليها. ولم يظهر أن الفيتو الأميركي الذي صدر قبل أيام عن متحدث باسم مجلس الأمن القومي للبيت الأبيض، ضد فكرة الحسم في الحديدة، قد أعطى نتائج فورية، فاستمر تقدم القوات المهاجمة لتصل إلى بعد 10 كيلومترات من المدينة فقط. ولطالما فشلت مشاريع السلام المقدمة من مبعوثي الأمم المتحدة إلى اليمن، وجميعها كانت تقوم على تدويل ميناء الحديدة، ووضعه تحت رقابة دولية، لمنع دخول أي أسلحة عبره إلى الحوثيين، في مقابل السماح بدخول كافة السلع الغذائية والطبية والحياتية.


تحذيرات دولية

وقد دفع شبح حلول الكارثة بمنسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، ليز غراندي، أمس الجمعة، إلى التحذير من أن الهجوم على الحديدة قد يزهق أرواح ما يصل إلى 250 ألف شخص، وأكدت أن "المنظمات الإنسانية سارعت إلى وضع خطة طوارئ". وتقدر الأمم المتحدة أن هناك قرابة 600 ألف مدني يعيشون في الحديدة والمناطق القريبة. وأضافت، في بيان: "سيؤثّر أي هجوم أو حصار عسكري للحديدة على مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء". وتابعت: "نخشى أن يفقد، في أسوأ الحالات، ما يصل إلى 250 ألف شخص كل شيء، بما في ذلك حياتهم". وأشارت إلى أن أولوية الأمم المتحدة اليوم "هي المساعدة في ضمان حصول 22 مليون يمني بحاجة بشكل أو بآخر إلى مساعدات إنسانية والحماية، على المساعدة التي يحتاجون إليها". وحذرت غراندي من أن "قطع الواردات عبر الحديدة لأي فترة من الزمن سيضع سكان اليمن في خطر كبير لا يمكن تبريره".

كذلك حذرت منظمة أوكسفام الدولية من أن تصاعد القتال حول مدينة الحديدة اليمنية يهدد بقطع الإمدادات الحيوية عن ملايين الأشخاص الذين هم على بعد خطوة واحدة من المجاعة. بدوره، قال روبرت مارديني، مدير اللجنة الدولية للصليب الأحمر لشؤون الشرق الأدنى والأوسط، في حديث لوكالة "رويترز": "ما يطلق عليها المعركة الكبرى في الحديدة تقترب منذ 18 شهراً وشهدت تقلبات... إنها منطقة عالية الكثافة السكانية، حيث سيتسبب أي سيناريو عسكري على الأرجح بخسائر بشرية ضخمة".

وتعاني "عروس البحر الأحمر"، كما يطلق عليها، من كثافة سكانية كبيرة، وتعدّ الثانية بعدد السكان بعد تعز، حيث يقطنها نحو 400 ألف نسمة. كذلك، تعدّ نسبة الفقر والإهمال في الحديدة الأعلى في اليمن، وهي تحتلّ صدارة قائمة المناطق التي يعاني سكانها من سوء تغذية حاد. ورغم سعة أراضيها الزراعية، إلا أن سكانها لا يمتلكون القدرات المالية التي تؤهلهم لاستثمار أراضيهم زراعياً.

وتضم الحديدة مطاراً وميناء رئيسياً تمر عبرهما أغلبية المساعدات والمواد الغذائية الموجهة إلى ملايين السكان في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، من بينها العاصمة صنعاء، على بعد نحو 230 كيلومتراً شرقاً. ويعول الحوثيون على الضغط الدولي الممارس على القوات المهاجمة، لعدم التنازل عن إدارة المطار والمرفأ، نظراً لما يؤمنانه من إيرادات مالية لهم. ولا يزال "أنصار الله" يتمسكون بحزمة من الشروط يضعونها أمام المبعوث الدولي مارتن غريفيث مقابل الانسحاب من الحديدة. وقبل أيام، وافق الحوثيون على مبادرة التسوية الاقتصادية التي قدمها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن مارتن غريفيث، تحت اسم "مبادرة الحديدة والرواتب"، والتي تتضمن وضع ميناء الحديدة الخاضع لها تحت إشراف المنظمة الأممية، لكنها وضعت شروطاً "تعجيزية". وقال مسؤول في مكتب الأمم المتحدة في اليمن لـ"العربي الجديد"، إن مبادرة غريفيث تتضمن وضع ميناء الحديدة الخاضع للحوثيين تحت إشراف دولي، وإعادة فتح مطار صنعاء أمام الرحلات التجارية وصرف رواتب موظفي الدولة في صنعاء وبقية مناطق الحوثيين والمتوقفة منذ 20 شهراً، مقابل تسليم فرع البنك المركزي بالعاصمة اليمنية. لكن الحوثيين فرضوا شروطاً، من بينها دفع رواتب العسكريين والمدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها، وإعادة فتح مطار صنعاء ووقف غارات التحالف، وقد تم رفض هذه الشروط بشكل ضمني من قبل حكومة اليمن وداعميها من الإماراتيين والسعوديين.

قوات سعودية إماراتية مباشرة

وتخوض الإمارات والسعودية معركة الحديدة بقواتهما المباشرة، فضلاً عن آلاف مسلحي الشرعية بقيادة طارق صالح، نجل شقيق علي عبد الله صالح، الذي انضوى في صفوف تحالف الرياض ــ أبوظبي منذ نجاته من محاولة اغتياله عند قتل عمه، نهاية العام الماضي. ويشارك في العملية الآلاف أيضاً من المقاتلين الجنوبيين المحسوبين على دولة الإمارات مباشرة. انطلاقاً من ذلك، يعتبر كثيرون أن هذه المعركة تهم الإمارات أكثر من السعودية، نظراً إلى أن ميناء الحديدة، ثاني أكبر مرافئ البحر الأحمر بعد ميناء جدة، موضوع على لائحة الاهتمامات الإماراتية، بعدما صار مرفأ عدن وعدد آخر من الموانئ اليمنية المعروفة بأهميتها الاستراتيجية العالمية، في قبضة أبوظبي الراغبة بإزاحة أي منافسة محتملة لموانئ دبي خصوصاً.

ومدينة الحديدة هي الأفقر والأكثر بؤساً على الإطلاق في اليمن، بحسب كل المعايير الاقتصادية والاجتماعية والصحية، منذ ما قبل الحرب حتى، وهو ما ازداد فداحة طبعاً نتيجة المأساة التي بدأت في انقلاب الحوثيين عام 2014، وفاقمتها حرب التحالف العربي عام 2015. وفي مقابل ترويج الإعلام السعودي والإماراتي لتقديم الرياض وأبوظبي مساعدات للسكان في المناطق المحررة من محافظة الحديدة، سعياً لطمأنة المجتمع الدولي، وربما سكان الحديدة، من المعركة المرتقبة، إلا أنّ ذلك لم يجد نفعاً في إقناع الرأي العام العالمي والجهات الدولية التي باتت تحذر بشكل شبه يومي من الكارثة الإنسانية التي تنتظر الحديدة وسكانها، ومن جدوى العملية.  


انتشار الأمراض

وأدّى الحصار البري والبحري والجوي المفروض منذ نحو 4 سنوات على اليمن والذي يشمل الحديدة، من قبل قوات "التحالف العربي"، إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في المدينة، وإلى نقص حاد في المواد الغذائية والإغاثية، فضلاً عن انقطاع الكهرباء شبه الدائم، وهو ما انعكس بدوره على مختلف القطاعات ولا سيما القطاع الصحي، الذي يعدّ الأكثر تضرراً من جراء الأزمة المستمرة، فكانت الأمراض والأوبئة أشدّ فتكاً بسكان المدينة من أي شيء آخر، في حين ساعد انتشار التلوّث والقمامة وفيضان مياه المجاري في مختلف أحيائها وشوارعها الرئيسة والفرعية، على زحف الأوبئة من حي إلى حي، ومن يمني إلى آخر، ما تسبب بإصابة عشرات الآلاف بأمراض معدية، خلّفت العديد من الضحايا وآلاف صور الهياكل العظمية والبطون المنتفخة. ومن أبرز الأوبئة التي ضربت الحديدة خصوصاً، الملاريا وحمى الضنك وأمراض جلدية مختلفة، أصابت الأطفال خصوصاً، وعجر الأطباء في بعض الأحيان عن تشخيصها، فضلاً عن مرض الديفتيريا الذي انتشر في اليمن أخيراً، وكان للحديدة النصيب الأكبر من الضرر جراءه، بحسب "منظمة الصحة العالمية".

كذلك تصدّرت الحديدة مدن اليمن لناحية تفشي وباء الكوليرا، إذ سجّلت فيها أكثر من 95 ألف حالة في خمسة أشهر فقط. وتتصاعد المخاوف مجدداً اليوم من عودة انتشار هذا الوباء مع بداية فصل الصيف وارتفاع الحرارة في هذه المدينة الساحلية، والتي تصل في بعض الأحيان إلى 50 درجة مئوية، وفي ظلّ افتقار السكان لأدنى مقومات الحياة، كالماء النظيف والصرف الصحي، وهو ما يساعد على انتشار هذا المرض.

كذلك تعود المخاوف من انتشار الملاريا بشكل أكبر جراء انتشار البعوض والحشرات الناقلة للفيروسات في فصل الصيف، في ظلّ غياب حملات الرش تماماً وعدم توفّر المبيدات الخاصة في الأحياء لمكافحة انتشار البعوض والحشرات الضارة.

ولا يوجد في الحديدة اليوم سوى مشفى وحيد، يقصده يومياً نحو 1500 مريض، وهو ما يمثّل أربعة أضعاف طاقته على الاستيعاب. وقد تراجع مستوى الخدمات الطبية في هذا المشفى وفي غيره من المرافق الطبية، بشكل كبير، فضلاً عن توقّف العديد من هذه المرافق عن تقديم الخدمات بسبب شحّ الإمكانيات ونقص الأدوية والمواد الطبية، إلى جانب توقّف طواقم طبية عن العمل نتيجة التوقّف عن صرف رواتبها.

الميناء

يمثّل ميناء الحديدة شريان الحياة الوحيد المتبقي لشمال اليمن الذي يعيش فيه نحو 70 في المائة من اليمنيين، بحسب ما يقول روبرت مارديني، لكنه يوضح أنّ "ما يصل عبره إلى الحديدة لا يفي مطلقاً بالاحتياجات". واليوم ومع اقتراب قوات الشرعية، مدعومة بقوات التحالف، من هذا الميناء الذي تسعى بشتى الطرق للوصول إليه وسحبه من قبضة الحوثيين، ستتوقّف هذه الاحتياجات القليلة عن الوصول، ما سينذر بحصول مجاعة وأزمات لا يمكن تصورها. وميناء الحديدة هو ثاني أكبر الموانئ على البحر الأحمر بعد ميناء جدة، وثاني أكبر الموانئ في اليمن بعد ميناء عدن، ويحتل موقعاً استراتيجياً لقربه من خطوط الملاحة العالمية. وهو يدر ما يقارب 70 مليون دولار سنوياً على خزينة الحوثيين، ويعدّ العمود الفقري لتمويلهم، كما يعدّ البوابة الرئيسية لتدفق الشحنات الغذائية والمساعدات الإنسانية، إذ تدخل من خلاله نحو 30 في المئة من المساعدات.

وتسعى الإمارات للسيطرة على هذا الميناء، الذي ترى فيه طريقاً لترسيخ أقدامها على البحر الأحمر، فيما يسوّق التحالف للعديد من الحجج المبررة لذلك، ومنها أن السيطرة عليه ستحرم الحوثيين من إيرادات الميناء، ومن المنافذ البحرية بشكل عام، وستوقف عمليات تهريب الأسلحة، إضافة إلى أنها ستعجل بهزيمة الحوثيين.

 
المساهمون