أسيل عاصلة... حكاية شهيد تنتظر عائلته العدالة منذ 16عاماً

01 أكتوبر 2016
والدا الشهيد الفلسطيني أسيل عاصلة (العربي الجديد)
+ الخط -
يشكل تاريخ 2 أكتوبر/تشرين الأول يوماً غير عادي في بيت حسن وجميلة عاصلة. تجتمع العائلة وتقوم بزيارة ضريح ابنها أسيل، الذي سقط شهيداً في هبة القدس والأقصى قبل 16 عاماً والتي تحل ذكراها اليوم.  استشهد أسيل يوم الثاني من أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 بيد الشرطة الإسرائيلية، مع بداية هبة القدس والأقصى في قرية عرّابة في الجليل، عندما كان ابن 17 عاماً ونصف العام، طالباً في الصف الثاني عشر في مدرسة كلية مار إلياس في إعبلين، وذلك  بعد إطلاق رصاصات "الدوم دوم" المتفجرة في الجسد، من مسافة قصيرة باتجاهه، لتستقر في الجزء الأعلى من الجانب الأيسر لرقبته.

تفاصيل لحظة الاستشهاد
يقول والد الشهيد، حسن عاصلة، في حديث مع "العربي الجديد" إن "أسيل استشهد عند الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر. كان مع المتظاهرين، وبعدها انتقل ليجلس تحت شجرة زيتون، مقابل المتظاهرين وظهره إلى الشرطة. وعندما هجمت الشرطة عليهم، كانوا ثلاثة شرطيين، أحدهم ضربه ببندقية (إم 16) على رأسه فوقع على الأرض ومن ثم أطلقوا الرصاصة عليه من مسافة صفر. الرصاصة كانت من الناحية اليسرى من الرقبة، أنا كنت قريباً منه، كنت أبعد عنه 120 متراً". ويضيف الأب المفجوع "نقلوه بسيارة عادية إلى المركز الطبي في سخنين، إذ منعت طواقم الإسعاف من الوصول إليه".

بدورها تروي والدة الشهيد، جميلة، لـ"العربي الجديد"، كيف أنها كانت واقفة على التلة تبحث عن نجلها بين الناس. تقول لـ"العربي الجديد": "لقد ميزته ورأيته وعرفته من سترته الخضراء. وعندما أطلقت الشرطة الرصاص عليه كنت أركض باتجاهه وأطلقوا عليه الرصاص قبل أن أصله. وبالتزامن استشهد أيضاً الشهيد علاء نصار من عرابة".

انطلقت الجنازة يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول، عند الساعة الواحدة ظهراً من البيت إلى ساحة السوق القديم بعرابة. وهناك كان أيضاً جثمان الشهيد علاء. وعن الجنازة والذاكرة، يفضل حسن عاصلة، عدم الدخول في تفاصيلها قائلاً "لا أريد أن يحمل الناس الألم الموجود. فليبقَ الألم في داخلي. لا أريد أن أشارك أحداً به".


توثيق الجريمة ومراحل حياته

داخل منزل ذوي الشهيد أسيل عاصلة في بلدة عرابة البطوف في الجليل قرابة ثلاثين صورة تزيّن أروقة جدران المنزل. صور فوتوغرافية وأخرى مرسومة توثق مراحل حياته.

وإلى جانب غرفته في بيت ذويه، توجد مكتبة كاملة تحتوي على ملفات توثق جريمة قتله، وتتضمن مواد متنوعة بين تقارير صحافية ومستندات رسمية للجنة التحقيق. ولا تزال غرفته تحتضن أغراضه الشخصية، كتباً مدرسية ودفاتر، جواز سفره الأخير، وعطره وكل ما كان في حوزته. أحب علم الفلك وأراد أن يتابع دروسه الجامعية وأن يتخصص أيضاً في المعلوماتية.

أصبح بيت أهله محطة وعنواناً لكل باحث وطالب جامعي وصحافي يبحث عن مواد للذاكرة الجماعية في هبة القدس والأقصى، والتي سقط فيها 13 شهيداً من أبناء الداخل الفلسطيني برصاص الشرطة الإسرائيلية.

 يقول حسن عاصلة لـ"العربي الجديد" إن أسيل "كان ناشطاً مع حركة بذور السلام العالمية. وكان عنده التزام واضح بالهوية والانتماء". ويضيف الوالد أن أسيل شارك في مؤتمر نظمته تلك الحركة في سويسرا، عام 1999، أي قبل استشهاده بعام، وتخللت هذا المؤتمر حوارات مع رؤساء الدول. وكان حاضراً رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي الأسبق، شمعون بيريز، الذي سأله "من أين أنت؟"، فأجابه أسيل: "أنا من وطن بلا دولة، أنا من فلسطين 48".

يروي حسن أن "الحوار السياسي بدأ حول الوطن والانتماء والأرض من جيل صغير. وفي صف السابع، قال لي أسيل أنا أكره التاريخ، فاتضح أنه بسبب المعلم". لكن الوالد أبى أن يكون ابنه غير مطلع على تاريخ فلسطين. هكذا "بدأت أحدثه عن التاريخ كقصة، وأنتقل من مرحلة إلى مرحلة وأذكر الشخصيات. وعندها أراد واهتم بشغف في قراءة التاريخ، وسأل أسئلة كثيرة وتبلورت عنده الهوية والانتماء والوطن بشكل واضح"، على حد وصفه.

جميلة عاصلة، والدة الشهيد، وهي معلمة متقاعدة، تتحدث عن صفاته الشخصية. تقول في حديثها مع "العربي الجديد" إنه "كان مولعاً في تركيب (الليغو) وألعاب البازل (الأحجيات). ذات مرة اقتنيت له (بازل) مع قلعة. كان أسيل يجلس ليركّب اللعبة مدة خمس ساعات. كان طيب القلب لديه مشاعر إنسانية كبيرة. وأحب علم الفضاء، كان اجتماعياً ومحبوباً جداً ويحب الناس كثيراً. وهناك معلومات عرفتها من أصدقائه لاحقاً بعد استشهاده. كان مميزاً لحد كبير وله قدرة كبيرة على التعامل مع الناس".

تضيف الوالدة أن "أسيل درس حتى الصف الثالث ابتدائي في مدرسة الكرمل في حيفا، وبعدها انتقلنا إلى عرّابة، وواصل الدراسة فيها حتى المرحلة الإعدادية، ومن ثم انتقل إلى مدرسة الثانوية كلية مار الياس في قرية إعبلين"، قبل أن يستشهد برصاصات الاحتلال خلال الهبّة.



لا قيمة للشهداء عندنا
يقول والد الشهيد إن "الغضب على الجناة، حتى بعد ستة عشر عاماً، لا يزال موجوداً. هو غضب على نظام صهيوني عدو". لكن حسن يشعر بغضب من نوع آخر، "أساسه أن الشهداء في المجتمع العربي يسقطون وليس لهم أية قيمة"، معتبراً أن "المشكلة في التربية والثقافة الوطنية التي زرعت فينا خلال كل هذه الأعوام".

وتتابع أم الشهيد قائلةً إن ما يعز عليها يتمثل في أن "قضية الشهداء خف بريقها لأسباب عدة: المؤسسة الإسرائيلية تراهن على نسيان ذاكرة شعبنا لهذه القضايا، وتراهن على شرذمة المجتمع ودق الأسافين بمجتمعنا حتى لا يكون هناك أي التفاف حول قضية الشهداء". تعتقد أن سلطات الاحتلال "نجحت في ضرب بعض المناصرين لعائلات الشهداء وفجرت الخلاف بين أهالي الشهداء". وترى أن الواقع الفلسطيني يساهم سلباً في ذلك إذ إن "المصالح الحزبية تطغى أحياناً على القضايا الوطنية وتحصل المناكفة والجميع يريدون استثمار الوضع، ويضيع الالتفاف حول قضية الشهداء"، وفق قولها.

وتضيف والدة الشهيد أنه "تم ترهيب الإعلام المحلي للتخفيف من وطأة القضية"، مشيرةً إلى أن "القيمين على الصحف يدركون أنه إذا نشروا صورة شهيد وركزوا عليها، يمكن أن يتعرضوا لمقاطعة من الإعلانات الحكومية التي يعتمد عليها الإعلام". وتتذكر أنه في تلك الفترة، لم تكن هناك مواقع تواصل اجتماعي، على غرار فيسبوك، وكانت ترسل مقالاً أو قصيدة حول ابنها الشهيد مع صورته، عن طريق الفاكس، "لكن الصحف لم تكن تنشر صورة الشهيد"، بحسب تأكيدها.

رفض "التعويض المالي"
أما عن التحقيق ومسألة التعويض المالي من كيان الاحتلال، فيذكر حسن عاصلة أن لجنة التحقيق "أغلقت ملف الشهداء وأعادت الملف لقسم التحقيقات بالشرطة، ولم تقدم أية لائحة اتهام ضد أي شخص من القتلة، على الرغم من أن الشرطي القاتل كان معروفاً في أغلب الحالات". ويضيف: "أنا مثلاً أعرف من أطلق الرصاص على ابني، اسمه يتسحاق شمعوني وفق الإفادات، ومع ذلك فهو لا يزال يعمل في الشرطة". ولفت إلى أن "الاستخبارات عملت كثيراً لجر الأهالي إلى المسار الجنائي، ومحاولة إقناعهم بقبول التعويض المالي بالاعتماد على أن أهل الشهداء يخافون من مواجهات مع السلطة وأن قسماً منهم غير مسيسين". ويكشف حسن عاصلة أنه على الرغم من الحديث عن تدويل الملف، إلا أنه تبين أن ذلك غير ممكن لكون إسرائيل غير موقعة على اتفاقية روما (للمحكمة الجنائية الدولية) من جهة، وبسبب انعدام الإرادة والرغبة عند قيادة الجماهير العربية وأهالي الشهداء للمضي حتى النهاية من جهة ثانية، بحسب تعبيره.

الفقدان والموت يؤلمان الأحياء
مع مرور 16 عاماً على استشهاد نجله، يلاحظ حسن عاصلة أن "الغضب ليس فقط أن الشهداء مغيبون. صدمة الفقدان كبيرة والحزن مشاعر إنسانية، لكن بجانب ذلك يوجد هناك الوعي". ويتساءل "ما معنى الانتماء والتضحية وما معنى الوطن، والمجتمع والشعب؟". ويرى أن "كل هذه المعاني تجتمع في وصية الشهداء"، قائلاً إن كل "ما بقي لي هو أن أرفع يدي إلى السماء وأقول يا رب تقبل هذا القربان".

بدورها، تحاول جميلة عاصلة أن تواسي نفسها، لكن الوضع يزداد مع مرور السنين صعوبة. وتقول إن "الوجع كبير والألم كبير ومع الوقت يكبر مع السنين لأن الإحباطات تزيد". وتؤكد أنه من "المؤلم أن نصل إلى مرحلة تشن فيها حرب على أهل شهيد". لكنها ترفض الاستسلام وتحاول الحفاظ على معنويات عالية. وتقول في هذا الصدد: "عندما أكون في حضرة الشباب أنا أبث التفاؤل والصمود، وأتحدث ويرون الجانب القوي في كلامي. فقضية الشهداء وطنية من الدرجة الأولى وهي مسيطرة وطاغية على كل حياتنا".

واختتمت كلامها قائلة "منذ طفولتي وأنا إنسانة متمردة وأحب الحق، ومنذ أن استشهد أسيل أصبح من الصعب عليّ أن أسكت مع أنني أعلم أنه لن يعود، ولكن ما معنى أن يقتلوا ابني وأنا أجلس في الدار"، مع أنها تعلم أنه في "هذه الدولة لا يمكن أخذ الحق ولا الباطل، ولكن السكوت بحد ذاته يعطي شرعية للمؤسسة (الإسرائيلية)، والسكوت عبارة عن انهزام وإعطاء شرعية للاحتلال".