تحولات قومية في ألمانيا والنمسا: تطبيع مع اليمين المتطرف؟

25 فبراير 2018
مناصرون لـ"البديل" الألماني يتظاهرون ضد الحكومة (جون ماكدوغال/فرانس برس)
+ الخط -
تثير التطورات الأخيرة في النمسا وألمانيا، وتزايد المجاهرة بالتحوّلات اليمينية القومية المتطرفة، الهواجس داخل البلدين وفي دول أخرى. الخشية من انتشار التعصب القومي ليست فقط بين صفوف اليسار والمهاجرين أو أقليات دينية محددة، بل من تغير وجه القارة العجوز ولو ببطء نحو "التطبيع مع التعصب القومي"، بما ينسف الكثير مما تنص عليه الدساتير حول الحقوق والمواطنة ومفاهيم الديمقراطية، كأرضية صلبة تشمل الجميع. ومنذ بداية عام 2016، يلاحظ المتابعون جرأة كبيرة في التعبير عن آراء، كانت حتى الأمس القريب شبه محظورة، إن كان برقابة ذاتية، كحال ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945، أو بقوانين تحظّر النازية وتمجيدها.

في ألمانيا، التي يعدها القوميون المتطرفون "الشقيق الأكبر"، لا يحتاج المتابع للتدقيق كثيراً في متغيرات الخارطة السياسية باتجاه اليمين القومي المتشدد. نتائج انتخابات سبتمبر/أيلول الماضي ماثلة بتقدّم حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي تأسس في 2013، مقابل تراجع وتخبط في أوساط الأحزاب التقليدية، إلى جانب ما رشح أخيراً عن توجّه "البديل" للتعاون مع حركة "بيغيدا" العنصرية. كما تشير آخر استطلاعات الرأي (آخرها أعلن الأربعاء الماضي) إلى أن "البديل" بات يتجاوز في الاستطلاعات الحزب "الاجتماعي الديمقراطي" بفارق نصف نقطة، بحصوله على نحو 16 في المائة ليحل في المرتبة الثانية بين الأحزاب، وفقاً لاستطلاع مجلة "بيلد"، فيما "شبيغل" تمنحه 14,7 في المائة.

النمسا... تطرف أكثر
كشفت صحيفة "كورير" واسعة الانتشار قبل أيام عن وجه آخر من أوجه التطرف الذي ينتهجه حزب "الحرية" المتطرف في النمسا، والمشارك في الحكم مع حزب "الشعب" المحافظ. اتحاده الطلابي، تحت رئاسة هيرفيغ غوتشوبر المقرب من وزير البنى التحتية والمواصلات نوربرت هوفر، الذي كاد أن يصل إلى سدة رئاسة النمسا في انتخابات 2016، يستخدم اليوم أناشيد قومية متطرفة، ومنها "أيها الألمان هاتوا الغاز ونحن نصل للمليون السابع"، وهي إشارة واضحة بحسب "كورير" إلى طلب المزيد من المحارق. ما تنقله "كورير" عن تأثير البروباغندا النازية ليس بالشيء البسيط، في بلد خرج منه أدولف هتلر، وارتبط بعلاقة مثيرة للجدل مع ألمانيا، وانتشار الحنين إلى ماضٍ إمبراطوري جمع البلدين.

الأصوات المحذرة، في ألمانيا والنمسا وغيرهما، من ارتفاع منسوب معاداة السامية والمجاهرة بكراهية الأجانب، لا تركز على قضية معاداة اليهود في هذا الخطاب، فكل من يختلف عن هذه النازية القومية المتعصبة مستهدف، وفقاً لخبراء ومختصين بتطور اليمين المتطرف. وحين تشير صحيفة نمساوية إلى "حماية هوفر لمساعده الإعلامي غوتشوبر" ففي ذلك إشارة إلى مخاطر وصول التطرف إلى قمة هرم الحكم.
وما ينطبق على النمسا يسري على ألمانيا، التي يتقدّم فيها الخطاب المتطرف، إلى حد ذهاب القيادي في حزب "البديل" ألكسندر غاولاند إلى أن "الألمان لهم الحق بالافتخار بجهود جنودهم في الحربين العالميتين". ولا يتردد الرجل بالتفاخر بالتجربة النمساوية، بوصول اليمين للحكم، وهو يأمل أن تحمل الأيام لألمانيا تصدر اليمين القومي لسدة الحكم في برلين.

عجز الاتحاد الأوروبي
قصة العلاقة النازية باليمين المتطرف ليست جديدة في النمسا، إلى جانب أن فيينا باتت خلال السنوات الماضية نقطة جذب لمعظم اليمين القومي المتطرف لنسج علاقات بينية، تتخذ أحياناً من معاداة مؤسسة الاتحاد الأوروبي في بروكسل غطاء لها، برفع شعار قاسم مشترك بينها هو "وقف أسلمة أوروبا" و"غزو اللاجئين"، بتنسيق حزبي وإعلامي، يتخذ أحياناً طابع الحملات.
على مستوى المؤسسة الأوروبية ثمة ملاحظات يطرحها المهتمون بتقدّم اليمين المتطرف.

فالباحث الدنماركي في هذا المجال، هانس يورغن كريستيانسن، يذكّر في حديث لـ"العربي الجديد" بقضية يورغ هايدر (الزعيم السابق لحزب الحرية النمساوي الذي مجّد الحقبة النازية) قائلاً: "كان امتعاض الاتحاد الأوروبي غير ما هو عليه اليوم، فبسبب هايدر اتخذت بروكسل خطوات عقابية بحق فيينا". ويضيف كريستيانسن: "التدقيق بتصرفات بروكسل في السنوات الأخيرة يصيب بالدهشة، تحديداً في قضية صلات الزعيم السابق لحزب الحرية، هاينز كريستيان ستراشي، مع النازيين الجدد. اليوم تراهم يستقبلون المستشار النمساوي سيباستيان كورتز كزميل لهم، على الرغم من أنه يقود حكومة مع مشبوهين في صلاتهم النازية".

يبدو الجديد والمتطور، في أوروبا 2017-2018، المجاهرة في طلب استعادة "وحدة مضلّع ألمانيا"، فبعد اتحاد شطريها الشرقي والغربي، يردد هؤلاء (في اليمين المتطرف) أن المهمة المقبلة هي "استعادة وحدة الإمبراطورية النمساوية الألمانية". وفي اجتماعاتهم، وفقاً لصحيفة "كورير"، يمجد هؤلاء الفكر القومي المتشدد بالهتاف صراحة بـ"تحيا الإمبراطورية الألمانية النمساوية".
يذهب المؤرخ في جامعة كوبنهاغن، أوفه أوسترغورد، إلى اعتبار التطورات التي شهدتها النمسا منذ 17 سنة خطيرة مع ما رافقها من تطورات في المشهد الألماني، إذ "لم تعد تسمع عن أن هذه الأحزاب الشعبوية تهدد الديمقراطيات الأوروبية، بل يُنظر إليها بقبول، بناء على ذات الديمقراطية التي كانوا يرونها مهددة عبرهم".
أما عضو البرلمان الدنماركي، المرشح اليساري للبرلمان الأوروبي، نيكولاي فيلومسن، فيرى في حديث لـ"العربي الجديد" أن "المشهد المقلق يرتبط بميل معسكر يسار الوسط في القارة الأوروبية إلى يمين الوسط".



تحولات يسار الوسط

ويدق الباحثان في "تحوّلات الاجتماعيين الديمقراطيين أوروبياً"، آرنا شيللر وألان راسموسن، ناقوس خطر توسع التوجّه القومي، "فأحزاب يسار الوسط، الاجتماعيين الديمقراطيين، مرت خلال السنوات الماضية بعملية تغير واضحة، واتجهت تحت شعار الوردة الحمراء من يسار الوسط نحو تبنّي أفكار يمين الوسط، وغاب خطاب الطبقة العاملة التضامني عن سياستها، وبالتالي بالتأكيد سنرى أيضاً ميلاً أكثر نحو اليمين، ما يعكس نفسه في مواقف متراخية من تطورات ألمانيا والنمسا وغيرهما".
ويؤكد الباحثان أن التقدّم اليميني "ليس بالضرورة انعكاساً لأزمات داخلية، بل بنيوية مرتبطة بالحركات والأحزاب، وبالتأكيد بالمؤسسة الأوروبية نفسها، التي يتم التسويق على أنها تسلب السيادة، وعليه تتحرك (الأحزاب) عابرة للحدود تحت يافطة خطاب متشابه ومتلون في برلين وروما وباريس وفيينا".

تقدّم هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة، وبعضها في ألمانيا والنمسا ودول شرق أوروبا، مع تبنٍّ ولو خجولا لمواقفها من أحزاب الوسط، قد يدفع هذه الجهات لمراجعة طلب الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، "خصوصاً بعد تبنّي دول في الاتحاد لما بشّرت به هذه الأحزاب، فحزب البديل الألماني يرى أن التقدّم اليميني في أوروبا يخدم الاتحاد الأوروبي، وتلك مفارقة مثيرة"، بحسب الباحث كريستيانسن.

يستخدم "البديل" المتشدد في ألمانيا بدهاء حصوله على نحو 6 ملايين صوت، في انتخابات سبتمبر/أيلول الماضي، وزيادة التأييد له بحسب استطلاعات الصحف الأسبوعية. ويسوق اليوم لأزمة الحكم والأحزاب الألمانية كـ"نتاج لسياسة دفعت بها الأحزاب الحاكمة من شعار ميركل الترحيبي"، وفقاً للباحث كريستيانسن. وما يأمله "البديل"، وغيره من اليمين القومي الأوروبي، من هذه السياسة هو "جعل الناخب العادي في وضع لا يرى فيه فوارق بين يمين الوسط واليمين القومي المتشدد"، على ما تقول الباحثة في جامعة فيينا سارا غنورر لـ"العربي الجديد". وتضيف: "سواء تعلق الأمر بما يحدث هنا مع الأحزاب المتشددة، أو في ألمانيا والدول الشمالية، فنحن أمام ناخبين غير راضين عن الأحزاب الكبيرة والتقليدية في المشهد السياسي، وهذا يُستغَل بشكل انتهازي واضح".

قبل سنوات لم يظن كثيرون بأن تأثير اليمين القومي سيتجاوز الاحتجاج، لكن التمعّن اليوم بالخريطة الحزبية الأوروبية يكشف شيئاً مختلفاً. فعدا عن تأثيره في القوانين وجر المجتمعات، ولو بنسب متفاوتة، لاستعادة خطاب قومي متعصب، يقوم على اللون والدين والعرقية، تُظهر الاستطلاعات نتائج متغيرات يخاف أوروبيون آخرون من نتائجها.
اليوم يحذر السياسي النمساوي المحافظ، الوزير السابق ومفوض الزراعة الأسبق في الاتحاد الأوروبي، فرانز فيشلر، من أن "الاتحاد الأوروبي على الحافة في قضية التطرف القومي، والوضع أشبه بأن يكون متأخراً جداً، فليس هناك مبادرات جدية"، مضيفاً: "القومية تهديد للفكرة الأوروبية، والمشكلة أن (رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود) يونكر يقدّم مقترحات لا يطبقها رؤساء الحكومات". ويمضي فيشلر بتحذيره في صحيفة "كورير" قائلاً: "إذا استمر الأمر على هذا النحو وباستخدام فرامل اليد، سنصل إلى نقطة حرجة، فمن المفترض أن يكون الازدهار الاقتصادي دافعاً لإبعاد الشعبوية إلى الخلف وخفض تأثيرها".

إشارات مقلقة
ولا يقتصر تمدد اليمين المتطرف على النمسا وألمانيا، ففي السويد مثلاً، يُقدّم حزب "ديمقراطيو السويد" نفسه على أنه يمين تقليدي، بيد أن مواقف قياديين فيه لا تختلف كثيراً عن مواقف القوميين الأوروبيين المتطرفين في القارة العجوز. وفي العام 2014 حصل الحزب على نحو 13 في المائة من الأصوات، في حين تمنحه استطلاعات الرأي اليوم 19 في المائة من التأييد.
في إيطاليا أيضاً، تقدّمت حركة "النجوم الخمسة" من 25 في المائة في انتخابات 2013 إلى نحو 28 في المائة في استطلاعات صيف 2017. أما "رابطة الشمال" فتقدّمت من 4 في المائة في 2013 إلى نحو 15 في المائة عام 2017. وفي هولندا يحافظ حزب "الحرية" على نسبة تأييد تقارب 13 في المائة. وفي فرنسا تعطي الاستطلاعات "الجبهة الوطنية" ما لا يقل عن 17 في المائة.