لم تنته محنة مدينة الموصل العراقية، التي احتلها تنظيم "داعش" "الإرهابي" في يونيو/حزيران 2014، بعد انسحاب القوات العسكرية منها دون أي مواجهة تذكر مع عشرات الإرهابيين الذين دخلوها من بوابتها الغربية. ولا يزال عائق الخراب والتدمير في أغلبية أحياء الذراع اليمنى من نهر دجلة، الذي يقسم الموصل إلى نصفين، يحول دون عودة الحياة إليها، بالإضافة إلى نواح أخرى ضمن محافظة نينوى.
وحتى اليوم، لا تزال رائحة الجثث المتفسخة للمدنيين والأطفال القتلى بالقذائف والصواريخ العشوائية للطرفين المتقاتلين، تملأ أجواء المدينة القديمة، وهي أقدم أحياء الموصل من حيث البناء والعمران، وأكثرها ثراءً تاريخياً، بالإضافة إلى عدم توفر شبكات المياه والكهرباء، كما لم ترفع كامل أنقاض البيوت التي سقطت على ساكنيها، بالرغم من مرور أكثر من عام على تحرير الموصل من "داعش".
وفي مثل هذا اليوم في 2016، بدأت القوات العراقية بحملةٍ ضخمة لتحرير الموصل، قوامها أكثر من 100 ألف جندي وعنصر مليشيا، بإسناد جوي غربي واسع من خمس دول، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأستراليا وكندا، إضافة الى قوات برية خاصة أميركية وبريطانية وفرنسية، وكتيبتي مدفعية بريطانية وأخرى أميركية ثقيلة، عدا عن مستشارين من الباسيج والحرس الثوري الإيراني الذين يرافقون مليشيات الحشد العراقية، واستمرت المعركة نحو تسعة أشهر قبل طرد مسلحي "داعش" من المدينة.
وتشكّل العودة إلى الديّار، تحدياً صعباً لأهالي الموصل، الذين أنهكهم النزوح والتشرد في مناطق شمال العراق ووسطه، وللحكومة المحلية في نينوى، التي تبرر عدم امتلاكها ما يؤهلها للسماح بعودة أبناء المدينة. ولا يعني تحرير الموصل من الإرهاب، انتهاء الظروف المأساوية في المدينة، فكثير من أحيائها لم تعد سوى أطلال، وكثير من المنازل التي كانت شامخة، تحولت إلى تراب، اختلط الدم والبارود فيه.
وتقدر الحكومة العراقية المنتهية ولايتها حالياً، بحسب لسان المتحدث باسمها سعد الحديثي، قيمة الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية في نينوى بسبب سيطرة "داعش" على 40 في المئة من أراضي العراق منذ منتصف 2014، بحوالي 50 مليار دولار. وكان الأمين العام لمجلس الوزراء العراقي مهدي العلاق، كشف في وقت سابق، أن الحكومة وضعت خطة استراتيجية لإعمار مدينة الموصل، بعد تحريرها، في وقت أعلنت فيه وزارة التخطيط عن خطة لإعادة إعمار المناطق المحررة، من المقدر أن تكلف البلاد نحو 100 مليار دولار، وأن تستمر لمدة 10 سنوات.
في السياق، قال عضو المجلس المحلي في نينوى حسام العبار، إن "الجانب الأيمن من المدينة، وتحديداً منطقة الموصل القديمة، وهي آخر الأحياء التي شهدت معارك، وتميزت بكثرة الأنقاض والدمار الذي أصابها، بسبب القتال الشرس الذي شهدته من قبل التنظيم الإرهابي الذي تمسك بها حتى آخر رمق، توصلت فيها عمليات إعادة الإعمار اليوم، وتحديداً في ما يتعلق برفع الأنقاض، إلى رفع أكثر من 100 ألف طن، أي ما يعادل 60 في المائة من حجم الأنقاض الكلي، و2500 جثة، كما بدأت عمليات فتح الطرق والمدارس وإصلاح البنى التحتية"، واصفاً المراحل التي تعمل عليها المؤسسات الخدمية والعمرانية بـ"المتقدمة مقارنة مع العام الماضي".
وأضاف العبار، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المياه الصالحة للشرب تكاد تكون وصلت إلى أغلب مناطق الموصل، ولكن أزمة الكهرباء لا تزال عائقاً، إذ لا يزال الأهالي يعتمدون على خطوط المولدات، بالإضافة إلى ترميم المجاري الذي يحتاج إلى جهود وتمويل يفوق قدرات المجلس المحلي في نينوى".
ولفت المسؤول العراقي إلى أن "الأهالي لم يحصلوا على أي تعويض حكومي، ما اضطرهم إلى بناء بيوتهم ومحالهم التجارية على حسابهم الخاص، وعبر مساعدات بسيطة من المنظمات الإنسانية والخيرية".
من جهته، أشار المتحدث باسم العشائر العربية في نينوى، مزاحم الحويت، إلى أن "النازحين الذين عادوا إلى الموصل، وتحديداً إلى الجانب الأيمن، يشكلون 20 في المئة من العدد الكلي للنازحين، ما يدل على أن الخراب لا يزال قوياً في تلك الأحياء، وأن الأهالي لا يجدون الدعم المالي واللوجستي من الحكومة العراقية".
كذلك لفت الحويت إلى "النزوح العكسي الذي بات عادياً، بسبب عدم توفر الخدمات بشكل واضح، فالمياه الصالحة للشرب تتوزع بين المناطق بأسلوب التناوب بين المناطق، بالإضافة إلى أزمة تقنين الكهرباء، عدا عن المضايقات الأمنية من الجيش والشرطة واعتقال مواطنين بذرائع تتعلق بانتمائهم لداعش والعمل لصالحه كمصادر ومخبرين"، مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "النازحين من الموصل في إقليم كردستان يقدرون بـ200 ألف مواطن".
ولفت إلى "تقصير الحكومة المحلية في نينوى في تنفيذ عمليات إعادة الإعمار في الأحياء المنكوبة، إذ إلى الآن، لا تزال أقضية ونواحٍ عديدة في الموصل من دون خدمات أساسية وأمن"، معتبراً أن المشكلة هي أن "المبالغ المالية التي صُرفت على عملية الإعمار في الموصل، تعرضت لصفقات سياسية وفساد، وحتى الأموال الجديدة التي ستصرف في المستقبل ستكون عرضة لفساد المسؤولين".
وخلال جلسة البرلمان العراقي التي عقدت يوم الثلاثاء الماضي، كشف النائب الأول لرئيس مجلس النواب حسن الكعبي، عن قرب عقد مؤتمر استثمار في الأردن لإعادة إعمار المناطق المحررة من سيطرة تنظيم "داعش"، لكن برلمانيين رهنوا نجاح الإعمار بتعديل قانون الاستثمار في مجلس النواب.
وفي هذا الإطار، أوضح النائب عن تحالف "البناء" وليد السهلاني، أن "قانون الاستثمار يتضمن عددا من الفقرات التي تعيق جلب المستثمر، والتي يجب تعديلها"، موضحاً في تصريح صحافي أن "نجاح المؤتمرات المانحة، بما فيها مؤتمر الكويت الذي عقد بداية العام الحالي، والمؤتمر الذي سيعقد في الأردن لإعمار المناطق المدمرة، سيكون مرهوناً بتعديل عددٍ من فقرات قانون الاستثمار، وإلا فإن المؤتمرات المانحة لن تكون سوى زوبعة إعلامية، ولن تقدم شيئاً على أرض الواقع".
ويبدو أن خطة "إعمار الموصل" وغيرها من المدن العراقية التي شهدت معارك عنيفة استنزفت بنيتها وأرهقتها بالخراب، تقع ضمن جدول أعمال الحكومة العراقية الجديدة، إلا أن مصادر مقربة من الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة عادل عبد المهدي، أفادت بعدم قدرته على إجراء أي مشاريع عمرانية في تلك المناطق، بسبب غياب الدعم السياسي لقراراته، كونه لا ينتمي لأي جهة حزبية.
وقالت المصادر لـ"العربي الجديد"، إن "خطة الإعمار ستكون من أولويات الحكومة الجديدة، ولكن مشكلة كبيرة ستواجه عبد المهدي، هي عدم توفر الدعم والتأييد لقراراته المستقبلية التي ستشكل عقبة في كل تحركاته القادمة، فتوجهاته هي أن يفتح الباب للشركات الرصينة لإعادة إعمار المدن المنكوبة، لكن الأحزاب السياسية تريد أن تدفع بشركاتها الخاصة ومستثمريها في هذا الاتجاه، وهنا ستبرز المشكلة، لذا قد تتعطل العملية برمتها".
وتابعت المصادر أن "خطط عبد المهدي إذا جاءت على خلاف رغبة الأحزاب السياسية، ستتعرض المشاريع للرفض من البرلمان، وبالتالي سيكون مصيرها الإهمال، وقد يتم إفسادها بالكامل أو تأجيلها، وهو أمر من الممكن حصوله، تماماً كما حصل العام الماضي، حين تمّ إفشال الكثير من عمليات إعادة الإعمار في صلاح الدين والأنبار".
يذكر أن تنظيم "داعش" سيطر على الموصل في 14 حزيران/يونيو 2014. وبعد ثلاث سنوات، تمكنت القوات العراقية وقوات "التحالف الدولي" و"الحشد الشعبي"، من تحريرها، ما خلف دماراً هائلاً في البنى التحتية وأدى إلى نزوح نحو 920 ألف شخص من الموصل.