ما بعد "غزوة عرسال": بعض من حكايا الأهالي

13 اغسطس 2014
من مشاهد ما بعد الحرب (فرانس برس/GETTY)
+ الخط -

اعترض أحد المقاتلين الملتحين الدراجة النارية، ودعا سائقها إلى "احترام الشرع والدين": "اتّق الله يا شيخ"، قال العنصر. كانت ليلة قاسية على عرسال، ومشتعلة بالنار والرصاص. لم يفهم الرجل ما المقصود بذلك إلى أن أشار له قاطع الطريق بنظرة حادة إلى السيجارة المشتعلة التي تخرج من فمه وتساهم في التنفيس عن توتره وخوفه من قذيفة قاتلة تأخذه بعيداً أو تخطف أطفاله منه. سحب المواطن العرسالي السيجارة من فمه، رماها أرضاً واستغفر ربه مرات عدة. مدّ يده إلى جيبه ومزّق علبة السجائر ولعن الشيطان. وبعد سماع عبارة "أحسنت" باللهجة العربية الفصحى، أكمل الرجل طريقه إلى منزله. لم يُخبر أحداً من عائلته بتلك الحادثة، بل اكتفى فقط بإشعال سيجارتين ودخّنهما معا، كاعتراض على قمعه.

خرج مقاتلو داعش وجبهة النصرة وغيرها من الفصائل السورية من عرسال وعادت البلدة بشكل أو بآخر إلى عباءة الدولة اللبنانية. عادت القوى الأمنية الرسمية إلى مراكزها وعزّز الجيش مواقعه في محيط ومداخل عرسال. سكتت أصوات الاشتباكات وكفّ طنين القذائف، وزال خطر الموت عن العرساليين. هدأت نفوسهم قليلاً وبات بإمكانهم تذكر بعضاً مما عاشوه في تجربة غزوة المجموعات المتشددة لشوارعهم. صاحب محطة محروقات أجبر على بيع المقاتلين آلاف ليترات البنزين، وتاجر آخر رفض بيعهم مواد غذائية. أطلقوا النار على كتفه فأعطتهم زوجته مفتاح الدكان. أفرغوا رفوف دكانه الصغير من البضاعة. لكن كل شيء بثمنه، فهؤلاء المقاتلون الذين يحاربون "الكفر والغرب والإلحاد"، يدفعون بالعملة الصعبة الخضراء، أي بالدولار الأميركي.

عايش العرساليون الداعشيين ساعات فقط. تجربة الأيام الستّ خلال غزوة عرسال كانت كفيلة في تقديم ملخص صغير عن ممارسات تلك المجموعات التي لم تتمكن من تقديم كل فظائعها لأهل البلدة. وبينما بدأت الدولة اللبنانية عملية مسح رسمي للأضرار إيذاناً بدفع التعويضات، لا يزال ملف حرب عرسال ينتظر التسوية المنتظرة بين الجيش اللبناني والمجموعات التي تحتجز عشرات الجنود اللبنانيين. أجواء هيئة العلماء المسلمين، التي تتابع المفاوضات مع الطرفين، تؤكد على استمرار التفاوض "والتوصل إلى صيغة مرضية للطرفين في وقت قريب".

وتشير المعلومات إلى أنّ هيئة العلماء أكدت لقيادة الجيش أنّ "عدد الجنود الأسرى هو 19 عسكرياً"، في حين تشدد القيادة على فقدان 22 عنصراً من جنودها، مع العلم أنّ مديرية التوجيه في الجيش نعت قبل ساعات، أحد الجنود الذي تم العثور على جثمانه بعد خمسة أيام على انتهاء المعارك. أمر يرجح وجود عنصرين آخرين مقتولين لم يعثر عليهما بعد، أو احتمال انشقاقهما جدياً عن الجيش اللبناني.
في المقابل، تسير هذه المفاوضات "على قدم وساق" بحسب أحد أعضاء الهيئة. يبرز يوم بعد آخر، دور الشيخ مصطفى الحجيري في عملية عرسال، وفي الدعم الذي قدّمه لـ"النصرة" ولـ"داعش". الحجيري، أو "شيخ أبو طاقية"، كما هو معروف في البلدة، أوكل له من قبل المجموعتين مهمة احتجاز عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي. ومع انسحاب المقاتلين المتشددين، اختفى أثره، من دون تأكيد خروجه من البلدة مع المنسحبين من عدمه. إلا أنّ بعض من عاشوا الحرب وتفاصيلها في عرسال، يؤكدون أنّ العلاقة بين أبو طاقية وأمير جبهة النصرة، أبي مالك، تجاوز حدّ التنسيق أو الاستشارة، إذ يقول أحدهم إنّ "أبي مالك لم يكن يقدم على أي خطوة في عرسال إلا بعد أخذ موافقة الحجيري". حتى أنّ الأخير كانت له الكلمة الفصل في منع إعدام أحد العرساليين الذين تجرؤوا على اتهام المقاتلين بالسارقين.

كما تفاجأ كل مَن في عرسال إزاء التفاهم القائم بين جبهة النصرة وداعش، على الرغم من التصفيات والحرب الدموية التي خاضاها بوجه بعضهما في مدن سورية عدة، وتكفير "الداعشيين" لـ"النصرة" ولمقاتليها. فهل من دور قام به أبو طاقية في هذا الخصوص؟ الشيخ مصطفى الحجيري، الذي يُتهم بأن له دور سابق في الاعتداء على الجيش خلال عام 2013، معروف بتشدده. ماضيه المكتوم وغير المعروف يساهم في توضيح صورته؛ قلة قليلة من العرساليين والمعنيين بملف الإسلاميين يعلمون أنّ "أبو طاقية" درس في باكستان وخاض تجربة قتالية طويلة في أفغانستان.
وعلى ما يبدو، هو من الجيل الأول في تنظيم القاعدة، الذي واجه الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، وإذ به اليوم يصل للعب دور السجّان، أو ربما دوره أكبر من ذلك بكثير نظراً لتاريخه الجهادي المستور.
المساهمون