المرحلة الثانية من "الملحمة الكبرى"
وبدأ جيش الفتح، الذي يضم كبرى الفصائل العسكرية في المعارضة السورية، بعد ظهر يوم الأحد الماضي، معركة فك الحصار عن مدينة حلب انطلاقاً من خاصرتها الجنوبية الغربية. واستطاع خلال ساعات كسر خطوط الدفاع الأولى لقوات النظام، والمليشيات التي تساندها، والسيطرة على مناطق عدة في الأحياء الغربية، وبدأ يقترب من أسوار مدرسة المدفعية التي تعد من كبريات المواقع العسكرية لقوات النظام في حلب. وعصر أمس الثلاثاء، استأنفت المعارضة معاركها لتصبح على بُعد نحو كيلومتر ونصف كيلومتر من تحقيق هدفها المعلن في فك الحصار عن حلب، وهي المسافة الفاصلة بين مناطق سيطرتها حالياً في "مشروع الـ1070 شقة" غرباً، وحيي السكري والشيخ سعيد شرقاً، وذلك في سياق المرحلة الثانية من "الملحمة الكبرى" كما أطلق عليها أبو عيسى الشيخ، وهو أحد أبرز القادة في حركة أحرار الشام التي تعد رأس حربة في المعارك. وتهدف المعارضة إلى فك الحصار عن مناطق تقع تحت سيطرتها في شرق المدينة مذ منتصف عام 2013، إثر سيطرة قوات النظام في السابع عشر من شهر يوليو/تموز الماضي على طريق الكاستيلو في شمال المدينة الذي كان شريان الحياة لأكثر من 300 ألف مدني لا يزالون يعيشون في أحياء حلب الشرقية.
وتؤكد مصادر مقربة من جيش الفتح لـ"العربي الجديد" أن المعركة في حلب لن تنتهي قبل تحقيق هذا الهدف، مشيرةً إلى أن للمعركة مراحل عدة، ولها أبعاد أخرى تصل إلى حدود السيطرة على مدينة حلب بالكامل وطرد قوات النظام منها، في تكرار لسيناريو مدينة إدلب القريبة التي كانت المعارضة سيطرت عليها منذ نحو عام كامل. ويرجح كثيرون أن تشهد حلب تطورات دراماتيكية لمصلحة المعارضة قبل حلول موعد اللقاء المرتقب بين الرئيسين التركي، رجب طيب أردوغان، والروسي، فلاديمير بوتين، في التاسع من أغسطس/آب الحالي، في مدينة سانت بطرسبرغ. حتى أن تقديرات تركية وسورية مطلعة خلصت إلى اعتبار أن القيادة التركية، على ضوء مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل، ومن وحي تدهور علاقاتها مع عواصم غربية رئيسية سبق لها أن عارضت مشروع المنطقة الآمنة على الحدود السورية ــ التركية، أعادت اليوم استحضار المشروع القديم ــ الجديد (المنطقة الآمنة) لإعادة طرحه ولو من دون قرار دولي عن مجلس الأمن، وبلا ضوء أخضر أميركي ــ أوروبي حتى.
في موازاة ذلك، صعد النظام من غاراته في مناطق عدة تسيطر عليها المعارضة السورية، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من المدنيين. وقالت مصادر ميدانية في حلب لـ"العربي الجديد"، إن "الطيران الحربي شنّ غارة استهدفت مدينة الأتارب في الريف الغربي، ما أدى إلى مقتل خمسة مدنيين كحصيلة أولية وسقوط عدد من الجرحى". كما أظهرت مشاهد مصورة جثث قتلى متناثرة في شارعٍ في المدينة، فضلاً عن آثار الدمار الكبير الذي لحق بالمكان الذي تم قصفه، حسب ناشطين، بـ"صواريخ فراغية". من جهتها، أشارت شبكة "سورية مباشر" الإخبارية إلى "مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين جراء استهداف الطيران الحربي بغارة جوية حي السكري" الذي تسيطر عليه المعارضة في مدينة حلب.
ارتدادات سياسية
ومن المتوقع أن تصل أصوات مدافع المعركة الدائرة رحاها في مدينة حلب إلى مدينة جنيف التي لا تزال تشهد اجتماعات متواصلة بين مسؤولين سياسيين وعسكريين روس وأميركيين لبلورة تفاهمات عسكرية واستخباراتية في إطار ما يُسمى بـ"محاربة الإرهاب" تتيح للموفد الأممي إلى سورية الدعوة إلى جولة مفاوضات جديدة. وقد حاول النظام وحليفاه روسيا وإيران، فرض رؤيتهم للحل السياسي من خلال فرض الحصار على حلب، قبل أن يأتي رد المعارضة سريعاً، إذ أسقطت هذه الورقة من يد النظام الذي لطالما تحدث عن قدرته على حسم عسكري يجبر المعارضة على القبول بما يطرحه من حلول من قبيل تشكيل حكومة وحدة وطنية، مع بقاء بشار الأسد في السلطة، وهو الأمر الذي تجدد المعارضة على الدوام التأكيد أنه "الخيار المستحيل"، وأن لا مستقبل للأسد في سورية حتى لو طالت الحرب إلى آجال طويلة.
في السياق ذاته، لم يخف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قلقه من عدم استئناف مفاوضات السلام بين المعارضة السورية والنظام، لا سيما أنه كان يأمل أن يكون شهر آغسطس/آب الحالي موعداً لبدء المرحلة الانتقالية في سورية إثر اتفاق سياسي ترعاه الأمم المتحدة. وهو ما انعكس في تصريحات كيري، يوم الإثنين، بقوله إن "الشواهد، حتى الآن، مقلقة للجميع بشدة"، لافتاً إلى "أن الموعد المستهدف حُدد، في وقت سابق هذا العام، عندما كانت هناك آمال في تماسك المحادثات السياسية في ظل تراجع العنف".
من جهته، أكد المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات، المنبثقة عن المعارضة السورية، رياض نعسان آغا، في تصريحات لـ"العربي الجديد" أن الهيئة لم تتلق دعوة لجولة جديدة من مفاوضات جنيف "بتاريخ محدد"، مشيراً الى أن التطورات الميدانية "لابد من أن تنعكس على مجريات العمل السياسي".
ولا يزال الموفد الأممي إلى سورية يحاول تهيئة الظروف للعودة الى طاولة التفاوض في جنيف المتوقف، منذ أبريل/نيسان الماضي، حيث زار قبل أيام العاصمة الإيرانية طهران التي تعتبر الأسد خطاً أحمر، وترفض فكرة استبعاده عن السلطة في أي حل سياسي مقبل، في الوقت الذي كان فيه نائبه رمزي عز الدين يزور دمشق. وذكرت مصادر لـ"العربي الجديد" أن دي ميستورا التقى في طهران مسؤولين أمنيين وعسكريين، مشيرة إلى أن هناك جهوداً تُبذل لإقناع طهران بالتخلي عن الأسد والضغط عليه للتوقيع على تسوية تبقيه عدة أشهر في السلطة منزوع الصلاحيات في مقابل نجاته من محاكمة دولية على الجرائم التي اقترفها على مدى سنوات، مرجحة موافقة طهران "في حال اتفاق موسكو وواشنطن" على الحل النهائي في سورية.
استياء من دي ميستورا
في غضون ذلك، شنّ رئيس وفد الهيئة العليا للمفاوضات، المنبثقة عن المعارضة السورية، أسعد الزعبي، هجوماً شديداً على دي ميستورا والأمم المتحدة، معتبراً في تغريدات على موقع "تويتر" أن "الأمم المتحدة تتآمر على الشعب السوري فبدل أن تقدم المساعدات للمحاصرين تعمل على إفراغ حلب من أهلها وإفراغ حي الوعر في حمص من ساكنيه". وقال الزعبي، أيضاً، إن "الأمم المتحدة تستنفر لوقف تقدم الثوار في حلب"، متسائلاً "لماذا لا تحاول إخراج مليشيات حزب الله وإيران بدلاً من إخراج أهالي حلب". وأضاف لا يزال الموت جوعاً في سورية والحصار والاعتقال والتدخل من حزب الله وإيران، ولم تستطع، حتى الآن، الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن فعل شيء.
وتوقف الزعبي عند المقترحات التي قدمها المبعوث الأممي، قائلاً: "إن جميع المقترحات التي تقدم بها دي ميستورا تعطي لبشار الأسد الشرعية، وهذا يخالف قرارات الأمم المتحدة ومبادئ مؤتمر جنيف 1". كما أشار الزعبي إلى أن "دي ميستورا عرض علينا كثيراً من المقترحات التي تميل لصالح النظام، وهي مقترحات إما إيرانية أو روسية ورفضناها جميعها، وآخر مقترح إيراني عرضه دي ميستورا كان يقضي بتعيين 3 نواب لبشار الأسد يتولون الجهاز الأمني والمالي والعسكري وتخفيض صلاحيات الأسد ونحن رفضنا". وجدد الزعبي التأكيد أن "الأسد مجرم ويجب أن يحال للمحكمة الجنائية الدولية"، لافتاً إلى أن "أي خطة للحل تتضمن بقاءه في السلطة تعد مخالفة لقرارات جنيف1 التي تعد المرجعية الأساسية للحل في سورية".
وفي السياق نفسه، طالب الائتلاف الوطني السوري، أمس الثلاثاء، مجلس الأمن الدولي "بتحمل مسؤولياته في ما يتعلق بتكرار استخدام الأسلحة الكيميائية من نظام الأسد"، داعياً في بيانٍ له إلى "اتخاذ تدابير عاجلة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لحماية الشعب السوري". وتأتي مواقف الزعبي والائتلاف بعد يوم من تأكيد المعارضة السورية، إثر اجتماع عُقد في العاصمة التركية أنقرة، ضم الهيئة العليا للمفاوضات، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والفصائل العسكرية، على تمسكها بـ"ثوابت الثورة" المتمثلة في "رحيل بشار الأسد وزمرته، وصيانة وحدة الأراضي السورية، والبدء بمرحلة انتقالية عبر هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات"، إضافة إلى "تسهيل العودة الطوعية للاجئين والنازحين، ووضع إطار تنفيذي للمحاسبة والعدالة الانتقالية".
في غضون ذلك، يرى المحلل السياسي السوري، عماد غليون، أن الأحداث العسكرية في حلب لا تزال متحركة، ومن غير الواضح بعد مدى انعكاس ما يجري على المسار السياسي "على الرغم من تقدم قوات المعارضة بشكل سريع". مشيراً في حديث لـ "العربي الجديد" إلى أن هناك اتفاقاً أميركياً روسياً على إدارة الأزمة في سورية وليس حلها. ويرى غليون أنه لن يُسمح للمعارضة بتحقيق "نصر كبير، وواضح على قوات النظام، ومليشياته". مضيفاً "ربما يُسمح لها بتحقيق بعض التقدم لتحقيق توازن من جديد مع قوات النظام". وفيما يعتبر أن قدرة "أصدقاء الثورة السورية" على تقديم الدعم والمساندة لتحقيق نصر حاسم "باتت محدودة، يرجح أنه "ربما سينتهي الأمر بتحقيق انفراجة على الصعيد الإنساني، وعدم تحقيق أهداف الروس بالممرات الآمنة التي أعلنوا عنها إثر فرض الحصار على الأحياء التي تقع تحت سيطرة قوى المعارضة السورية في شرق حلب، الأمر الذي كان سيتيح لقوات الأسد والمليشيات القضاء على فصائل المعارضة".
رسائل تركية
وفيما تمكنت قوات المعارضة السورية من لملمة صفوفها وشنّت حملة عسكرية واسعة، خلال الأيام السابقة، لا يمكن إغفال دور الدعم التركي في عمليات المعارضة السورية الأخيرة. وما إن تمكنت الحكومة التركية من إعادة السيطرة على المؤسسة العسكرية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، حتى ألقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خطاباً، يوم الجمعة الماضي، أكد فيه عدم تخلي تركيا عن أوراقها في كل من سورية وليبيا والعراق: "ليس فقط ضد جماعة فتح الله غولن الإرهابية، سيستمر نضالنا بشكل أكبر في باقي الملفات الأخرى أيضاً، وسندمر ألاعيبهم في كل من سورية والعراق وليبيا، سندمر ألاعيبهم في كل مكان من العالم".
ولم تمض ساعات على تصريحات أردوغان، حتى بدأت عمليات المعارضة السورية في حلب، واستضافت العاصمة التركية أنقرة، بدءاً من يوم الأحد الماضي، اجتماعات مكثّفة للمعارضة السورية.
كما جاءت تصريحات قائد هيئة الأركان السابق، الجنرال المتقاعد إلكر باشبوغ، المحسوب على التيار الكمالي، أول أمس الإثنين، لافتة للغاية، إذ استبعد خلال المقابلة التي أجراها مع قناة "سي أن أن" التركية، عدم علم الاستخبارات الأميركية بالمحاولة الانقلابية، مشيراً إلى أن الهدف من المحاولة الانقلابية في المرتبة الأولى، كان إضعاف الجيش التركي، وبالتالي إبعاد تركيا عن سورية بالذات لتسهيل تنفيذ المخططات الأميركية. وأضاف "أنا مقتنع أن المحاولة الانقلابية الفاشلة مرتبطة بشكل كبير بإعادة تشكيل الحدود الجنوبية لتركيا، وبالذات سورية". وتابع قائلاً "انظروا لما يحدث في سورية وبالذات في مدينة منبج، التي باتت تقريباً تحت سيطرة قوات الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكردستاني)، ويستمر تشكيل الممر الكردي، وتتحقق الدولة الكردية في شمال سورية، وبالوضع الحالي للجيش التركي، تخف قدرات أنقرة على الردع، وهذه نقطة خطيرة وحساسة للغاية بالنسة لنا".