اتفاقية الجمعة العظيمة في ذكراها العشرين

11 ابريل 2018
كلينتون وبلير في الذكرى الـ20 للاتفاقية (Getty)
+ الخط -
عُقدت، أمس الثلاثاء، في بلفاست، ندوة جمعت كلاً من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق طوني بلير، وعددا آخر من القيادات التي وقّعت اتفاقية الجمعة العظيمة (أو اتفاق بلفاست) التي حلّت ذكراها العشرون هذا العام. وعلى الرغم من تجاوز إيرلندا الشمالية مرحلة الصراع، إلا أنها لم تتجاوز مرحلة الطائفية السياسية.  

وجمعت الندوة، إلى جانب كلينتون وبلير، كلاً من بيرتي آرن، رئيس الوزراء الإيرلندي حينها، إضافة إلى شخصيات أخرى لعبت دوراً محورياً في الوصول إلى الاتفاق، مثل المبعوث الأميركي السابق لإيرلندا الشمالية، جورج ميتشل، ومدير مكتب رئيس الوزراء السابق، جوناثان بأول، والرئيس السابق لحزب "الشين فين"، جيري آدامز، وزعيم "الألستر الاتحاديين"، اللورد تريمبل.

ووصف كلينتون اتفاقية الجمعة العظيمة بأنها "هدية ثمينة"، محذّراً السياسيين الحاليين من "إهدارها"، بينما حذّر بلير من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على أسس الاتفاقية. وشدد بلير على أهمية تجنب نصب الحدود الصلبة في الجزيرة الإيرلندية التي ستكون "كارثة في العلاقة بين الجمهورية والمملكة المتحدة".

وحث ميتشل، الذي أدار المحادثات عام 1998، قادة المنطقة على التحلي "بالشجاعة والبصيرة" التي أبداها موقّعو الاتفاق، الذي أنهى ثلاثين عاماً من الاقتتال في إيرلندا الشمالية، والذي ذهب ضحيته نحو ثلاثة آلاف شخص. وتم حينها التصديق على الاتفاقية في كل من البرلمانين البريطاني والإيرلندي، إضافة إلى غالبية الأحزاب الكبرى في برلمان إيرلندا الشمالية، ما عدا الحزب "الاتحادي الديمقراطي".




توقف العملية السياسية

وعلى الرغم من أنّ الاتفاقية صمدت لعشرين عاماً منذ توقيعها عام 1998، إلا أن الوضع في إيرلندا الشمالية وجيرانها قد تغير منذ ذلك الحين. فالعملية السياسية متوقفة في إيرلندا الشمالية من بداية العام الماضي، حيث انهارت الحكومة المحلية، ولم تتمكن المفاوضات المستمرة من قبل الحزب "الاتحادي الديمقراطي" وحزب "الشين فين" من الوصول إلى تسوية بين الطرفين لتشارك السلطة وإعادة تشكيل الحكومة وتفعيل برلمان "ستورمونت".

كما أنّ الاتفاقية أدت، بشكل غير مباشر، إلى تقويض القاعدة الوسط التي بُنيت عليها. فالحزب "الديمقراطي الاشتراكي"، الذي تزعّمه جون هيوم، مهندس الاتفاق؛ وحزب "العمال"، فقدا قاعدتيهما الشعبيتين لصالح حزب "الشين فين". أمّا حزب "الألستر الاتحادي" فقد أطاح به الحزب "الاتحاد الديمقراطي"، الذي لم يوقع على الاتفاقية، والذي يدعم حكومة تيريزا ماي، بأصوات نوابه العشرة في و"يستمنستر".

ويضاف إلى ما سبق إهمال السياسيين البريطانيين لإيرلندا الشمالية بعد نهاية الصراع فيها، واعتبارهم السلم القائم حالياً من المُسلّمات. ومما يزيد الأمر تعقيداً تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيؤدي إلى رفع الحدود الصلبة بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية، في حال استمرت مفاوضات "بريكست" في منحاها الحالي، وخرجت بريطانيا بموجبها من السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركي. وسيؤدي ذلك إلى تقويض العلاقة بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية، والتي كان الحفاظ عليها أحد أسس الاتفاق الموقع بين أنصار الملكية والجمهورية.

مخاوف على الاتفاقية

ويزيد من الخوف على مستقبل الاتفاقية موقف حزب "العمال" من "الاتحاد الجمركي". فبالرغم من أن زعيم الحزب، جيريمي كوربن، كان قد أكّد ضرورة الحفاظ على سلاسة الحدود في إيرلندا الشمالية، وتعهد بإقامة كل من أشكال الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي لحماية هذا الهدف، خرج وزير التجارة في حكومة الظل العمالية وأحد واضعي سياسة الحزب حيال "بريكست"، باري غاردينر، بتصريحات مفادها بأن لا داعي للخوف من الحدود في الجزيرة الإيرلندية، متهماً غيره من السياسيين بتوظيف القضية لخدمة مصالح اقتصادية.

إلا أن اتفاقية الجمعة العظيمة نالت الكثير من المدح والتبجيل، خاصة في مجال تسوية النزاعات، إذ ظهرت مجالات لاستخدامها كقالب يمكن نقله إلى مناطق أخرى من الصراع حول العالم.

وتمكّنت الاتفاقية من البناء على الإرهاق الذي أصاب الطرفين بعد ثلاثين عاماً من العنف، إضافة إلى القدرات الدبلوماسية التي تمتعت بها إدارات الدول المعنية: بريطانيا وإيرلندا والولايات المتحدة.

كما أن المفاوضات التي أدت إلى نجاح الاتفاقية عبّرت عن قناعة الأطراف المعنية بضرورة الحوار وقبول الآخر والتعايش المشترك. فاتفاق الجمعة العظيمة وضع حداً لأهداف الطرفين البروتستانتي الملكي والكاثوليكي الجمهوري بتطهير الإقليم من الوجود السياسي والعسكري للطرف الآخر. فقد أقنعتهم بأن هوية الإقليم لا يجب أن تكون بالضرورة صافية خالصة بريطانية أو إيرلندية، بل يمكن لها أن تكون كلاهما في الوقت ذاته. وهو ما سمح للطرفين بتقديم التنازلات الكافية لتطبيقها على الأرض.

بل إن هذه الفكرة بذاتها هي أمر خارج أطر تفكير الدول القومية التي تحكم عالمنا اليوم، والتي تطلب من مواطنيها التجانس والالتزام بلون واحد. فالاتفاقية نصت على سكان إيرلندا الشمالية أن يكونوا "إيرلنديين أو بريطانيين أو كليهما وفقاً لما يختارون". وألغت بذلك العدمية التي تأتي من ضرورة أن يكون الشخص هذا الأمر أو ذلك، وسمحت بالتنوع والتعدد وأن يكون للشخص أكثر من هوية واحدة. وتكمن المفارقة أن ما يهدد الاتفاقية الآن هو انتقال هذه المشاعر القومية الاستئصالية إلى إنكلترا التي تطالب بالحد من التنوع والتعددية التي سادتها من خلال عضويتها في الاتحاد الأوروبي.



ويضاف إلى ذلك، أنّ الاتفاقية لم تجلب السلام فقط إلى إيرلندا الشمالية، بل هدفت أيضاً إلى حماية الحقوق المدنية للأقلية الكاثوليكية التي عانت التمييز على مر العقود. وعلى الرغم من وجود العديد من النقاط الخلافية ذات المنشأ الطائفي في الإقليم، ومنها قضية اللغة الإيرلندية، إلا أن النقاشات حولها لا تزال تدور ضمن الأطر الديمقراطية التي وضعتها الاتفاقية قبل عشرين عاماً.

وعلى الرغم من تجاوز إيرلندا الشمالية مرحلة الصراع، إلا أنها لم تتجاوز مرحلة الطائفية السياسية. ورغم ذلك لا تزال أساس السلم الذي تعيشه الجزيرة الإيرلندية، وأحد أسس الوحدة والتقارب الأوروبيين، كما يعكسها الاتحاد الأوروبي. وتوفر هذه الاتفاقية العديد من الدروس التي يمكن لمناطق تسودها الطائفية وعدم قبول الآخر الاستفادة منها.

دلالات
المساهمون