ما بعد الموازنة التونسية: تغيّرات سياسية لا تقلب المشهد

12 ديسمبر 2016
تنفيذ "عقد الكرامة" سيقلص حالة الاحتقان (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
حظيت أول موازنة سنوية لحكومة يوسف الشاهد في تونس بموافقة البرلمان، بغالبية مريحة، ترجمت بموافقة 122 نائباً في مقابل 48 معارضاً وامتناع نائبين عن التصويت. ولم تكن "لهجة الانتصار" خفيّة في الكلمة التي ألقاها الشاهد، بعد تمرير موازنته، ربما لأن هذا الحدث ختم أسبوعين إيجابيّين في مسيرة هذه الحكومة، بدأت مع النجاح اللافت لمؤتمر الاستثمار، وتلاها إلغاء الإضرابات في قطاعي المحاماة والصيادلة، وإلغاء الإضراب العام الذي هدد به الاتحاد العام التونسي للشغل، والتوصل الى اتفاقات قد تمنح الحكومة جرعة مهمة من الهدوء النسبي.

وإذا ما شُرع في بداية العام الجديد في تنفيذ مشروع "عقد الكرامة" (مشروع تنوي الحكومة بموجبه تخصيص راتب شهري لنحو 25 ألف طالب عمل من حاملي الشهادات العليا بقيمة 600 دينار طيلة سنتين)، فقد يتحقق أيضاً تقدم واضح نحو تقليص حالة الاحتقان لدى فئة من الشباب العاطل عن العمل. غير أن هذه النجاحات لا يمكن أن تخفي بعض الحقائق السياسية الهامة، وأولها ما حملته المصادقة من أرقام تؤكد تآكل وثيقة قرطاج، التي أسست لحكومة الوحدة الوطنية. فبين الـ 1
67 صوتاً التي منحت الثقة للحكومة، والـ122 التي صادقت على الموازنة، سقطت أصوات مهمة على طريق الحسابات السياسية. وبالإضافة إلى المعارضة التقليدية للجبهة الشعبية اليسارية والكتلة الديمقراطية، انضمت إليهما كتلة الحرة لمشروع تونس، وكتلة الاتحاد الوطني الحر، وهما من الأحزاب التي وقعت على الوثيقة، بما يشير إلى تغيرات هامة، رغم محدوديتها، داخل قبة البرلمان وفي المشهد السياسي.

ويقلّل الوزير المكلف بالعلاقات مع المجتمع المدني والهيئات الدستورية، مهدي بن غربية، من خطورة "المعارضين الجدد"، معتبراً، في حديث مع "العربي الجديد"، أن حكومة الوحدة الوطنية أثبتت أنها تحظى بالدعم النيابي اللازم ولا تزال تعبر عن روح وثيقة قرطاج وبنودها، مشيراً إلى أن مشروع قانون المالية يحسب له أنه تضمن "إجراءات ثورية وأعاد الحوار السياسي في البلاد ووجهته نحو حوار حول الاقتصاد والمالية العمومية والجباية". ونبه بن غربية من أن هناك من تصور أن "المشروع سيتكسر على جبال الاحتجاجات الاجتماعية، غير أن الحكومة خيبت توقعاتهم وتوصلت إلى توافقات تاريخية مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومع المحامين". وعلق على قرار كتلتي الحرة لمشروع تونس والاتحاد الوطني الحر، التصويت ضد قانون المالية، بأنه "تصويت ضد الحكومة من قبل أحزاب منحتها الثقة منذ ثلاثة أشهر، وهو ما يدفع للتساؤل عما إذا كان هذا موقفاً من حكومة الوحدة الوطنية أو موقف عدم رضا عن مشروع قانون المالية الذي توصلت الحكومة إلى توافقات في إطاره مع المنظمات والقطاعات". وفي السياق نفسه، قال وزير البيئة والتنمية المحلية، رياض الموخّر، لـ"العربي الجديد"، إنه لا يمكن الحديث عن إخفاق الحكومة في تجاوز عقبة مشروع قانون المالية أو تقديمها لتنازلات أفرغته من محتواه، نظراً لما ولّده من صراعات مع هيئات مهنية. ورأى الوزير والقيادي في حزب "آفاق تونس" أنه لا يمكن اعتبار تصويت الحزبين ضد المشروع انسحاباً من وثيقة قرطاج أو اصطفافا آلياً في صفوف المعارضة.

وتتباين التقييمات في خصوص السلوك السياسي للحكومة أخيراً وأمام الاحتجاجات، بين من يرى أنها أثبتت قدرة تفاوضية عالية جنّبتها اضطرابات كثيرة، وبين من يرى أنها قدمت تنازلات كبرى أمام الضغوط الكبيرة التي لم يكن بإمكانها مواجهتها، وتراجعت عن مقترحات وتصورات لم يكن بإمكانها التشبث بها إلى النهاية، وكان بإمكانها عدم اقتراحها منذ البداية، وهو ما نبّه إليه الشاهد حين أشار إلى أن المشروع النهائي حافظ على روحه وعلى أهم مبادئه وأفكاره. لكن المؤكد، رغم تطمينات الوزيرين هو أن امتحان الموازنة كشف حقيقة الحزام السياسي لحكومة الوحدة، وهشاشة بعض أطرافها، ونوعية الحسابات التي تميّز الساحة السياسية التونسية، لكنها قدمت في المقابل للحكومة صورة أكثر واقعية عن وضعها السياسي، وقوة داعميها، رغم الاختلافات التي بينتها نقاشات وتجاذبات الموازنة. في كل الحالات، فإن المشهد السياسي ما بعد الموازنة سيكون مختلفاً كثيراً عما سبقها، وسيعكس نوعية الصراع الجديد في تونس مع بداية العام المقبل. ورغم أن الحكومة لم تلتقط أنفاسها بعد، فإنه سيكون عليها أن تهتم بمعضلة جديدة هي سلسلة الإضرابات التي أعلنها المدرسون بداية من 15 ديسمبر/كانون الأول الحالي، بغية إسقاط وزير التربية ناجي جلول، في صراع مفتوح بين الطرفين لم ينته منذ حوالى سنتين.

المساهمون