دياربكر الحالمة بالسلام تستعد لاستفتاء التعديلات الدستورية التركية

15 ابريل 2017
الحملات الانتخابية في دياربكر مختلفة عن باقي المدن(العربي الجديد)
+ الخط -


تسير الحياة بطيئة ومثقلة في مدينة دياربكر، التي تُعد عاصمة الحركة القومية الكردية في تركيا، وسط إجراءات أمنية مشددة اعتاد عليها السكان منذ عودة الاشتباكات بين أنقرة وحزب "العمال الكردستاني". لا شيء يدعو السكان إلى التفاؤل، ولا شيء يمكن أن يعوضهم خسائرهم المادية والمعنوية بعد الاشتباكات التي اندلعت إثر دخول "العمال الكردستاني" إلى المدينة وهزيمته فيها على المستوى العسكري والشعبي. أهالي المدينة محبطون ومنكسرون، ويتجنّبون الحديث عن الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقرر غداً الأحد، فلا أحد يعلم من أين قد تأتي الضربة المقبلة. ولم تعد "الدولة الكمالية" وحدها الظالم الوحيد في ذاكرة الأهالي، بل انضم لها "العمال الكردستاني" وبالذات كوادر الجبل (قيادة قنديل) في ذاكرة مثقلة بالرعب والظلم والثورات.

خوف من عودة الاشتباكات
يبدو مطار دياربكر الدولي على حجمه الكبير والاستثمارات الضخمة فارغاً إلا من الطائرات التي تربط المدينة بمختلف المدن التركية. قرب مكان استلام الحقائب، ملصقات ترشد المواطنين إلى الطريقة الصحيحة للتصويت، فيما تغيب حملة حزب "الشعوب الديمقراطي" (الجناح السياسي للعمال الكردستاني) عن المناطق الجديدة ذات الأبنية المرتفعة في جنوب وغرب المدينة قرب نهر دجلة، والتي تسكنها الطبقة المتوسطة والغنية، كحي دجلة أو في أطراف المدينة على طريق المطار.
وتتوزع صور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى جانب الأعلام التركية على أعمدة الإنارة في الشوارع الرئيسية كأوتوستراد أورفا وأوتوستراد القامشلي، وكذلك لافتات حزب "العدالة والتنمية" المؤيدة للتعديلات الدستورية، التي تحتل معظم اللوحات الإعلانية، بينما تحتل لافتات حملة "الشعوب الديمقراطي" الرافضة للتعديلات، والتي بدت ضعيفة للغاية، بعض اللوحات الإعلانية في المناطق الفقيرة والمنهكة اقتصادياً قرب قلب المدينة.

في الطريق إلى المدينة، يقول سائق سيارة الأجرة لـ"العربي الجديد" بينما يشير إلى الأبنية الحديثة والعالية، التي تملأ جانبي الطريق: "كل هذا لا يزيد عمره عن العشر سنوات، لقد شهدت دياربكر تطوراً كبيراً خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، بات لدينا مطار جميل للغاية، لكن في السنة الأخيرة أصيب الاقتصاد بضربة كبيرة بعد عودة الاشتباكات، ولم يعد السائحون يأتون ولا المستثمرون، وبتنا نلزم منازلنا منذ التاسعة مساء".
في آمد كما يطلق عليها أنصار الحركة القومية الكردية بحسب اسمها السرياني، تغيب معظم الأحزاب السياسية التركية، ولا يبقى إلا "الشعوب الديمقراطي" و"العدالة والتنمية" وحزب "الدعوة الحرة" (وريث حزب الله الكردي الإسلامي). أما فرع حزب "العدالة والتنمية" في الولاية، فهو محاط بسيارات لشرطة مكافحة الشعب والقوات الخاصة، التي تحمي فروع الحزب الحاكم والمؤسسات الرسمية بعد تعرض بعضها لهجمات من قبل "الكردستاني".
وشهد عهد "العدالة والتنمية" أول اعتراف رسمي بوجود الأكراد ومنحهم بعض الحقوق الثقافية وإلغاء منع الحديث باللغة الكردية. وبالنسبة لدياربكر فقد كان إنزال اللوحة التي تحمل مقولة مصطفى كمال أتاتورك "كم سعيد ذاك الذي يقول إنني تركي" حدثاً هاماً، وعلى الرغم من ذلك تبقى صورة أتاتورك معلقة فوق السور قرب "داغ كابي" أي "باب الجبل"، وكذلك هناك صورة كبيرة وقديمة لأتاتورك بالزي العثماني على إحدى الأبنية قرب الباب.
ولا تختلف مدينة تيغرانكاريت، كما يطلق الأرمن على دياربكر، عن أي مدينة شرق أوسطية أخرى، أو أي مدينة تركية أخرى، إذ تتمدد فيها الطبقة المحافظة بشكل مضطرد. وبعد أن كان هناك مسيحيان (من سريان أو أرمن) بين كل ثلاثة من أبناء دياربكر عام 1915، لا يقطن ثاني مدن جنوب شرق الأناضول اليوم إلا الأكراد وقلة قليلة من العرب من أبناء المدن المحيطة بها إلى جانب بعض الموظفين القادمين من باقي المدن التركية وعدة عوائل أرمنية.
ويُفضّل أبناء المدينة، التي يقترب تعداد سكانها من المليون نسمة، الحديث باللغة التركية، بل لا يعرف نسبة كبيرة منهم اللغة الكردية بعد أن تم منع الحديث بالكردية في بداية التسعينيات إثر اندلاع تمرد "الكردستاني"، وذلك باستثناء المهاجرين الجدد من الأرياف.


توقعات برفض التعديلات

يؤكد معظم المراقبين الذين التقتهم "العربي الجديد" في المدينة، أن الأصوات الرافضة للتعديلات الدستورية ستتجاوز تلك المؤيدة لها. وبينما يُجمعون على أن نسبة المقاطعة ستكون ضعيفة للغاية، يؤكدون أن المعادلة ستعود إلى ما قبل انتخابات يونيو/حزيران 2015، والتي تراجع فيها "العدالة والتنمية" لصالح "الشعوب الديمقراطي". هذا الأمر يشير إليه الصحافي من دياربكر، عبد القادر كونوكسفر، الذي يقول لـ"العربي الجديد": "بطبيعة الحال ستكون الأصوات الرافضة للتعديلات الدستورية هي الأكبر، ولكن في الوقت ذاته، أتوقع أن يرفع العدالة والتنمية من حصته بأربع إلى خمس نقاط بما قد يوصل الأصوات المؤيدة إلى أربعين في المائة، وذلك بعد استعادته أصوات الكتلة الليبرالية والمحافظة من الأكراد، إثر الغضب الكبير من أداء الشعوب الديمقراطي وكذلك من العمال الكردستاني بعد الاشتباكات التي اندلعت في المدينة العام الماضي".

يبدو أبناء دياربكر متوجسين للغاية، ويتجنّبون الحديث في السياسة، منتظرين معرفة رأي محدّثهم قبل أن ينطلقوا، فيصمتون إن كان يخالفهم في الرأي ويتحدثون إن كان موافقاً لهم. توجس أبناء المدينة ليس من الاستخبارات والشرطة وحدها، لكن أيضاً من أنصار "العمال الكردستاني" وكوادره. ويبدو حديث محمد مع "العربي الجديد" معبّراً عن مدى التوجس والخوف من المستقبل، وهو أحد أبناء سور الذي دفعته الاشتباكات بين "الكردستاني" وقوات الأمن إلى الهرب من الحي. يقول محمد: "ولدت ونشأت في حي سور، أعيش على بعد 200 متر من الحي الذي تهدم معظمه، وهذا بحد ذاته غربة بالنسبة لي. فقدت منزلي، وأنتظر انتهاء أعمال البناء التي تقوم بها الدولة كي أعود، لكن ما يرعبني هو من أين ستأتي الضربة المقبلة لنا في المستقبل، من الدولة أم من العمال الكردستاني؟".
تدمرت كل الأبنية العشوائية داخل حي سور بسبب الاشتباكات التي اندلعت مع الجيش وقوات الأمن إثر محاولة "الكردستاني" السيطرة على قلب المدينة. وبينما أُعيد ترميم بعض الأحياء، تبقى معظم الأحياء مدمرة ويُمنع على أي مواطن دخولها، فيما تستمر الدولة التركية في أعمال إعادة الإعمار.
تحاول عائشة، الموظفة في أحد الفنادق، تجنّب الإدلاء برأيها في ما يخص التعديلات الدستورية، وتفتتح حديثها بالتأكيد على أنها لم تقرر بعد. ولكن بعد حديث لدقائق، تنطلق عائشة بالحديث، قائلة: "سأصوت بلا، ما زلنا نحاول أن نسير بالبلاد نحو التقدّم والاقتراب من الدول الأوروبية، لا أريد سيطرة الإسلاميين، انظر إلى مناطق أخرى من الشرق الأوسط حيث حكم الشريعة الإسلامية، لا أريد أن يعود حكم الإعدام إلى البلاد مرة أخرى"، لتنهي حديثها بشعار "الشعوب الديمقراطي": "لنصوت بلا ونربح جميعاً".
يُعبّر أهالي المدينة، بما في ذلك أجزاء واسعة من قواعد "الشعوب الديمقراطي"، عن انزعاج كبير من تصرفات كوادر الجبل، أي "العمال الكردستاني". ويُجمع الكثيرون على أن توجّه "الكردستاني" إلى المدن كان خطيئة كبيرة لا تُغتفر، وأنه يجب وقف العمل العسكري. يقول كنان، وهو من عائلة مؤيدة لـ"الشعوب الديمقراطي"، وأحد الذين أصابتهم شظايا التفجير الذي تبنّاه "الكردستاني" قبل أيام في إحدى ورش التصليح التابعة للأمن التركي في المدينة: "كل عائلتي مؤيدة للشعوب الديمقراطي وأنا كذلك، لكني أقسم بأني سأصوت لصالح التعديلات الدستورية، سئمنا من عمليات كوادر الجبل. أنا أب لطفلين وزوجتي ربة منزل، وكنت على وشك الموت في العملية الأخيرة".

التاريخ حاضر
يبقى التاريخ حاضراً دوماً في دياربكر، ويُفتح في كل استحقاق انتخابي. وشهدت دياربكر، قبل أيام، تعليق لافتة تشبه لافتات "العدالة والتنمية"، كُتب عليها إن "كل صوت بنعم يعني قراءة الفاتحة على روح الشيخ سعيد ورفاقه"، على الرغم من أن المسؤولين في حملة "العدالة والتنمية" نفوا علمهم بالأمر. والشيخ سعيد هو أحد شيوخ العشائر الكردية الذي قام بثورة على أتاتورك عام 1925 بدعم من عدد كبير من العشائر الكردية، لإعادة حكم الشريعة، بعد أن أعلن أتاتورك الجمهورية وألغى السلطنة والخلافة العثمانية. وانتهى العصيان بإعدام الشيخ سعيد بعد محاكمته في محاكم الاستقلال.
رفع هذه اللافتة قابلته ردة فعل قاسية من قبل ألتان تان، أحد النواب الأكراد المحافظين عن "الشعوب الديمقراطي"، الذي اتهم "العدالة والتنمية" بازدواجية المعايير والكذب عندما يأتي الأمر لدياربكر. ودعا رئاسة البرلمان للموافقة على نشر وثائق محكمة الاستقلال في دياربكر التي أعدمت الشيخ سعيد بعد أن تم نشر محاكم الاستقلال في الأماكن الأخرى، وتسليم رفاة الشيخ سعيد لأهله.
يؤكد المواطن أحمد انزعاجه من أداء "العدالة والتنمية" في بعض جوانبه، لكنه يعلن في حديث مع "العربي الجديد" أنه سيصوت لصالح التعديلات الدستورية، قائلاً: "لا أريد أي هزة في استقرار البلاد، وأعرف تماماً ما يعنيه حكم غير الإسلاميين، جدي نجا بمعجزة بعد أن ألقي القبض عليه من قبل جماعة أتاتورك إثر مشاركته في ثورة الشيخ سعيد، ولن أنسى بكاء أخواتي وأمي بسبب الظلم، وكيف اضطرت أخواتي للذهاب إلى الدراسة في الأردن، لأن دخولهن الجامعات التركية كان يستوجب نزعهن الحجاب".
تبدو شعارات حملة "العدالة والتنمية" مختلفة في دياربكر عنها في أنقرة وإسطنبول، كشعار "الشعب يقول نعم والجمهورية تزداد قوة"، و"للاستقرار والأمن نعم"، "لإحياء دياربكر نعم". وتتوزع في الطرق لافتات الحزب وعليها صور أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، بينما بدأت إحدى القنوات التركية الموالية للحكومة بالحديث عن إمكانية التحول إلى نظام الإيالات العثمانية في حال تم تمرير التعديل الدستوري، في ما بدا محاولة لجذب المزيد من الناخبين الأكراد، إذ إن نظام الإيالات يشبه نظام الحكم الذاتي. وأجرى "العدالة والتنمية" لقاءً جماهيرياً وحيداً في المنطقة بداية الشهر الحالي، حضره الرئيس التركي، بينما يجري "الشعوب الديمقراطي" لقاءه الجماهيري الوحيد اليوم السبت، أي ليلة الاستفتاء.

أما حملة "الشعوب الديمقراطي"، فتقوم على عدد من المقولات منها "لا لدستور لا يجلب السلام"، "لا لدستور لا يضم المرأة"، "لا لقتل الإعلام"، "لنصوت بلا ونربح جميعاً"، "لا لحبس نواب الشعب"، إلا أنها تبدو ضعيفة للغاية مقارنة بحملة "العدالة والتنمية" وكذلك مقارنة بحملات الانتخابات السابقة، الأمر الذي يؤكده النائب عن "الشعوب الديمقراطي"، ألتان تان لـ"العربي الجديد"، ويرده إلى عدد من الأسباب،
بينما يقول أحد الصحافيين المحليين الذين رافقوا "العربي الجديد" في المدينة عن أسباب ضعف الحملة: "بعد إدارة بلدية المدينة لسنوات من قِبل أجنحة العمال الكردستاني، التفت حول هؤلاء طبقة كبيرة من المنتفعين، الذين انفضوا عنهم بعد أن تم إقصاء الشعوب الديمقراطي عن المدينة قبل أشهر، وكانوا يقومون بجزء كبير من الحملة".
هكذا تبدو الأجواء في مدينة دياربكر بائسة على مختلف المستويات، لتستمر المدينة في انتظار أي مشروع سلام يضمن لها استقراراً يتجاوز الخمس سنوات، الأمر الذي لم تعشه المدينة على مدى ما يقارب المائة عام من تأسيس الجمهورية التركية.

المساهمون