عندما بدأ الحراك الشعبي في الجزائر، في 22 فبراير/شباط 2019، شكّل لحظة شعبية بامتياز، سواءً في أدوات التعبئة والدعاية، أو في أساليب التنظيم في الشوارع والتظاهرات. لم تكن للحراك قيادة، ولا حتى لائحة مطالب واضحة، أو أرضية سياسية محددة، لكن ذلك لم يمنع بروز عدد من الوجوه والشخصيات التي طبعت المسار الشعبي، والمعبّرين عن روح الحراك وتطلعاته السياسية والمدنية. اليوم، وبعد عامين، فقد رحلت بعض تلك الوجوه، بينما البعض الآخر لا يزال يبحث عن التطلعات ذاتها، في الشوارع أو في السجون.
هيّأت الأقدار للمناضل الثوري لخضر بورقعة أن يُشارك في ثورتين، ثورة تحرير الجزائر وثورة الحراك الشعبي، لكن العمر الذي منحه 58 عاماً من الاحتفاء بذكرى الثورة الأولى، لم يمهله للاحتفاء بالذكرى الثانية للحراك الشعبي. فقد رحل بورقعة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، نتيجة مضاعفات المرض، وفترة السجن التي أمضاها خلال العام الأول للحراك بسبب انتقاده للجيش، لغاية الإفراج عنه في يناير/كانون الثاني 2020، بعد وصول عبد المجيد تبّون إلى الرئاسة. وبفعل مواقفه الثابتة ونضاله السياسي ضدّ كل منظومات الحكم التي أدارت شؤون البلاد منذ الاستقلال، اعتبر بورقعة، وهو عضو المؤتمر القومي العربي، رجلاً جامعاً تلتقي عنده كلّ أطياف ومكونات الحراك، احتراماً لنضاله الثوري ومواقفه. لكن الظروف والتطورات المتسارعة وطبيعة مواقف الرجل المتشددة إزاء السلطة، لم تتح له فرصة لعب دور سياسي.
اعتُبر لخضر بورقعة، رجلاً جامعاً تلتقي عنده كلّ أطياف ومكونات الحراك
في 18 فبراير 2019، كان الناشط عبد الوكيل بلام، الذي عُرف بنضاله ضد ترشح عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة في العام 2014، أول من يدعو بوضوح في بثّ مباشر عبر موقع "فيسبوك"، الجزائريين للخروج في 22 فبراير ضد الولاية الخامسة لبوتفليقة. وكان بلام أول من اعتُقل برفقة الناشط سفيان حجاجي في ذلك اليوم المشهود، وظهر في تلك الفترة على القنوات للمطالبة بالاستمرار في التظاهر. بعد عامين، يجد عبد الوكيل بلام الذي يدير موقع "أوراس" الإخباري، نفسه في الموقف ذاته. وهو يدعو الجزائريين للتواجد في الشارع في ذكرى انطلاقة الحراك، والعودة إلى التظاهر بسبب ما يعتقده "التفاف السلطة على المطالب". مواقف بلام لم تتغير على الرغم من مجمل المتغيرات التي طرأت في البلاد في ظلّ دستور ورئيس جديدين.
جمع الشارع والسجن بين الناشطين البارزين سمير بلعربي وكريم طابو. واجه بلعربي الاعتقالات منذ العام 2014، قبل أن يقضي فترة أشهر في السجن على فترتين في غضون مرحلة الحراك الشعبي بين سبتمبر/أيلول 2019 إلى الثاني من يناير 2020، ثم بين مارس/آذار 2020، حتى الإفراج النهائي عنه في يوليو/تموز الماضي. بينما اعتُقل طابو في سبتمبر 2019، وظلّ في السجن حتى 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وسبق لطابو أن حاول في عهد بوتفليقة تأسيس حزب سياسي، لكن السلطات عطّلت هذا المسار. واللافت أن فترة الاعتقالات والسجون، زادت من راديكالية المواقف، خصوصاً بالنسبة لكريم طابو، وزادت من القناعة بضرورة العودة إلى الشارع مجدداً.
من بين مجموع الناشطين الذين برزوا في الحراك الجزائري، يعد الأستاذ الجامعي فوضيل بومالة، الأكثر فصاحة وقراءة عن أشكال التغيير ومنظومات الدولة، لكن هذه القراءة لم تدفعه إلى ابداء أي مرونة في المواقف إزاء السلطة. وزاد اعتقال بومالة خلال الحراك الشعبي مرتين أيضاً، قضى في إحداهما ستة أشهر في السجن بين سبتمبر/أيلول 2019 حتى مارس/آذار 2020، وأعيد اعتقاله في يونيو/حزيران الماضي لمدة أسبوع قبل إخلاء سبيله، من رفضه للمسار السياسي الذي تنتهجه السلطة.
إضافة إلى بومالة، تبرز الناشطة والأستاذة في جامعة بجاية، شرقي البلاد، حكيمة صبايحي، والتي تحافظ على موقفها المناوئ للسلطة، وتعتبر أن العودة إلى الشارع ضرورة شعبية لإحداث التغيير، من دون أي حوار مع السلطة. كما لا يمكن الحديث عن رموز الحراك، من دون ذكر المحاميين مصطفى بوشاشي وعبد الغني بادي، وهما أكثر النشطاء الحقوقيين الذين استبسلوا في قضية الدفاع عن معتقلي الرأي.
عدد من الناشطين المعروفين في الحراك الشعبي كانوا لا يزالون في السجون حتى الأيام القليلة الماضية، عندما أصدر تبون العفو الرئاسي عن عشرات الناشطين ومنهم إبراهيم لعلامي الذي خرج من السجن أول من أمس السبت. ولعلامي هو أول ناشط نظّم في الخامس من يناير/ كانون الثاني 2019، مسيرة منفردة ضد الولاية الخامسة لبوتفليقة، حتى قبل أن يعلن الرئيس السابق الترشح لولاية خامسة. ومنذ تلك الفترة، تردد لعلامي على السجون ثلاث مرات، وصدر في حقه أخيراً حكم بالسجن عامين قبل أن يخرج في إطار العفو الرئاسي. كما يبرز بين الناشطين في السجون، المناضل في الحراك في منطقة الجنوب، محاد قاسمي الذي يقضي منذ أشهر فترة سجن مؤقت في انتظار محاكمته في مارس/ آذار المقبل، بتهم تتعلق بنشاطه في الحراك ومواقفه المناوئة للسلطة.
عدد من ناشطي الحراك لا يزالون في السجون، فيما جنح آخرون للتعاون مع السلطة الجديدة
في المقابل، اختار عدد قليل من الأسماء التي برزت في بداية الحراك، إعلامياً خصوصاً، مساراً مغايراً، وجنحوا إلى التعاون مع السلطة السياسية الجديدة، وتحوّلت مواقفهم بناء على تقديرات بتغيير ممكن عبر الانتخابات. المحامية كوثر كريكو أصبحت وزيرة للتضامن في الحكومة الحالية، كما اختار المحامي سمير ساسي التحالف مع ائتلاف شكّلته السلطة، "المسار الجديد"، بينما انضمت الصحافية حدة حزام إلى لجنة الحوار التي انبثقت عنها هيئة الانتخابات، وانضم الصحافي أحميدة العياشي إلى وزارة الثقافة كمستشار.
يعتقد المتابعون لمسار الحراك الشعبي أن رموزه المعبّرة عنه، ظلّت بعيدة عن أي مشاركة فعلية في بناء كيانات وصياغة محتوى سياسي وأرضية واضحة للحراك خارج سياق الشارع والشعارات المعلنة، أو الدفع لذلك، وهي نقطة ضعف كبيرة استغلتها السلطة لإظهار محدودية الفعل السياسي لهذه الوجوه. واللافت أيضاً أن الجزء الغالب من الرموز الشعبية التي كان يلتف حولها الحراك ويتلقف مواقفها وتحليلها لتطور الأحداث السياسية منذ 22 فبراير 2019، فضّلت البقاء في الشارع، واستمرت في الخيارات النضالية نفسها ورفضت كل أشكال التنظيم أو تأسيس أحزاب وكيانات سياسية أو مدنية تنضوي تحتها، لمواصلة معركة التغيير السياسي.
ويرى الأستاذ في جامعة خميس مليانة (160 كيلومتراً جنوبي العاصمة الجزائرية)، أحمد بن يغرز، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن إحدى أبرز نقاط الضعف للحراك، هو عدم توازيه مع حراك فكري لمنحه سمة فكرية وسياسية، والوجوه المعبِّرة عنه لم تبادر إلى طرح محتوى سياسي واضح، ولم تقدّم تصورات سياسية، كما أنها لم تحاول أن تتنظّم، وظلّت متخوفة من ردّ فعل الحراك نفسه، بسبب أن أغلبهم لديهم تجارب في الانتماء إلى أحزاب سياسية. ومن جهة ثانية، فإن ذلك يعود، بحسب بن يغرز، لكون النظام السابق شيطن العمل الحزبي، لافتاً إلى تخوف الناشطين من فقدان رأس المال الشعبي، لكون الحراك رفض منذ بدايته الأحزاب والهيكلة. ويأتي ذلك ناهيك عن أن كثيراً من هؤلاء الناشطين يفضّل البقاء في حالة نضالية مفردة، وليست لديهم القدرة على تحمل العبء التنظيمي لحزب سياسي، وفق رأيه.