لم يتغير الواقع كثيراً في قطاع غزة، منذ آخر جولة تصعيد إسرائيلية، وما تلاها من تثبيت تفاهمات وقف إطلاق النار وكسر الحصار. وما زال القطاع في انتظار تنفيذ ما تم الاتفاق عليه برعاية مصرية وقطرية وأممية. ونفذ الاحتلال الإسرائيلي بندين فقط حتى الآن من بنود التفاهمات الخاصة بكسر الحصار. أولهما المتعلق بإدخال الأموال القطرية لدعم الأسر الفقيرة والمعوزة، وثانيهما إعادة فتح البحر أمام حركة الصيادين وتوسيع مساحة الصيد المسموح بالوصول إليها. وأدخلت قطر المساعدات المالية للأسر الفقيرة في القطاع، واستفاد نحو مائة ألف فلسطيني من صرف مائة دولار لكل شخص. أما البحر فظل الاحتلال الإسرائيلي يطارد الصيادين فيه، ويلاحقهم ويستهدفهم بالرصاص والتهديد.
وبدا من فعاليات ذكرى النكبة على الحدود في غزة، يوم الأربعاء الماضي، أنّ تنفيذ ترتيبات التفاهمات تسير بشكل مدروس، لكن بشكل بطيء لا ينفع مع واقع غزة القطاع، إذ منع الأمن المتظاهرين من الاقتراب من الحدود، وخفضت قوات الاحتلال مستوى التوتر والاستهداف المباشر للفلسطينيين. وفي أعقاب ذلك، أعلنت الهيئة العليا لمسيرات العودة أنها ألغت احتجاجات أمس الجمعة، للأسبوع الثاني على التوالي، لـ"التخفيف" عن المواطنين في شهر رمضان. وأعلنت الهيئة، التي تضم معظم الفصائل وتشرف على تنظيم الاحتجاجات الأسبوعية، أنه "لا يوجد اليوم (أمس) أي فعاليات في مخيمات العودة الخمسة (مواقع أقيمت قرب السياج الحدودي مع الأراضي الفلسطينية المحتلة) للتخفيف عن المواطنين، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الجمعة الثانية لشهر رمضان".
لكن البطء الذي يُلمس في تنفيذ تفاهمات كسر الحصار، قد يدفع للتوتر من جديد مع محفزات تصعيد أكبر، وخصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية القاسية التي يعيشها مليونا فلسطيني في القطاع المحاصر، والضغوط المعيشية المتزايدة التي يتعرضون لها. ومع استمرار ذلك، فالواقع لا يبشر بصمود التفاهمات كثيراً، إذ إنّ الجزء الأهم من التفاهمات لم يجرِ البدء في تنفيذه حتى الآن، وهو المتعلق بالمشاريع التشغيلية المنوط بها تخفيف البطالة، والمناطق الصناعية المنوط بها تطوير هذا القطاع الذي دُمّر في السنوات الأخيرة. وإذا ما بدأت هذه المشاريع التشغيلية التنموية، يمكن للاحتقان والتوتر أنّ ينخفض للحد الأدنى، ومعه ستكون عوامل الاستقرار أوسع وأكثر. لكنّ متابعين كثراً يعتقدون في غزة أنّ إسرائيل تماطل كعادتها، ولن تقدّم للقطاع إلا القليل، ومن شأن ذلك أن يدفع الأوضاع للتوتر.
ويتزامن ذلك مع تصريحات متعددة بشأن الهدوء الهشّ في غزة، صدر أحدثها من المبعوث الأممي لعملية السلام نيكولاي ميلادينوف، الذي قال إنّ القطاع كان قريباً من الحرب الرابعة في التصعيد الأخير. وتحمل تصريحات ميلادينوف تحذيراً للجميع، من أنّ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الضاغطة في غزة يمكن أن تعيد الأوضاع الأمنية إلى دائرة التوتر، ومعها لن ينفع العودة إلى المسكنات التي تعطى للفلسطينيين بين الفينة والأخرى. وعلى الرغم من ذلك، تجري محاولات كثيرة لدفع الأوضاع للهدوء والاستمرار في حالة الانتظار، في انتظار أنّ تُشكل الحكومة الإسرائيلية الجديدة ويظهر عقبها طريقة التعامل مع غزة. لكن الضغوط المعيشية على الفلسطينيين قد تدفع الفصائل المسلحة، وخصوصاً حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، لتحريك المياه الراكدة. وإذا ما حدث ذلك، فإنّه لا ضمانة أن لا يتحول أي تصعيد لعدوان واسع وشرس كما يهدد الإسرائيليون. ولا تزال التهديدات الإسرائيلية ضد غزة مستمرة. وعلى الأرض في دولة الاحتلال يستمر نشر بطاريات "القبة الحديدية" خشية من التدهور الأمني، كما يجري تصوير غزة في الإعلام الإسرائيلي، ومن بعض الشخصيات العربية المحسوبة على محور الثورات المضادّة، على أنها مفجرة الأزمات، مع السعي لإخمادها وكبح جماحها.