مدن عراقية خارج الخريطة: مدنيون ممنوعون من العودة لمناطقهم

23 ديسمبر 2018
(رولا الحلبي)
+ الخط -


لا يزال ملف المدن والبلدات العراقية التي تسيطر عليها فصائل مسلحة وترفض الانسحاب منها وإعادة سكانها إليها، بلا أي حلول، على الرغم من وعود قوى عراقية فاعلة في المشهد السياسي، قبيل الانتخابات البرلمانية منتصف العام الحالي، وخلال مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، بتحريك هذا الملف، للسماح بإعادة هؤلاء السكان الذين يُقدّر عددهم بنحو 900 ألف عراقي، يتواجد أغلبهم داخل مخيمات ومعسكرات.

وتؤكد مصادر حكومية رفيعة وأخرى حقوقية في بغداد، وجود ما لا يقل عن 20 بلدة عراقية ما زال أهلها في المخيمات، على الرغم من تحريرها، بينها بلدات مضى على طرد تنظيم "داعش" منها أكثر من 4 سنوات. وتعرضت أغلب تلك المدن والقرى، إلى عمليات نهب وحرق واسعة على يد المليشيات المسلحة، التي كانت ترافقها في الغالب فرق مستشارين من الحرس الثوري والباسيج الإيراني خلال عمليات انتزاع السيطرة على تلك المناطق من "داعش"، بين نهاية عام 2014 وحتى مطلع 2017. وطاولت هذه العمليات، المنازل والمباني الحكومية والعامة والمتاجر والأسواق وحتى المزارع والبساتين، فضلاً عن المدارس والمراكز الصحية والمستشفيات والمساجد، وحتى المقابر في بعض المناطق. وتم توثيق الكثير من عمليات الحرق والنهب تلك بالفيديو والصور، بعضها بُث بشكل مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أفراد في تلك المليشيات.
ولغاية الآن، تمنع تشكيلات أمنية وفصائل مليشيات "الحشد"، وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانية من دخول تلك المناطق، ووصل الأمر في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى منع فرق تتبع بعثة الأمم المتحدة وتعمل على نزع الألغام وتوثيق الجرائم، من دخولها.

مناطق بيد "الحشد"
وتكشف تقارير عسكرية عن قيادة عمليات الفرات الأوسط ونينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى، صادرة بين سبتمبر/أيلول 2016 ويونيو/حزيران 2018، اطلعت "العربي الجديد" عليها، أن هناك عدداً كبيراً من المدن والمناطق العراقية التي على الرغم من تحريرها، لا يزال أهلها ممنوعين من العودة إليها، وتتخذها مليشيات "الحشد" كمعسكرات لها، وتمنع دخول أي طرف آخر، بما فيها المنظمات الدولية العاملة على رصد جرائم "داعش"، ووسائل الإعلام، والمنظمات الإنسانية العاملة في مجال رفع الألغام ومعالجة آثار الحرب وتأهيل بعض المشاريع الإنسانية.

وبحسب مسؤول رفيع في مكتب رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، تحدث لـ"العربي الجديد" خلال تواجده في الأردن، فإن أبرز هذه المناطق هي: جرف الصخر والجانبيين والقراغول في محافظة بابل جنوبي العراق، ويثرب وسلمان بيك ومجمع الصينية وذراع دجلة ومنطقة خط اللاين والحاتمية وعزيز بلد في صلاح الدين شمال العراق، وجديدة عرعر وبيار الحجاج ومجمع النخيب ومضارب علي والخمس بيوت ومكر الذيب والشاميات والعوينات والزاوية والفرحاتية والعويسات في محافظة الأنبار غربي العراق، والرشاد وأطراف الرياض و25 قرية عربية في محيط مدينة طوزخورماتو و12 قرية بمحيط مدينة داقوق و39 قرية على امتداد سلسلة جبال حمرين في محافظة كركوك شمال العراق. إضافة إلى مناطق الشيشان والجميلات وسنسل وبز الشاخة ونهر الإمام والمخيسة والشطر الغربي من مدينة أبي صيدا ومنطقة شروين الصغيرة وشروين الكبيرة والطبج وسد العظيم، ونصف مدينة بهرز ونواحي الخالص في محافظة ديالى شرقي العراق، و24 قصبة وقرية عربية مسيحية ومسلمة وآشورية وكردية وأيزيدية في سهل نينوى، إضافة إلى مناطق جبل سنجار والكرسي وعين الحصان ونصف تلعفر وأطراف الشرقاط والسن على الحدود مع سورية ضمن محافظة نينوى شمال العراق.

ويلفت المسؤول نفسه إلى أن "90 في المائة من تلك المناطق تسيطر عليها مليشيات الحشد، وهي العائق الوحيد أمام عودة السكان إليها، بينما 10 في المائة من تلك المناطق هي محل خلاف بين بغداد وأربيل، وفيها أنشطة لحزب العمال الكردستاني ذات طابع عسكري وكذلك البشمركة"، مضيفاً أن "هناك مناطق من نسبة العشرة في المائة هذه، فرضت فيها عشائر محلية سطوتها وتمنع عودة السكان إليها، وتطالب بديات عن قتلى لها سقطوا على يد داعش، تصل إلى 100 مليار دينار، كما حال مدينة يثرب"، مشيراً إلى أن "تلك العشائر أيضاً مسنودة من قبل الحشد الشعبي".


وتكشف مصادر محلية عراقية أنه تم إصدار مذكرات اعتقال بتهم الإرهاب بحق عدد من أعيان تلك المناطق، بسبب حراكهم خلال الأسابيع الماضية باتجاه السفارة الأميركية وبعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لإعادة الحياة إلى مدنهم، من بينهم الشيخ نايف العودة، أحد أعيان جرف الصخر، والذي اضطر على أثرها إلى وقف تحركه والعيش في أربيل هرباً من الاعتقال. وكذلك الحاج سعدون عبد الهادي، أحد أعيان يثرب، الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال بتهمة الإرهاب، وبسبب سفره إلى تركيا جرى اعتقال نجله في بغداد.

وتحدث مسؤولون عراقيون أخيراً عن ملف المدن التي باتت تعرف محلياً بمصطلح "بره الخريطة" (أي خارج الخارطة السكانية للعراق) بقولهم إنها ترتبط بإيران، من بينهم رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، الذي أكد وقوف إيران وراء عدم إعادة الحياة لبلدات عراقية تحت سيطرة "الحشد الشعبي". وأوضح أنه بناء على وساطة منه، توجّه قائدان في "الحشد" إلى إيران لمناقشة موضوع جرف الصخر، هما هادي العامري وأبو مهدي المهندس، وأن أحدهما قال له إن الإيرانيين طلبوا منه أن يتحدث بهذا الشأن مع شخص يعيش في لبنان، متسائلاً "ما علاقة إيران ولبنان؟".

أوضاع إنسانية صعبة

وعن الوضع الإنساني للسكان المهجرين من تلك المناطق، يقول مدير منظمة "تعاضد" المعنية بشؤون النازحين، فراس عبد الرحمن، لـ"العربي الجديد"، إن ما لا يقل عن 100 عراقي، أكثر من نصفهم أطفال من أهالي المدن المحررة التي ترفض المليشيات إعادة الناس إليها، "توفوا في المخيمات منذ مطلع العام الحالي بسبب الجوع أو البرد أو المرض والحرق والصعق الكهربائي"، مشيراً إلى أن "منازلهم ومدنهم موجودة، لكنهم يعيشون في الخيام منذ سنوات، فيما قللت الحكومة الدعم عنهم من دون معرفة الأسباب". ويلفت إلى أن حالتهم صعبة للغاية، "والأصعب منها أن مواطناً في بلده يُطرد من منزله ومدينته ويُحتجز في الصحراء، ولا ينصفه أحد".

من جهته، يروي فراس العيساوي، وهو أحد النازحين من بلدة العويسات الواقعة بين الفلوجة وبابل، لـ"العربي الجديد"، إنّ "منطقتنا حُررت في بداية الحرب على داعش، ولكن لم نستطع العودة إليها حتى اليوم، إذ إن مليشيا حزب الله منعتنا من الدخول إلى المنطقة"، مشيراً إلى أنه يعيش مع آخرين حالياً في غرفة داخل مدرسة، ويحبسون أنفسهم فيها مع بدء الدوام المدرسي ولا يُسمح لهم حتى بالخروج للحمام إلا بعد خروج الطلاب.


الحكومة غائبة

تُعتبر مليشيات "كتائب حزب الله" العراقية، و"العصائب"، و"النجباء" و"الخراساني" و"البدلاء" و"الإمام علي"، و"جند الإمام"، و"أنصار المرجعية"، و"الإمام الغائب"، و"بدر"، أبرز الفصائل المتورطة في هذا الملف وهي تشترك في كونها أوثق الفصائل ارتباطاً بإيران.
ويقول النائب السابق والقيادي في "ائتلاف الوطنية" بزعامة إياد علاوي، عبد الكريم عبطان، لـ"العربي الجديد"، إنّ "جرف الصخر ومنطقة العويسات، ومناطق كثيرة في ديالى، ومناطق من كركوك وشمال صلاح الدين وجنوبه، لم يعد أهلها إليها"، موضحاً أن "بعض هذه المناطق لم تعد ولا حتى عائلة واحدة إليها، وأخرى تفاوتت نسب العودة إليها ما بين 30 و70 في المائة من عدد النازحين"، مضيفاً "نحن نريد عودة كل النازحين وعوائلهم لكي يعيشوا بكرامة في مناطقهم".

أما القيادي في "جبهة الحوار الوطني" حامد المطلك، فيؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "هناك جانباً وطنياً وإنسانياً، وفيه مسؤولية كبيرة على القوى السياسية والأحزاب والحكومات، ويجب أن تنتهي هذه المهزلة". ويحمّل المطلك الحكومة مسؤولية عدم عودة سكان هذه المناطق، "لأنها لم تطبّق القانون، وهذا أمر خطير للغاية، فالإنسان عندما لا يجد من يُؤمِن له للاطمئنان على أملاكه ورزقه وأهله، كيف فيكون مواطناً صالحاً؟". ويلفت إلى أن "هناك أيضاً مناطق في الأنبار، لكن القضية هناك ليست بمستوى المحافظات الأخرى، مثل ديالى وبابل وصلاح الدين مثلاً، كون الأنبار كبيرة جداً والسكان هناك متكاتفين ويساعد أحدهم الآخر".

من جهته، يقول الناشط المدني محمد الطائي، إنّه "بعد تحرير المناطق، قامت مليشيا الحشد الشعبي والفصائل التابعة لها بالاستيلاء على أراضي أهالي هذه المناطق ومنازلهم، بعد أن غادرها أهلها، وتعددت أسباب هذا الاستيلاء لكن النتيجة واحدة، وهي حرمان الأهالي من العودة". ويلفت الطائي في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "بعض دوافع المليشيات هي التغيير الديمغرافي، وهي باشرت فعلاً بإحداث تغيير ديمغرافي في محيط سامراء في مناطق لم يعد أهلها إليها، وتم استقدام عائلات من الجنوب مع مواشيها للسكن في تلك المناطق تحت مزاعم عدة من بينها موسم الرعي أو الحصاد وغيرها"، مشيراً إلى أن "هناك أدلة تثبت أن تلك المناطق دُمرت على يد المليشيات حرقاً أو نهباً وتدميراً، وأخرى تحولت إلى معسكرات ومخازن سلاح ومعتقلات تابعة للحشد الشعبي". ويضيف أن من أسباب منع عودة الأهالي، "الانتقام بدوافع طائفية، كما هو الحال في جرف الصخر والقراغول وعزيز بلد، أو للتوسع الإداري كما هو الحال في مدينة النخيب الحدودية مع السعودية، فعلى الرغم من أنها تابعة للأنبار، لكن تحكمها كربلاء بعد استيلاء مليشيات الحشد عليها".


شارك في التغطية من ديالى: فاطمة أحمد