تحوّلت مدن أعالي الفرات غربي محافظة الأنبار العراقية، والمعزولة بشكل شبه كامل عن وسائل الإعلام المحلية والدولية، إلى ساحة لشتّى أنواع الانتهاكات التي تمارسها فصائل مسلحة، تتبع مليشيات "الحشد الشعبي"، وقوات عشائرية، أبرزها "حشد العبيد" و"حشد الجغايفة". سكان تلك المناطق، الذين يقعون ضحية هذه الانتهاكات، بدأ عدد كبير منهم، خصوصاً من ميسوري الحال، النزوح مجدداً منها للتخلّص من سطوة تلك الفصائل التي تتنوّع انتهاكاتها، وفقاً لفكر وتوجّه هذا الفصيل أو ذاك. إلا أنّ الأطراف المسلحة كافة تشترك في شيء واحد وهو الابتزاز المالي، والاعتقال بلا مذكرات قضائية، وفرض سياق ديني واجتماعي معيّن، والتدخّل في شؤون الدوائر الحكومية وعمل الشرطة التي باتت الحلقة الأضعف في تلك المناطق. وتشمل مناطق أعالي الفرات مدن هيت وعانة وراوة وآلوس وجبة والبغدادي والقائم وحصيبة الحدودية مع سورية، والرطبة مع الأردن، وصولاً إلى النخيب وجديدة عرعر الحدودية مع السعودية. وتتبع تلك المناطق إدارياً لمحافظة الأنبار التي تشكّل ما نسبته 33 في المائة من مساحة العراق.
ويؤكد مسؤولون عراقيون أنّ تلك الفصائل "ليس لها أي عمل عسكري" منذ هزيمة تنظيم "داعش" وشروع القوات العراقية في عمليات تطهير بقاياه وجيوبه في صحراء المحافظة، مشددين على أنّ عدداً من عمليات السطو المسلح على منازل الأثرياء في المنطقة وعلى محال الصرافة، تقف وراءها عناصر تابعة لفصائل من "الحشد" ولقوات عشائرية، تورّطت في الجرائم هناك وإلى حد كبير في مدينة القائم الحدودية مع سورية.
مضايقات بلا محاسبة
يقول سكان محليّون إنّ مليشيات "لواء الطفوف" و"حزب الله" و"الخراساني"، منعتهم من إقامة حفلات الزفاف منذ مطلع شهر محرّم (11 سبتمبر/أيلول الماضي)، وهدّدت باعتقال كل من يستمع للأغاني في منزله أو محله أو سيارته، مشيرين إلى أنّه تم اعتقال شاب يرتدي قميصاً زهري اللون بدعوى عدم احترام شعائر شهر محرّم، بينما أقيمت مواكب عزاء في المدينة كما في باقي مدن أعالي الفرات المجاورة، من قبل تلك الفصائل ومن مواطنين يسعون لمجاملتها والحصول على حصانة من الاعتقال أو المضايقة.
ويوضح ضابط في مركز شرطة القائم، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، أنّ "تلك المليشيات استغلت وجودها في حاجز كيسان الأمني، وهو حاجز مشترك يضم مع الحشد قوة من الشرطة، وضغطت على حرية المواطنين بشكل كبير، ومنعتهم مع بداية شهر محرم من سماع الموسيقى أو الأغاني"، مشيراً إلى أنّ "الأهالي اعترضوا على ذلك، على اعتبار أنّ داعش أيضاً كان يمنعهم من الموسيقى". ويؤكد أنّ "الجهات الأمنية لم تستطع منع الحشد من هذه التصرفات، أو الوقوف ضدهم، لأنهم (الحشد) سيقومون بتصفيتنا أو نقلنا خارج المنطقة".
ووفقاً لمسؤول محلي في الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، تحدّث عبر الهاتف لـ"العربي الجديد"، مشترطاً عدم ذكر اسمه، فإن "10 فصائل مسلحة تختطف أعالي الفرات وتفرض قوانينها على السكان وتتدخّل في حياتهم الاجتماعية والدينية، وقد تدخّلت أخيراً في الخطب التي تُلقى أيام الجمعة"، مبيناً أنّ تلك الفصائل تعتقل بلا مذكرات اعتقال قضائية، وتعذّب وتبتز الناس وتفرض عليهم جوانب عقائدية"، مضيفاً "الأمر لا ينحصر في الحشد الشعبي فقط، بل هناك قوات تابعة لعشيرتي العبيد والجغايفة تتورط في الأمر، في ما يتعلق بالابتزاز والتسلّط على الناس". ويتابع "نعتقد أن عدداً من عمليات السطو المسلح التي طاولت مكاتب صرافة ومحال تجارية ووكالات بيع مواد إنشائية ومنازل أثرياء، تورّط فيها عناصر من مليشيات الحشد الشعبي، فلا أحد غيرهم قادر على التحرك علناً في وضح النهار، والجيش يتجنّب الاصطدام بهم، فيما رئيس الوزراء حيدر العبادي حالياً منشغل بلملمة أوراقه لمغادرة المنطقة الخضراء ولا يريد الدخول في معركة أخيرة خاسرة مع الحشد".
ويؤكد مسؤولون في المحافظة، أنّ شكاوى كثيرة وردت إلى البرلمان بشأن انتهاكات "الحشد الشعبي". وفي هذا السياق، يقول النائب عن المحافظة، فالح العيساوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "شكاوى كثيرة وردت إلى مكاتبنا وحتى إلى البرلمان، حول تجاوز قسم من فصائل الحشد الشعبي على أبناء المحافظات الغربية، ونقصد منها الأنبار، وكذلك الموصل وديالى". ويوضح أنه "تم تشكيل لجان قبل هذه الفترة من قبل رئيس مجلس النواب، لمعرفة الخلل، وتقصير قيادة الشرطة وقيادة العمليات، حول التجاوزات بحق المواطنين"، مشدداً على "أننا لن نسمح لأي فصيل مهما كان اسمه حتى لو كان من الفصائل التابعة لهيئة الحشد، بالتجاوز على حرية الناس وكرامتهم، وسنفرض عقوبات على كل من تجاوز على أبناء تلك المحافظات وعلى أبناء العراق جميعاً"، داعياً رئيس الحكومة إلى "ضبط القوات العراقية، سواء كانت من الجيش أو الشرطة أو حتى فصائل الحشد الشعبي، التي أصبحت تابعة للمنظومة الأمنية العراقية".
من جهته، يقول أحد وجهاء القائم، الشيخ صباح المحلاوي، إنّ "سبب بقاء قوات الحشد في المحور الغربي للأنبار، هو الذهاب إلى سورية والعودة منها لتنفيذ مهامها العسكرية"، موضحاً أنّهم "لا يسيطرون على الحدود في القائم، ولديهم منفذ خاص بهم يدخلون ويخرجون من خلاله إلى سورية". ويشير، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ "الحشد لم يقم بأي ردٍّ على أي هجوم لداعش، كما لم يقم بأي هجوم عليه"، مضيفاً "هم متواجدون في معسكراتهم في الصحراء جالسين داخل مقراتهم، ولم ينفذوا واجبات عسكرية، عدا مضايقة المواطنين". ويلفت إلى أنه عقد مؤتمراً عشائرياً في القائم قبل فترة، حضره قادة الجيش، "وحاولت التنسيق معهم للحد من تحركات وتصرفات الحشد غير المقبولة، لكن لم أستطع ذلك، إذ أنّ الحشد اتصلوا بي هاتفياً، ووجهوا لي كلاماً شديداً وتهديداً".
تجارب مرّة
في مدينة هيت، أولى مدن أعالي الفرات العراقية، يرقد سالم طعمة الهيتاوي (26 عاماً) في منزله منذ أسابيع بعد تعرّضه لضرب مبرح عند حاجز تفتيش قرب المدينة يتبع لأحد فصائل "الحشد الشعبي". يروي الهيتاوي لـ"العربي الجديد"، أنه كان يتحدث عبر الهاتف عند حاجز التفتيش مع والده، لكن عناصر "الحشد" أنزلوه من السيارة بدعوى عدم احترام الحاجز وصادروا هاتفه ثم أوسعوه ضرباً، ما أدى إلى حدوث نزيف حاد في بطنه. ويضيف "الانتهاكات هنا لا أحد يسمع بها، وإذا اعترضت يقولون إنك داعشي، وعليك قبول الإهانة أو الرحيل".
أما المواطن خالد السلماني، فيقول لـ"العربي الجديد"، إنّه "منذ بداية تحرير القائم وحتى اليوم، لم تتوقف المضايقات بحق المواطنين، كما أنّ هؤلاء العناصر قاموا بمصادرة آليات العمل الكبيرة، كالجرافات، وينفذون عمليات تفتيش وتعرّض للمواطنين بكلام غير لائق، ونفّذوا اعتقالات عشوائية". ويطالب بـ"فرض القانون من قبل الجهات الأمنية التابعة لوزارة الدفاع والداخلية".
فيما يتحدث المواطن خالد الراوي، لـ"العربي الجديد"، عن أنّ "الحشد اعتقل ولده البالغ من العمر 14 عاماً، ثلاث مرات، وسبب الاعتقال هو أن اسمه (سفيان)، وقد تعرّض للتعذيب الجسدي والنفسي على يدهم". ويشير إلى أن "هذه الانتهاكات دفعتني إلى عرض منزلي للبيع، وقررت الذهاب إلى كردستان للإقامة فيها، حفاظاً على سلامة أبنائي".
يشار إلى أنّ الانتهاكات الكثيرة التي تورطت فيها مليشيات "الحشد"، في الأنبار وغيرها، والتي راح ضحيتها الآلاف بين قتلى ومختطفين، أُغلقت ولم يتم فتح ملفاتها حتى اليوم، في وقت ما زال فيه الآلاف من المختطفين مجهولي المصير.