تأتي زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى كييف، في وقت تواجه فيه حكومته تحدياً جديداً ليس الأول منذ تولّيه منصبه في يوليو/تموز 2019. وإن كان جونسون قد تجاوز تحدّيات خارجية، كالأزمة مع إيران عندما أقدمت الأخيرة على احتجاز سفينة بريطانية في مضيق هرمز عام 2019 أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتوصل إلى اتفاق بهذا الشأن، إلا أن نجاته كانت على المحك قبل أيام قليلة وما تزال ربما في ملفات داخلية أخرى.
مثّلت جائحة كورونا أحد التحديات أمام رئيس الوزراء الذي كان سبّاقاً بين زعماء الدول الأوروبية في دعوته إلى "مناعة القطيع". أفقدته سياسته تلك الكثير من الشعبية، على الرغم من الدعم الكبير الذي قدّمته حكومته للقطاع الصحي ولشريحة كبيرة تضرّرت أعمالها جراء الإغلاق العام.
مثّلت جائحة كورونا أحد التحديات أمام جونسون الذي كان سبّاقاً بين زعماء الدول الأوروبية في دعوته إلى "مناعة القطيع"
التحدّيات الاقتصادية التي فرضتها الجائحة كانت قاسية للغاية. إلا أن سياسة المملكة المتحدة في توفير اللقاح لأكبر عدد ممكن من المقيمين على أراضيها في فترة زمنية قياسية من دون إلزاميته، أعادت له بعض شعبيته. إضافة إلى محاكاة شريحة لا يستهان بها تقف ضد إجراءات الإغلاق والالتزام بقواعد الحياة الجديدة التي فرضتها الجائحة كارتداء الكمامة في وسائل النقل العام أو في المحلات التجارية والمراكز الصحية وكل المساحات المغلقة الأخرى.
حاول جونسون الاستماع إلى كل الشرائح التي برزت مع ظهور كورونا وانتشار الفيروس. حاول التعاطي مع كل المخاوف المشروعة من دون المغالاة في فرض الإجراءات. فكانت المملكة المتحدة من بين أولى الدول التي ألغت كل القيود التي فرضتها الجائحة، في الوقت الذي لم تكن فيه الأرقام تشير إلى انخفاض كبير في معدّل الإصابات اليومية.
إلا أن ذلك، إلى جانب تكثيف وعوده بزيادة الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا وخلق وظائف جديدة وتحريك عجلة الاقتصاد، لم يزح عنه خطر التنحّي.
تحقيقات تلاحق بوريس جونسون
ما أن بدأت المملكة المتحدة تتنفس من جديد بعد عبورها الموجتين الأولى والثانية من الوباء، حتى وجد رئيس الوزراء نفسه وسط عدد من التحقيقات الرسمية التي تتابع الصحف البريطانية مستجدّاتها لحظة بلحظة.
بداية بفتح تحقيق رسمي في تمويل نفقات تجديد مقرّ إقامته الرسمي ومطالبته في إحدى جلسات المساءلة التي يعقدها مجلس العموم بإعلان هوية المتبرّعين. وصولاً إلى "حفلات داونينغ ستريت"، التي سرّبتها بعض وسائل الإعلام متّهمة فيها رئيس الوزراء بإقامة ما لا يقل عن 17 تجمّعاً في مقر إقامته وفي إدارات حكومية أخرى في ذروة تفشي الفيروس في الوقت الذي مُنع فيه ملايين المقيمين في بريطانيا من مغادرة المنزل إلا للضرورة القصوى ومن تنظيم أي لقاءات عائلية أو اجتماعية.
ثم جاءت سلسلة استقالات بين أعضاء من فريق مساعديه، بينهم مستشارة الشؤون السياسية إيلينا نازورانسكي ومسؤولة السياسات منيرة ميرزا ورئيس الاتصالات جاك دويل، لتزيد من الضغوط التي يتعرّض لها جونسون لتقديم استقالته.
بيع إقامات لأصدقاء بوتين في بريطانيا
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وفرض بريطانيا حزمة عقوبات "غير مسبوقة" على روسيا، حاصرت الأسئلة جونسون وحزبه حول سماحهم لأصدقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشراء إقاماتهم في المملكة المتحدة بـ"ثروات مشبوهة أو غير مشروعة"، بالتزامن مع تأخر الحكومة في نشر المراجعة المطالبة بها منذ أربع سنوات.
وكشفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن أن ثمانية من الأوليغارشي الخاضعين لعقوبات بريطانية يحملون "تأشيرات ذهبية" ممنوحة من الحكومة البريطانية.
والتأشيرة الذهبية هذه أو ما يُسمّى أيضاً بـ"تأشيرة المستثمر" تمّ إلغاؤها في شهر فبراير/شباط بعد أن استفاد منها الكثير من المستثمرين الروسيين أو الدوليين الأثرياء الذين استقرّوا في المملكة المتحدة عبر هذا المسار. ولا يُطلب من المستثمر سوى أن يثبت امتلاكه ما لا يقلّ عن مليوني جنيه إسترليني للاستثمار في المملكة المتحدة.
وكان قد سبق للجنة المخابرات والأمن في البرلمان أن حذّرت قبل عامين من أن استغلال نظام تأشيرة المستثمر في المملكة المتحدة، ساعد العديد من الروس في سعيهم لدخول الأراضي البريطانية والاستقرار فيها. كما أن بريطانيا قدّمت بحسب اللجنة "آليات مثالية" لإعادة تدوير الأموال غير المشروعة فتحولت إلى ما يشبه "مغسلة" دولية للثروات الخارجية بحسب الصحيفة.
وفي العام 2018 طلبت وزيرة الداخلية آنذاك آمبر رود من المسؤولين مراجعة الأسس التي تمّ من خلالها السماح لأكثر من 700 ثري روسي الاستقرار في المملكة المتحدة. إلا أن الحكومة لم تنشر بعد أي مراجعة حول هذا الموضوع.
أبعاد زيارة جونسون كييف
في هذا السياق، تكتسب الزيارة التي قام بها جونسون إلى كييف ولقاؤه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أهمية كبيرة لما تحمله من بُعد رمزي. إذ لن تؤدي الزيارة غرضاً تعجز عن تأديته المكالمات الهاتفية التي يجريها الطرفان عبر الخط الآمن بشكل يومي. إلا أن بُعدها الرمزي شكلاً ومضموناً قد يؤدي أغراضاً "داخلية" أخرى يصبو إليها رئيس الوزراء في الوقت الذي تعلو فيه الأصوات المطالبة بالإطاحة به حتى من بعض نواب حزبه. ما قد يكون دفع جونسون إلى "مسرحة" هذه الزيارة غير المعلنة والمفاجئة.
الطريق المحفوف بالمخاطر إلى كييف قد يكون بالنسبة إلى جونسون أحد مفاتيح الخروج من الأزمة التي يواجهها
تقديم المزيد من المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا لا يحتّم على جونسون زيارة كييف، كذلك تقديم الدعم المعنوي للشعب الأوكراني. إلا أن الطريق المحفوف بالمخاطر إلى كييف قد يكون بالنسبة إلى جونسون أحد مفاتيح الخروج من الأزمة التي يواجهها، وإن لم ينجُ منها كرئيس للوزراء قد تسعفه تلك "المسرحة" على أن يخرج "بطلاً" بشكل أو بآخر، وتزيح عنه التهم المتلاحقة بالمحسوبية والفساد وارتكاب الكثير من الأخطاء.
وربما سيبقى الفيديو الذي نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية لجونسون متجوّلاً إلى جانب زيلينسكي في شوارع كييف وحقّق نسبة مشاهدة وصلت إلى أكثر من ستة ملايين، عالقاً في الأذهان أكثر من المقاطع المسرّبة عن "حفلات داونينغ ستريت". ولم تنته ربما هذه "المسرحة" مع فيديو الجولة تلك، فقد بدأت بعض الصحف البريطانية بتسريب مشاهد خلفية وتفاصيل "درامية" جديدة عن تلك الزيارة كالطريق الذي سلكه رئيس الوزراء للوصول إلى كييف من بولندا في "رحلة قطار سرّية".
قيل إن الكثير من السياسات الخارجية ما هي إلا داخلية بالأصل. ولا شك في أن لسياسة بوريس جونسون الخارجية في أوكرانيا وغيرها، الكثير من المحرّكات الداخلية.