وفيات وحالات انتحار غامضة لأوليغارش روس: عودة أجواء التسعينيات؟

وفيات وحالات انتحار غامضة لأوليغارش روس: عودة أجواء التسعينيات؟

19 سبتمبر 2022
توفي رئيس شركة "لوك أويل" رافيل ماغانوف مطلع سبتمبر (ميخائيل كليمنتييف/فرانس برس)
+ الخط -

تثير حالات الوفاة المفاجئة والانتحار الغامضة لعدد من كبار المسؤولين في عدد من شركات النفط والغاز في روسيا وقطاع النقل المرتبط بها، منذ بداية العام الحالي، أسئلة حول ارتباط هذه الحوادث بالتنافس الحاد بين شركات الطاقة، والعودة إلى أساليب التسعينيات في التصفيات الجسدية لإزاحة المنافسين، خصوصاً في ظلّ ازدياد التنافس بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبحث شركات النفط والغاز الروسية عن أسواق جديدة بعد فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا عقوبات على هذا القطاع.

أحدث الحالات في سلسلة الوفيات الغامضة حصلت في مياه البحر المقابلة لشواطئ مدينة فلاديفوستوك في الشرق الأقصى الروسي، وتحديداً جزيرة روسكي التي استضافت بداية الشهر الحالي منتدى الشرق الاقتصادي الروسي.

ففي 10 سبتمبر/أيلول الحالي، وبعد أيام من مشاركته في جلسات المنتدى، توفي إيفان بتشورين، المدير التنفيذي لشركة الخدمات اللوجستية والطاقة للقطب الشمالي وأقصى شرق روسيا، التي أسسها الكرملين لتطوير البنى التحتية وطرق المواصلات واللوجستيات في هذه المنطقة الحيوية.

وعرض بتشورين (39 عاماً) خطة استراتيجية لتطوير المنطقة والتغلّب على العقوبات الغربية. وحسب وكالات الأنباء الروسية، فقد سقط المسؤول الحكومي من سفينة وهو في حالة سكر، وغرق في مياه المحيط الهادئ بعد فشل جميع محاولات إنقاذه. ووُجدت جثته بعد يومين على شاطئ جزيرة روسكي.

لا يستبعد مراقبون أن تكون الحوادث جزءاً من صراعات شركات الطاقة الروسية الكبرى

وهذه ليست الحالة الأولى لموت مفاجئ أو غامض في الشركة الحكومية. ففي فبراير/شباط من العام الحالي، توفي المدير العام لشركة الخدمات اللوجستية، إيغور نوسوف، بسكتة دماغية عن عمر ناهز 43 عاماً.

وكان نوسوف قد عيّن بقرار من الرئيس فلاديمير بوتين في أغسطس/آب 2021 لهذه المهمة، بعدما كان، سابقاً، نائباً لحاكم إقليم نيجني نوفغورود (300 كيلومتر شرقي موسكو)، وقبلها مديراً لمنطقة ألابوغا الصناعية الرائدة في جمهورية تتارستان التابعة للاتحاد الروسي.

ومعلوم أن شركة النقل والخدمات اللوجستية المذكورة يتداخل مجال عملها مع شركات الطاقة الروسية، المتنافسة على تحقيق مكاسب أكبر من استغلال حقول النفط والغاز في الجرف القطبي التابع لروسيا والجرف القاري في أقصى شرق روسيا، ولا سيما مع زيادة فرص استغلال هذه الحقول بسبب تغيرات المناخ وتراجع سماكة الجليد الأزلي، والنشاط الملحوظ لحركة الملاحة في الممر القطبي الشمالي. ويسمح ذلك بتصدير شحنات النفط والغاز من المنطقة ونقل المعدات اللازمة لاستثمار الحقول النفطية والغازية التي تراهن عليها روسيا لتحسين اقتصادها.

توفي مسؤولان في شركة "لوك أويل" التي دعت لإنهاء الحرب على أوكرانيا

تنافس الشركات النفطية الروسية

ومن أكبر المتنافسين على نفط المنطقة شركة "روس نفت" الحكومية وأكبر شركة للنفط في البلاد، والتي يرأسها إيغور سيتشين، أحد المقربين للرئيس بوتين، إضافة إلى "لوك أويل"، ثاني أكبر شركة للنفط، وهي شركة خاصة أسسها وحيد ألكبيروف في تسعينيات القرن الماضي، واضطر إلى الاستقالة منها بعد الحرب على أوكرانيا بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليه.

كما تتنافس على ثروات الغاز في المنطقة شركة "غازبروم" الحكومية برئاسة ألكسي ميلر، أحد أصدقاء بوتين وزملائه في العمل في التسعينيات عند عمدة سانت بطرسبورغ أناتولي سابتشاك، الذي يعده كثيرون الأب الروحي لبوتين بفتحه المجال له في العمل في إدارته في تسعينيات القرن الماضي.

وعلى خط المنافسة، توجد أيضاً شركة "نوفاتك" الخاصة، التي يملكها ليونيد ميخلسون، صديق بوتين وشريكه في لعب الهوكي، وهي شركة بدأت باستغلال حقول الغاز في المنطقة القطبية وافتتحت مصانع لإنتاج الغاز المسال وبدأت منذ سنوات بتصديره. واللافت أن الشركتين الأخيرتين أيضاً فقدتا عدداً من قيادات الصف الأول ضمن سلسلة الوفيات الغامضة في الأشهر الأخيرة.

"لوك أويل"... من معارضة الحرب إلى خسارات مؤلمة

في بداية سبتمبر الحالي، توفي رئيس شركة "لوك أويل" رافيل ماغانوف. لقي الملياردير البالغ من العمر 67 عاماً مصرعه إثر سقوط غامض من الطابق السادس في مستشفى كان يتعالج فيه من مرض في القلب.

وفي حين نقلت وكالة "تاس" الحكومية عن مصدر أمني قوله إن ماغانوف مات منتحراً بعد تناوله أدوية مضادة للاكتئاب، نقلت وكالة "رويترز" عن شخصين كانا يعرفان ماغانوف جيداً قولهما إنهما لا يرجحان انتحاره.

وقبلها، وتحديداً في مايو/أيار الماضي، فقدت "لوك أويل" الرئيس التنفيذي السابق لها ألكسندر سوبوتين، الذي عثر عليه أيضاً ميتاً في قبو فيلته الخاصة بالقرب من موسكو.

وذكرت وكالة "تاس"، وقتها، أنه فَقَد وعيه نتيجة نوبة قلبية، فيما فتحت الشرطة تحقيقاً جنائياً في وفاته. وأشارت وسائل إعلام روسية عدة إلى أن سوبوتين توفي في ظل "ظروف غامضة"، وقضى بنوبة قلبية بعد أن كان سعى لعلاج بديل من مشعوذ. وذكرت أن المسؤول النفطي الكبير نُقل إلى منزل المشعوذ "في حالة شديدة من تعاطي الكحول والتسمم بالمخدرات" في اليوم السابق لوفاته.

ومعلوم أن مجلس إدارة شركة "لوك أويل" كان قد دعا، في بداية مارس/آذار الماضي، إلى إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا بأسرع ما يمكن. وعبّرت شركة النفط، في بيان حينها، عن تعاطفها مع ضحايا "هذه المأساة".

انتحارات في "غازبروم"

وبدأت سلسلة الوفيات الغامضة قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. ففي 29 يناير/كانون الثاني الماضي، عُثر على ليونيد شولمان، رئيس النقل في شركة "غازبروم إنفست" التابعة لمجموعة "غازبروم"، ميتاً في منزله بقرية لينينسكي الراقية بالقرب من مدينة سانت بطرسبورغ.

وذكرت "وكالة الإعلام الروسية" أنه عثر على مذكرة انتحار في مكان الحادث، وأن المحققين ينطلقون في سبب الوفاة من اعتبارها انتحاراً، حسب محطة "دوجد" التي أغلقت لاحقاً بعد الحرب. وحسب الإعلام الحكومي، فقد ترك المتوفى رسالة انتحار قال فيها إنه يعاني من ألم لا يطاق في ساقه التي كسرت أثناء احتفاله برأس السنة في فيلته.

بدأت سلسلة الوفيات الغامضة قبل الحرب الروسية على أوكرانيا

وفي القرية ذاتها، وبعد أقل من شهر، توفي مسؤول تنفيذي كبير آخر في شركة "غازبروم"، إذ عُثر على ألكسندر تولياكوف (61 عاماً) ميتاً في مرآب منزله في 25 فبراير/شباط الماضي.

وذكرت صحيفة "نوفايا غازيتا" الروسية المستقلة، وقتها، أنه مات منتحراً بشنق نفسه في مرآب منزله. وعمل تولياكوف نائباً للمدير العام لمركز التسوية الموحد في "غازبروم" (خزانة الشركة). وذكرت تقارير أنه تعرّض للضرب المبرح في الليلة التي سبقت وفاته.

وبعد بضعة أشهر، وليس بعيداً عن مكان وفاة رجلي الأعمال السابقين، عُثر في 4 يوليو/ تموز الماضي على جثة يوري فورونوف (61 عاماً)، وهو المدير العام لشركة "أسترا" للشحن، التي عملت على تنفيذ عقود شركة "غازبروم" في القطب الشمالي. ووُجدت جثته في فيلته الخاصة في قرية مورسكي تيراسي الراقية بالقرب من الخليج الفنلندي في مقاطعة لينينغراد الروسية.

وكان الرجل عائماً على سطح مسبح الفيلا ومصاباً برصاصة في رأسه، وبجانبه مسدس. وبحسب المعطيات الأولية لفحص الطب الشرعي، فقد وُجدت طلقات أخرى في الأطراف السفلية للقتيل. ووفقاً لزوجة رجل الأعمال، فقد ذهب إلى منطقة لينينغراد في 1 يوليو، وقبل مغادرته كان في نزاع مع شركاء تجاريين بسبب خسارة المال.

مصرع عائلتين روسيتين كاملتين في يومين

كما لقي رجلا أعمال روسيان آخران من مجموعة "غازبروم" مصرعهما في حادثتين منفصلتين بفارق يوم واحد، قُتلت فيهما أيضاً زوجتا المسؤولين وابنتاهما.

ففي 18 إبريل/نيسان الماضي، عُثر على فلاديسلاف أفاييف، النائب السابق لرئيس مصرف "غاز بروم بنك"، الذراع المالي لعملاق الغاز الروسي وأحد أكبر المصارف في البلاد، ميتاً في شقته في موسكو مع زوجته وابنته. وقالت الشرطة إنها عثرت على مسدس في يده، ما دفعها إلى اعتبار الحادث حالة قتل وانتحار.

وحسب تحقيقات الشرطة، فإن المسؤول المالي في "غاز بروم"، البالغ من العمر 51 عاماً، قتل زوجته إيلينا وابنته ماريا البالغة من العمر 13 عاماً، وانتحر. ونقلت وكالات أنباء أن الحادثة كانت بدافع الغيرة، وزعمت أن زوجته كانت حاملاً من سائقه الخاص.

وبعيداً عن موسكو، وفي اليوم التالي، أي 19 إبريل، تلقت الشرطة الإسبانية مكالمة هاتفية من فيدور، ابن الأوليغارش الروسي سيرغي بروتوسينيا، الذي تملك عائلته فيلا هناك، قال فيها فيدور إنه حاول لعدة ساعات الاتصال من فرنسا بوالدته التي لم ترد على اتصالاته.

وعندما حضرت الشرطة، عثرت على جثة بروتوسينيا الذي شغل حتى وفاته منصب نائب رئيس شركة "نوفاتك" الخاصة لإنتاج الغاز. ووُجد رجل الأعمال مشنوقاً في حديقة منزله، فيما توفيت زوجته وابنته (18 عاماً) نتيجة طعنات داخل المنزل، وكانت العائلة قد توجهت إلى إسبانيا لإحياء عيد الفصح.

لقي رجلا أعمال روسيان من مجموعة "غازبروم" مصرعهما في حادثتين منفصلتين بفارق يوم واحد، قُتلت فيهما أيضاً زوجتا المسؤولين وابنتاهما

تساؤلات حول الوفيات الغامضة للأوليغارش الروس

ومن الحوادث التي أثارت التساؤلات، العثور على الملياردير ميخائيل واتفورد، واسمه الأصلي ميخائيل تولستوشي، ميتاً في العاصمة البريطانية لندن في 28 فبراير/شباط الماضي. بنى رجل الأعمال الروسي (66 عاماً)، الذي هاجر إلى بريطانيا، ثروته من التجارة بالنفط والغاز في روسيا وأوكرانيا.

وحسب الشرطة البريطانية، فقد وُجدت جثة واتفورد مشنوقاً. وجاء ذلك بعد أيام قليلة من إعلان رئيس الحكومة البريطاني السابق بوريس جونسون عن عقوبات على رجال أعمال روس كان من ضمنهم.

وأثارت الحادثة شكوكاً لدى الشرطة البريطانية، خصوصاً أن المملكة المتحدة شهدت حالات اغتيال وتسميم بحق عدد من الأوليغارشيين الروس وعملاء الاستخبارات في العقدين الأخيرين.

وبعيداً عن قطاع النفط، عُثر، في 24 مارس/ آذار الماضي، على الملياردير فاسيلي ميلنيكوف، الذي كان يرأس شركة الإمدادات الطبية العملاقة "ميدستوم"، ميتاً مع زوجته غالينا وابنيه الصغيرين في شقتهم الفاخرة في مدينة نيجني نوفغورود الروسية.

كما قضى في الشهر التالي أندريه كروكوفسكي (37 عاماً) الذي عمل حتى وفاته مديراً لمنتجع سياحي للتزلج على الثلج بالقرب من سوتشي، حيث يقضي بوتين إجازاته الشتوية ويدعو ضيوفه للتزلج هناك. وذكرت صحيفة "كوميرسانت" الروسية أن كروكوفسكي توفي إثر سقوط من على صخرة عالية أثناء نزهة.

وتطرح الوفيات الغامضة المتواصلة منذ بداية العام لإثني عشر رجل أعمال روسياً بارزاً، يعمل عشرة منهم في مجال الطاقة، ويتمتعون بأوضاع مالية جيدة، مع تحقيق شركات النفط والغاز أرباحاً كبيرة على الرغم من العقوبات، تساؤلات حول صحة رواية انتحارهم، وما إذا كانت بسبب مخاوف وقلق من المستقبل على أوضاعهم المادية، ونظرتهم السوداوية لمصير شركاتهم بسبب العقوبات؟

ولا يستبعد مراقبون أن تكون الحوادث جزءاً من صراعات شركات الطاقة الروسية الكبرى، في ظل التوقعات بتراجع صادراتها ودخولها في تنافس على تصدير إنتاجها إلى الصين وآسيا، بعد دخول حزمة عقوبات الاتحاد الأوروبي السادسة بشأن حظر استيراد النفط الروسي اعتباراً من ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتراجع صادرات الغاز إلى أوروبا والعالم، والبحث المحموم للشركات الروسية عن أسواق جديدة تعوض السوق الأوروبية.