البرلمان اليمني الأطول عمراً: من حماية الدستور إلى خيانته

29 ابريل 2018
نواب يمنيون خلال جلسة برئاسة الصماد في أغسطس 2016(الأناضول)
+ الخط -
في الذكرى الـ 15 لآخر انتخابات برلمانية في اليمن (أبريل/نيسان 2003)، كان من تبقّى من أعضاء البرلمان على قيد الحياة في صنعاء يعقدون جلسة خاصة لأداء مهدي المشاط اليمين الدستورية كرئيس للمجلس السياسي الأعلى، أي كرئيس للجمهورية في مناطق سيطرة الحوثيين، وهو المشارك البارز في منعهم بالقوة من عقد جلستهم البرلمانية لقبول استقالة الرئيس عبد ربه منصور هادي عام 2015. وبالتزامن، أمر المشاط بصرف متأخرات بدل جلسات البرلمان بواقع 7000 ريال يمني لكل جلسة (تعادل 14,4 دولاراً أميركياً)، في ما بدا رشوة صريحة لأعضاء البرلمان، في ظلّ عدم استلام موظفي الدولة لرواتبهم منذ أكثر من عام ونصف العام. فكيف تحوّل البرلمان من وجه الديمقراطية الأبرز في اليمن إلى مشرْعن لصعود المليشيات التي لا تعترف بالانتخابات كطريق للوصول للسلطة؟


في 27 أبريل 2003، توجّه اليمنيون لاختيار ممثليهم في البرلمان من مرشحي الأحزاب السياسية، وكانت مدة البرلمان 4 سنوات، قبل أن يتم تعديلها ضمن تعديلات دستورية أخرى لتصبح 6 سنوات، أي أنه من المفترض أن تكون قد جرت 3 انتخابات برلمانية حتى الآن، لكن خلافات حزب المؤتمر الحاكم مع أحزاب تكتل اللقاء المشترك المعارض حينها، أدّت إلى تأجيل الانتخابات باتفاق فبراير/شباط 2009، الذي نتج عن حوار سياسي بين الطرفين.

كان أبريل 2011 هو محطة الانتخابات البرلمانية المؤجلة، لكن خروج الشباب إلى الساحات ضمن موجة الربيع العربي، أدى بدوره إلى استمرار البرلمان بموجب بنود المبادرة الخليجية لفترة انتقالية، مدتها عامان، على أن تكون بنود المبادرة هي مرجع قراراته التي تتخذ بالتوافق وليس بالأغلبية كما جرت العادة، وذلك لمنع حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم يومها من استخدام أغلبيته البرلمانية ضد الأطراف الأخرى، لأنه حصد 238 مقعداً من إجمالي مقاعد البرلمان الـ301 في انتخابات 2003.

نتيجة لعدم تحقّق متطلبات الفترة الانتقالية التي نصّت عليها المبادرة الخليجية، استمر البرلمان في عمله بموجب المادة (65) من الدستور التي تنصّ على أنه إذا تعذّر إجراء الانتخابات لظروف قاهرة "ظلّ المجلس قائماً ويباشر سلطاته الدستورية حتى تزول هذه الظروف ويتم انتخاب المجلس الجديد". وكانت آخر جلسة برلمانية اعتيادية قد عقدت في 22 ديسمبر/كانون الأول 2014 بحضور 59 نائباً فقط، من أعضائه الـ301.

ومع وضع الحوثيين لهادي قيد الإقامة الجبرية، وإرسال الأخير استقالته للبرلمان المخوّل دستورياً قبولها أو رفضها في 22 يناير/كانون الثاني 2015، واجه البرلمان أصعب وضع خلال مسيرته الطويلة، فإضافة إلى إعلان بعض الكتل البرلمانية رفض أي جلسة بشأن الاستقالة الرئاسية، كونها اتخذت نتيجة لسيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة بقوة السلاح، كان الأخيرون قد أغلقوا الطرق المؤدية إلى البرلمان لمنع انعقاد الجلسة، إذ أرادوا الحكم باسم هادي وليس استقالة تؤدي لفراغ دستوري.


منذ ذلك التاريخ تحوّل البرلمان إلى أداة بيد الحوثيين يفرضون عليه إرادتهم ورغبتهم رغم أنهم ليسوا حزباً سياسياً وليس لهم أي تمثيل برلماني، إذ إنّ يحيى الحوثي، الشقيق الأكبر لزعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، كان عضواً في البرلمان عن حزب المؤتمر الشعبي العام، وكان البرلمان قد أسقط حصانته وجمّد عضويته لاشتراكه في نشاط جماعة مسلحة محظورة حينها.


عند إصدار الحوثيين ما عرف بالإعلان الدستوري في 6 فبراير/شباط 2015، وتعيينهم محمد علي الحوثي رئيساً للجنة الثورية التي منحت صلاحيات رئيس الجمهورية وبسقف أعلى بكثير من الصلاحيات الدستورية للرئيس، تضمّن الإعلان حلّ البرلمان، وتشكيل جمعية وطنية كبديل عنه، وتم تكليف يحيى الحوثي مجمّد العضوية البرلمانية، برئاسة الجمعية واستقبال طلبات أعضاء البرلمان الراغبين بالانضمام لها، غير أنّ عدد من تقدّموا لم يزد عن 12 عضواً. ورغم أنّ المؤتمر الشعبي العام برئاسة علي عبد الله صالح، لم يعترف بالإعلان الدستوري الحوثي، وظلّ يتحدّث عن البرلمان كسلطة دستورية وحيدة في بداية تحالفه مع جماعة الحوثيين، وعن رغبته في عقد جلسة برلمانية لقبول استقالة هادي قبلها، إلا أنّه وافق الحوثيين على استخدام البرلمان كـ"محلّل" ومشرْعن لاتفاق الطرفين على تشكيل المجلس السياسي الأعلى كسلطة رئاسية في مناطق سيطرتهم كحليفين، في مواجهة شرعية هادي وتدخّل "التحالف العربي" عسكرياً في اليمن.

بعد عام و8 أشهر على آخر اجتماع متعدّد الأطراف وممثل عن الأحزاب السياسية الممثلة برلمانياً، وفي 13 أغسطس/آب 2016، فاجأ الحوثيون وصالح العالم بعقد جلسة برلمانية اقتصرت على من تبقى من ممثلي المؤتمر في صنعاء، لم يكتمل بهم نصاب انعقاد الجلسة التي عقدت رغم ذلك، وقبلت أداء صالح الصماد اليمين الدستورية كرئيس للمجلس السياسي الأعلى المشكل من الطرفين، والذي استمر رئيساً له حتى مقتله بغارة لطيران التحالف في 19 إبريل الجاري. ورغم أنّ البرلمان لم يتمكّن من عقد جلسة بنصاب كامل لإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية، فقد عقد جلسة خاصة لمنح الثقة لحكومة الإنقاذ الوطني غير المعترف بها دولياً والتي شكلها الحوثيون وصالح في صنعاء.

لاحقاً، أعلنت الشرعية وقوع من حضر تلك الجلسة من أعضاء البرلمان تحت طائلة القانون، وعقد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لقاءً مع عدد من أعضاء البرلمان الموالين لهادي في الرياض بعد جلسة صنعاء بيومين، إلا أنّ جهوده وجهود الشرعية فشلت في جمع عدد كافٍ من أعضاء البرلمان يسمح بعقد جلسة مماثلة في عدن، بعد إعلان هادي نقل مقر البرلمان إليها كعاصمة مؤقتة، وذلك بعد فرار العشرات من البرلمانيين إلى خارج اليمن هرباً من الحوثيين، الذين اعتقلوا بعضهم، وفجّروا منازل آخرين منهم بدون أن يقوم البرلمان بمجرّد إدانة لما حدث لأعضائه.


في يوليو/تموز 2017، أعلن أعضاء البرلمان الموالين لصالح مبادرة للحلّ السياسي للصراع اليمني، تضمنت وضع المنافذ اليمنية تحت رعاية الأمم المتحدة ووقف القصف ورفع العقوبات الأممية عن المشمولين بها من المؤتمر وجماعة "أنصار الله"، إلا أنّ الحوثيين اتهموا البرلمان بالتفريط في سيادة البلد والخضوع للأعداء، ورفضوا مضمون المبادرة التي لم تلق تجاوباً من التحالف أيضاً. وقد أعلن البرلمان العربي عدم اعترافه بالجلسات التي عقدها البرلمان اليمني بصنعاء بعد 2014.

في إطار صراع حليفي صنعاء في ديسمبر 2017، تعرّض كثير من برلمانيي المؤتمر للملاحقة والتهديد والاعتقال، وحاولت الشرعية استغلال تطورات صنعاء التي انتهت بقتل الحوثيين لحليفهم صالح، معلنةً أنها تجري الترتيبات الأخيرة لعقد جلسة برلمانية في عدن خلال فبراير الماضي. ولأن عدن واقعة تحت قبضة الإمارات وحلفائها من "المجلس الانتقالي الجنوبي"، فقد صعّد الأخير من تهديداته لهادي وطالبه بإقالة حكومته ورفض عقد جلسة للبرلمان في عدن. ونتيجة لتلك التطورات التي أدت إلى الاشتباكات المسلحة بين الطرفين أواخر يناير الماضي، فقد تم إفشال جهود الشرعية لعقد جلسة برلمانية في عدن من وقتها و إلى اليوم.

وكان رئيس البرلمان، يحيى الراعي، قد تنحى عن المشهد واعتكف في منزله بمحافظة ذمار، رغم أنه يعد الشخص المخوّل بشغل منصب رئيس الجمهورية دستورياً في حال شغور المنصب، إلا أنّ غارة جوية للتحالف العربي استهدفت منزله وقتلت نجله، أعادته إلى ممارسة مهامه إلى جانب الحوثيين وصالح.

بعد أحداث ديسمبر في صنعاء، تم وضع البرلمانيين تحت قيود ورقابة مشددة من الحوثيين. ورغم أنّ الراعي خرج من صنعاء أثناء الأحداث، إلا أنّه عاد إليها بفعل الضغوط والتهديدات الحوثية، وقد عقد جلسات برلمانية متعددة حسب رغبة الحوثيين، الذين قاموا بحل البرلمان في إعلانهم الدستوري مطلع 2015.

لا يتعامل الحوثيون ولا "حكومة الإنقاذ" غير المعترف بها دولياً مع البرلمان على محمل الجد، فليس هناك نصاب قانوني لجلساته منذ ديسمبر 2014، وقد تحوّل دوره من مشرع ومراقب لأداء السلطة التنفيذية، إلى مجرّد أداة ضعيفة تتحرك وفق رغبة الحوثيين الذين لا يستجيب وزراؤهم لدعوات البرلمان للحضور إليه، كما يتعرّض أعضاء البرلمان للإهانات العلنية من الحوثيين في حال تصرفوا كأعضاء برلمان، وفقاً للدستور.

تعامل البرلمان مع من اعتبرا "رئيسين" غير منتخبين سيطرا على السلطة بقوة السلاح (صالح الصماد ومهدي المشاط) ومنحهما ثقة ليس لها سند دستوري، وتعامل أيضاً مع جماعة الحوثيين التي سبق أن اعتبرها جماعة إرهابية محظورة، وتعامل كذلك مع حكومة مشكلة من طرفين انقلابيين لا سند دستورياً لتشكيلها. وقبلها منح البرلمان الحصانة ضد المساءلة القانونية للرئيس الراحل صالح ورجال عهده بموجب المبادرة الخليجية، رغم مخالفة هذه الحصانة لكافة التشريعات الدولية والوطنية، وأقرّ عدداً من الاتفاقيات بين أطراف الصراع الراهن، ثمّ أقرّ إجراءات على النقيض منها تماماً.


وأخيراً، أحال البرلمان مشروع قانون وضعه الحوثيون لإعادة توزيع الإيرادات الزكوية والرعاية الاجتماعية إلى اللجنة المختصة، ويحتوي هذا المشروع، بحسب نسخ مسرّبة منه وتصريحات أعضاء برلمانيين أبرزهم أحمد سيف حاشد، على مواد تتناقض مع مبدأ المواطنة والمساواة بين اليمنيين، عبر تخصيص ما نسبته 20 في المائة من عائدات الثروات الطبيعية للمنحدرين من نسل علي بن أبي طالب، وفق نصوص دينية تقوم فكرة الحوثيين على الإيمان بها، وعلى مبدأ الولاية الذي لا يعترف بالديمقراطية جملةً وتفصيلاً.

سيذكر التاريخ برلمان اليمن الحالي كأسوأ برلمان في تاريخه، يمنح حكومة انقلابية غير معترف بها دولياً ثقته لمجرد أنها أقرّت رواتب أعضائه وبدل جلساتهم، في ظلّ حرمان موظفي الدولة من رواتبهم لأكثر من عامين ونصف العام. وسيذكر التاريخ أن أعضاء البرلمان اليمني قاموا بتزوير الحقائق وعقدوا جلسات بدون نصاب وبلون واحد لا يمثّل ناخبيهم بأي شكل، فضلاً عن مخالفة الدستور وخيانة الناخبين والتواطؤ مع جماعات مسلحة دفنت كل ملامح الحياة السياسية والتداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية التي كافح اليمنيون من أجلها على مدار ستة عقود من تاريخهم المعاصر، إذ كان البرلمان والتعددية والديمقراطية رغم كل عيوبها، أقوى مكاسب نضال الحركة الوطنية والثورات المغدورة ضدّ الاستبداد والاستعمار.

خلال فترة البرلمان الحالية الأطول في تاريخ البلد (2003-2018)، تم خوض ست حروب في صعدة، وعشرات الحروب الصغيرة التي تلت 2011، وصولاً للحرب الجارية المركبة ومتعددة الأطراف والأهداف، وتمت أوّل وأغرب عملية تهجير ليمنيين على أساس العقيدة الدينية، كما حدث لسلفيي دماج على يد الحوثيين وبمباركة هادي، وتمّ تفكيك الجيش وإحلال الجماعات المسلحة محلّ الأحزاب السياسية، وقتل الآلاف من المدنيين والعسكريين، وتمّ تمرير صفقات فساد ترقى لمستوى الجرائم العظمى، ولم يقم البرلمان بدوره أمام أي من هذه التحولات التي أدت إلى تدمير البلد.

من حق أعضاء البرلمان إعلان المواقف التي تعبّر عنهم بصفتهم السياسية خارج البرلمان، أمّا تحت قبة البرلمان، فإن كل توظيف للصراع أو دعم لطرف مسلح أو تعطيل لبنود الدستور والقانون، أو احتيال على ثقة الناخبين، هو مشاركة كاملة الأركان في عملية هدم مكتسبات البلد وقتل وتشريد وتجويع وقمع أبنائه الذين منحوهم أصواتهم.