استراتيجية بايدن بمواجهة الاجتياح الروسي: جرّ موسكو إلى الفخّ أم تراجع أميركي متواصل؟
كان من باب الصدفة أن أطلقت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن استراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في 12 فبراير/ شباط الحالي، مع تصاعد التوتر بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، والتي أفضت في النهاية إلى الغزو الروسي للدولة الجارة الجنوبية. وخرجت استراتيجية الهادئ - الهندي، وهي الأولى الإقليمية لإدارة بايدن، حتى قبل صدور استراتيجية الأمن القومي، وهي معنية برسم ملامح السياسة التي ترى هذه الإدارة أنها الأنسب لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الاستراتيجية.
لكن لم تكن صدفة أن تواجه تلك الاستراتيجية سيلاً من النقد في دوائر الأبحاث، حيث وصمت بالتخبط والضبابية، تماماً كما توصف إدارة بايدن للأزمة الأوكرانية، وفشلها في ردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن غزو أوكرانيا، وهو ما بدأه في فجر 24 فبراير.
ويتهم المنتقدون لبايدن إدارته بانتهاج مسار من اللين والضعف أمام بوتين، التقطه الأخير كإشارة إضافية للتراجع الأميركي على الساحة الدولية، فيما يرى فريق آخر أن في جعبة ساكن البيت الأبيض الكثير من المفاجآت "الصادمة" للكرملين، وأن الرد الأميركي على الحرب الروسية سيكون متدحرجاً وقاسياً، وصولاً إلى عزل روسيا وبوتين عن النظام العالمي.
بايدن يفشل في ردع بوتين
ويأتي ذلك وسط شبه إجماع بأن سياسة الردع الأميركية أثبتت فشلها تجاه الأزمة، حيث يُعدّ بايدن من مدرستها "التقليدية"، التي تركز على الردع النووي، فيما تطور روسيا أساليبها غير النووية للحرب. كما أن هذه السياسة كان يمكن لها أن تكون استباقية، ومنذ وقت طويل، حيث فشل أسلاف بايدن في انتهاج منهج حازم تجاه الوضع الأوكراني، وهو ما يواجه الرئيس الأميركي الحالي تبعاته الكارثية.
لم يزود بايدن أوكرانيا بالأسلحة الاستراتيجية اللازمة
واتهم بوتين، قبيل إطلاقه الحرب على أوكرانيا، نظيره الأميركي بمحاولة جرّ روسيا إلى الحرب، لإغراقها بالعقوبات. ويفترض هذا الاتهام أن إدارة بايدن تتبع منهجاً مدروساً لاحتواء روسيا وفي صراعها معها، وبناء على خطط محكمة ومعدة سلفاً. لكن بايدن نفسه ارتكب زلّات عدة، متعلقة بالأزمة، بحسب متابعين، أبرزها مواصلة تأكيده منذ أشهر أن بلاده لن ترسل قوات إلى أوكرانيا في حال حصول هجوم روسي، كما بدا غير حاسم عندما تحدث عن إمكانية أن يقدم الروس على "توغل محدود داخل الحدود الأوكرانية"، قبل أن يصبح جازماً بحدوث الغزو في الأيام الأخيرة التي سبقت بدء الاجتياح.
ويسعى الرئيس الأميركي إلى إظهار أن إدارته للأزمة الأكبر في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تجري بالتشاور الكامل مع الحلفاء الأوروبيين، وأنه لم يساوم على خيار "الحدود المفتوحة" لحلف الناتو، كما لم يتخل عن مسار الدبلوماسية مع روسيا، التي منحها الكثير من الحوافز للتراجع عن طموحاتها العسكرية، ومنها إعادتها إلى دول مجموعة الثماني الكبرى، واجتماعاتها الثنائية الاستراتيجية مع حلف الأطلسي.
لماذا لم تفرض العقوبات على روسيا باكراً؟
لكن كل ذلك يبقى أيضاً موضع تساؤل، إذ كان الكثير من الحلفاء الأوروبيين يبدون، حتى أمس الجمعة، تردداً في الذهاب نحو فرض عقوبات قصوى على روسيا، ومنها العقوبات "النووية"، أي معاقبة قطاع الطاقة، وطرد روسيا من نظام "سويفت" المصرفي، وفرض عقوبات شخصية على بوتين. كما أن الانتقاد موجه لبايدن لجهة عدم لجوئه لفرض هذه العقوبات باكراً، كسلاح اقتصادي ردعي، إذا ما كان في كل الأحوال سيتمسك بنهج سلفه دونالد ترامب في اعتماد العقوبات الاقتصادية بديلاً عن التدخل العسكري.
وتواجه العقوبات الاقتصادية عدداً كبيراً من العوائق التي تصعّب إمكانية فرضها بحدودها القصوى، ومنها تداعياتها على الاقتصاد العالمي، وهو ما لن تكون أميركا بمنأى عنه. لكن بايدن يؤكد أن لدى إدارته لائحة طويلة من العقوبات، ستفرض تباعاً، وستقود في نهاية المطاف إلى إضعاف البنية الاقتصادية الروسية، وحرمان روسيا من التكنولوجيا (لا سيما أشباه الموصلات) الضرورية، خصوصاً لنظامها الدفاعي.
ويبدو، بالنسبة للمدافعين عن هذا المسار، أن هذا هو الهدف الرئيسي للإدارة الديمقراطية، والذي لن يفضي إلى مواجهة عسكرية من جهة، ولا إلى ضرب الاقتصاد العالمي الذي لم يتعاف بعد من تداعيات كورونا، أو حتى إلى إمدادات الغاز الروسية لأوروبا، والتي تشكل 40 في المائة من إمداداتها من الغاز سنوياً. كما أن تجميد عمل "سيل الشمال 2"، وهو خط الغاز بين روسيا وأوروبا، قد تحقق بالنسبة لواشنطن على المدى المتوسط.
وإذا كان "أكل العنب" هو الهدف الأول لإدارة بايدن، عبر إضعاف اقتصاد روسيا ومحاصرة الأوليغارشية الداعمة للكرملين، فإن المسار العسكري لا يبدو واضحاً، حتى بالنسبة للمتفائلين من خطط البيت الأبيض. ويؤكد المسؤولون في إدارة بايدن أن الولايات المتحدة لا تحتمل "انتصاراً" لبوتين في أوروبا، فيما يقول خصومه من الجمهوريين، وآخرهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ بالكونغرس، ميتش ماكونيل، إن "بوتين لم يكن ليقدم على عدوانه لو لم نخرج بالشكل المهين الذي خرجنا به من أفغانستان".
لكن المدافعين عن استراتيجية الرئيس يرون عكس ذلك. إذ إن التجربة الأفغانية، واستطراداً العراقية، شكلت درساً للولايات المتحدة، التي يبقى شعبها، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، غير متحمس لإرسال قواته إلى الخارج. ويعتبر هؤلاء أن سياسة الرئيس عسكرياً تقوم على اعتبار أن البيت الأبيض كان مدركاً منذ البداية أن روسيا ستنفذ غزوها بعد أن تستنفد الآخرين بتمييع الوساطات والحوار.
تكبيد روسيا ثمناً باهظاً جرّاء الاجتياح
ويقوم تفكير الإدارة الأميركية، التي كشفت عن معلومات استخبارية لتعطيل خطط الكرملين، على أن أي هجوم روسي ربما يكون تفاديه صعباً، لكن من الضروري جعل كلفته عالية جداً على الروس. ويفترض ذلك بالتوازي مع العقاب الاقتصادي، دعم حركة مقاومة مسلحة ضد القوات الروسية في أوكرانيا، إذا ما قرّرت الأخيرة البقاء لوقت طويل. ويأتي ذلك وفق اعتبار أميركي بأن الروس وضعوا خططهم لاجتياح أوكرانيا، لكنهم لم يصوغوا "أي خطة خروج". إذ إن أي خروج متسرع، حتى مع تثبيت حكم موال لموسكو في كييف، لن يكون ضامناً لتحقيق جميع الأهداف الروسية، ومنها حماية مساحة نفوذها التاريخية في شرقي أوروبا.
وجدّد بايدن تعهده بالدفاع عن أي شبر من أراضي الدول المنضوية في حلف شمال الأطلسي، ما يعني أن المعركة لن تتخطى أوكرانيا، على اعتبار أن روسيا بدورها غير معنية بأي مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. وإذا كانت كلفة الخسارة "الغربية" محصورة في أوكرانيا، فإن التردد الأميركي تجاه هذا البلد يستبق بكثير وصول بايدن إلى السلطة. إذ لم تتمكن أي إدارة أميركية، لا سيما منذ ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، من بلورة سياسة واضحة لسحب أوكرانيا جذرياً للمعسكر الغربي، أو تزويدها بالأسلحة الاستراتيجية اللازمة لتعزيز ردعها، فيما تمكنت روسيا من تخطي تداعيات العقوبات "المتواضعة" التي فرضت عليها حينها.
وزوّدت إدارة بايدن أوكرانيا بالأسلحة أكثر من أي إدارة أميركية أخرى، ومنها أنظمة رادار متطورة ومعدات حربية بحرية. لكن ألكسندر فيندمان، المدير السابق لـ"مجلس الشؤون الأوروبية للأمن القومي" (بحثي)، رأى أخيراً في مقال رأي في مجلة "أتلانتك"، أن رفض تزويد أوكرانيا بأنظمة تسلح متطورة، ومنها صواريخ "باترويت" المضادة للطائرات أو صواريخ "هاربون" المضادة للسفن، شكّل عامل ضعف، متسائلاً: إذا كانت الإدارة تعلم أن الاجتياح سيحصل، فلماذا لم تغامر بإرسال هذه الأنظمة بكل الأحوال؟
تسعى واشنطن إلى جعل كلفة الاجتياح عالية على الكرملين
أما لجهة دعم حرب عصابات ضد القوات الروسية، فإن ذلك لا يبدو سهلاً. وذكرت مجلة "فورين بوليسي"، أمس، أن نقاشاً حاداً يدور داخل الإدارة الأميركية حول ذلك. وبحسب 3 مسؤولين داخل الإدارة، و3 مساعدين لبايدن في الكونغرس، فإن المخاوف هي أن يقود تسليح "المقاومة الأوكرانية" إلى جعل الولايات المتحدة مشاركاً في المعركة، ويزيد التوتر بين الدولتين النوويتين. كما يدور جدل حول صلاحيات الرئيس التنفيذية، حيث يقول مساعدون له إن عليه الحصول على موافقة من الكونغرس قبل إرسال أسلحة ومساعدات عسكرية إضافية إلى القوات الأوكرانية، التي تحصل عليها من أماكن أخرى في كل الأحوال. وهنا، وبخلاف الاعتقاد، فإن الجمهوريين غير متحمسين، على اعتبار أن المسألة الأوكرانية لا تحظى بالكثير من الاهتمام الشعبي الداخلي، إلا إذا ما انعكست على أسعار النفط.
في كل الأحوال، تبقى كيفية إدارة بايدن للأزمة أساسية لرسم سياسته الخارجية في الفترة المتبقية له في السلطة، وتقدير القوة الأميركية لفترة طويلة مقبلة، وعلاقة الولايات المتحدة مع العالم. ومع استمرار الباب مفتوحاً أمام الأفق الدبلوماسي، مع خليط من العقوبات التصعيدية، يواصل بايدن اتباع سياسة الغموض، رغم "الصدمة" التي أحدثتها إدارته لجهة ضعف ردعها ثم ردّها على الهجوم الروسي. وتتهم هذه الإدارة بأنها تسير منذ بداية الأزمة خطوة إلى الوراء في كل مرة خلف خطوة بوتين. فهل تنتظر وتراهن على فشل الروس في استراتيجية الخروج؟