مرة أخرى تنجح "الدراما" الإسرائيلية في السيطرة على وسائل الإعلام الغربية، لتبدو مشاهد إخلاء بؤرة استيطانية أمراً "مريراً" بالنسبة للمشاهد الغربي الذي يراقب عبر الشاشات مئات من عناصر شرطة الاحتلال يقومون بإخلاء المستوطنين بالقوة.
التضليل الإسرائيلي جرى نسجه ببراعة تامة، وكأنه جرى الإعداد بدقة لإخراج مشهد إعلامي يتلاعب بالمشاعر عبر الخداع وعدم قول الحقيقة. وأضحت أراضي خمس قرى فلسطينية شرق رام الله، وهي سلواد ودير جرير وعين يبرود والطيبة، والتي استولى عليها المستوطنون عام 1996، مسرحاً لإخلاء 45 عائلة من المستوطنين أمام الكاميرات. والمشاهد تعكس "مرارة" المستوطنين، ما يذكر بمشاهد إخلاء مستوطنات قطاع غزة عام 2005، قبل أن يتم تحويلها إلى أكبر سجن بشري.
لكن مهما تعمّد الإعلام تزوير الحقائق، يبقى كل فلسطيني سلبت منه أرضه قبل 20 عاماً شاهد عيّان على المأساة الفعلية التي تسببت بها إسرائيل والتوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة.
ما لن تنقله الكاميرات بالتأكيد هو مشهد انتقال ذات المستوطنين إلى أراضٍ مجاورة لا تبعد سوى مئات الأمتار عن المستوطنات التي تم إخلاؤها. وكانت قد صدرت أوامر عسكرية بوضع اليد على مئات الدونمات المجاورة لنقل المستوطنين إليها قبل عدة أسابيع. وبذلك يكون المستوطنون قد حققوا مكاسب أكثر عبر جني ملايين الدولارات كتعويض والانتقال من مستوطنة إلى أخرى. كذلك، تحاول حكومة الاحتلال تحقيق مكسب استراتيجي كبير حين توجه رسالة إلى العالم عبر وسائل الإعلام، حول "مدى صعوبة إخلاء المستوطنين"، من أجل أن تتذرع بصعوبة المهمة لتبرير امتناعها في المستقبل عن إخلاء المستوطنات الكبيرة.
وقال الخبير في شؤون الاستيطان، المدير العام لمعهد الأبحاث التطبيقية "أريج"، جاد إسحق، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الأمر يتعلق برسالة وجهتها حكومة الاحتلال اليوم إلى العالم، وهي أن إخلاء المستوطنات ليس بالأمر بالسهل. وتابع أن هذه الحكومة تريد بالتالي أن تقول لمراكز صنع القرار العالمي: "لا تطلبوا منا أن نخلي المستوطنات" المتبقية، وفق ما جاء في تعليق إسحق.
وفي هذا السياق، ثمة سؤال يستحضر نفسه، وهو يتعلق بمعرفة لماذا تخلي إسرائيل مستوطنة "عامونا"؟ وأجاب إسحق: "في سبعينيات القرن الماضي تم رفع أول قضية ضد مستوطنة ألون موريه، المقامة على أراضي المواطنين في محافظة نابلس شمال الضفة الغربية". وأضاف أن "الرد الإسرائيلي كان أن المستوطنات أمر مؤقت، وأن الأمر متروك للمفاوضات مع الفلسطينيين في المستقبل، وحينها استخدمت مصطلحات: مستوطنات وبؤر استيطانية، مما جعل محكمة العدل العليا الإسرائيلية تعتبر البؤر غير قانونية ويجب إخلاؤها"، وفق قوله. وتابع أن "قرار المحكمة الإسرائيلية بإخلاء هذه البؤرة جاء قبل تقديم مشروع قانون تسوية الأراضي" الذي أجّل الكنيست البت فيه إلى الأسبوع المقبل. ويهدف القانون إلى "شرعنة كل البؤر الاستيطانية والمباني المقامة عليها"، والذي يعني في حال تطبيقه أن "45 بالمائة من أراضي الضفة الغربية، أي أراضي دولة فلسطين المقبلة، ستكون أراضي مقامة عليها مستوطنات"، كما أكد المتحدث نفسه.
ويوجد في الضفة الغربية المحتلة 222 بؤرة استيطانية. وتكمن خطورتها حسب إسحق، بموقعها الجغرافي في الممرات أي بين الكتل الاستيطانية الكبرى. ويعلق على هذا الوضع قائلاً إن "هذه البؤر تربط ما بين الشرق والغرب، والجدار العازل من ناحية والأغوار الفلسطينية، وبالتالي كل الهدف اليوم من النشاط الاستيطاني هو إظهار أننا لا نستطيع إخلاء المستوطنات"، وفق تعبيره.
وفيما ينشغل الرأي العام والإعلام الغربي بإخلاء 45 عائلة من المستوطنين، يتجاهل الإعلام القرارات الإسرائيلية ببناء مئات من الوحدات الاستيطانية منذ بداية العام. وتشير الإحصاءات إلى أن حكومة الاحتلال قامت، في العشرة أيام الأولى من حكم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بإصدار قرار ببناء 5500 وحدة استيطانية.
ومع الازدياد المطرد لعدد المستوطنين، والذي بلغ أكثر 651 ألف مستوطن في الضفة الغربية، أي ما يعادل 24 بالمائة من السكان، ووجود 196 كتلة استيطانية كبرى هي عبارة عن مدن كاملة وبلدات، يصبح الشعار الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بأن يكون عام 2017 عام إقامة الدولة الفلسطينية أمراً مستحيلاً وغير قابل للتطبيق على أرض الواقع.
ويقول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، محمد أشتية، لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة الإسرائيلية الحالية "باتت في سباق مع الزمن وفي سباق مع ذاتها في تكثيف الاستيطان، وإسرائيل تتعامل مع هذا الموضوع من ثلاث زوايا، الأولى الرد على قرارات مجلس الأمن 2334، وثانياً الرد على مؤتمر باريس، والثالثة المنطلق الأيديولوجي للائتلاف الحاكم في إسرائيل وهو ائتلاف استيطاني بالدرجة الأولى"، وفق تعبيره. وتابع أنه "من الواضح تماماً أن إسرائيل تعمل على دفع الرقم ليصبح مليون مستوطن على مدار السنوات القليلة المقبلة، وهي بهذا تقتل تماماً إمكانية قيام دولة فلسطين بالمستقبل".
لكن "العربي الجديد" علم من جهات موثوقة أن القيادة الفلسطينية تلقت تهديدات أميركية في حال فكرت بإحالة ملف الاستيطان لدى المحكمة الجنائية الدولية. والإحالة تشكل خطوة متقدمة لتسجيل الشكوى التي كانت فلسطين تقدمت بها قبل نحو عامين. وكان آخر التهديدات الفلسطينية للجم الاستيطان الإسرائيلي يتمثل بتطبيق قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اتخذت في مارس/ آذار 2015. ونص أحد بنود القرارات على اللآتي: "تقوم اللجنة التنفيذية بمتابعة عمل اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية من أجل ملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية ومحاسبة المسؤولين عنها، لا سيما في ما يتعلق بجريمة الاستيطان وجرائم الحرب المرتكبة خلال العدوان على قطاع غزة، كما تقوم بمواءمة القوانين والتشريعات مع ما يترتب علينا من التزامات نتيجة انضمام دولة فلسطين إلى عدد من المواثيق الدولية"، كما أعلن المجلس المركزي آنذاك.
وحول هذا الموضوع، لفت أشتية إلى أن "قرارات المجلس المركزي لم تطبق"، لكنه دعا إلى اختيار التوقيت المناسب لاستخدام ورقة المحكمة الجنائية. وتابع أن ما تقوم به إسرائيل "يضع كل موضوع السلطة تحت علامة سؤال كبيرة". وأعرب عن اعتقاده بأن "على القيادة الفلسطينية أن تجري نقاشاً حقيقياً حول البرنامج السياسي للقوى الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، لأن إسرائيل تقتل موضوع حل الدولتين بشكل يومي، وبالتالي يجب أن يعيد (الفلسطينيون) النظر في برنامجهم السياسي وأدواتهم النضالية والسياسية على ضوء وضوح الهدف الإسرائيلي بتقويض إمكانية قيام دولة فلسطين، بتهويد القدس والأغوار، واستخدام المنطقة (سي) كخزان رئيسي للاستيطان وعزل قطاع غزة عن الضفة بشكل كامل، ما يعني ضرورة أن تكون هناك استراتيجية جديدة للتعاطي مع الأهداف الإسرائيلي التي هي أكثر من واضحة بقتل أية إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية"، وفق تعبير أشتية.