قبل أن يطّلع التونسيون على نسخة الدستور الجديد، فوجئوا للمرة الثالثة خلال سنتين ونصف السنة بوزارة الداخلية تُعلمهم بوجود "مخططات جدية" لاغتيال رئيس الدولة قيس سعيّد. وعلى الرغم من خطورة هذه الاتهامات المتكررة، إلا أن الحيثيات والأدلة الواقعية لم ترتق إلى الحد الأدنى الذي يمكن الاعتماد عليها لتوجيه الاتهام إلى شخص محدد أو جهة ما، وبالتالي إحالة الملف على القضاء.
حتى إعلان وزارة الداخلية الذي تم عرضه في مؤتمر صحافي في 24 يونيو/حزيران الماضي، جاء خالياً من معطيات من شأنها أن تحيل الرأي والمتابعين على طرف محدد يمكن اتهامه. أُثيرت القضية وغابت التفاصيل. فمن يريد التخلص جسدياً من الرئيس قيس سعيّد
ما يلفت الانتباه في هذا السياق أن سعيّد كرر في خطب عديدة أنه شخصياً "مشروع شهيد". ويعتقد جازماً بأنه مستهدف، وأن هناك من يعمل على قتله، ويعتبر أن "مشروعه الإصلاحي" يتعارض مع مصالح بعض الأطراف التي ستقاومه بكل الوسائل، بما في ذلك اللجوء إلى التصفية الجسدية.
اقتناع سعيّد بوجود محاولة لاغتياله
ازداد هذا الاقتناع لديه بعد 25 يوليو/تموز الماضي، على إثر انفراده بالسلطة وحل البرلمان وإلغاء الدستور، خصوصاً شروعه عملياً في تصفية خصومه ومختلف المؤسسات التي اعتمدت عليها الطبقة السياسية التي حكمت وهيمنت على الدولة، سواء بعد الثورة أو قبلها.
وبناء عليه يتوقع الرجل أن جميع المتضررين من هذا الانقلاب الجذري في موازين القوى، سيحرصون بشكل ما على مقاومته والتخلص منه حتى عبر الطرق العنيفة.
تُبذل جهود من أجل إثبات تلقي "النهضة" تمويلات خارجية
الطرف السياسي الذي يوحي قيس سعيّد دائماً بأنه المرشح لاحتمال الإقدام على مثل هذا العمل هم الإسلاميون، وتحديداً حركة "النهضة"، التي يُنظر إليها من قبل الجهات الرسمية كعدو مباشر.
لهذا السبب، استعادت الأجهزة الأمنية، بتعليمات من القيادة السياسية، الملفات القديمة في مرحلة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (1987-2011)، وأضافت إليها قضايا جديدة، طُرحت خلال العشرية الماضية.
فقيس سعيّد هو أول رئيس بعد الثورة في عامي 2010-2011، الذي دعم خصوم "النهضة" في محاولة تطويقها، وذلك من خلال فتح ملفات شائكة مثل ملف "التنظيم السري" أو ملف الاغتيالات السياسية.
كما تتوالى الجهود في الفترة الأخيرة لمحاولة إثبات تلقّي الحركة تمويلات من جهات أجنبية، عبر شركة تحمل اسم "شركة نما" التي أسسها بعض المنتمين إليها.
فالرئيس سعيّد واثق بأن "النهضة" متورطة في "التبعية للخارج". وقد اتهمها بذلك في أكثر من مناسبة. كما أنه مقتنع بأنها حركة لا تزال تمارس السرية، وتلجأ في الخفاء إلى العنف والإرهاب، لكن مع ذلك لم تتوصل الأجهزة الأمنية إلى إثبات ذلك، على الرغم من اعتقال عدد من الكوادر الأساسية في الحركة.
ولهذا، تستمر الجهود في اتجاه إدانة الحركة ومحاولة إخراجها من دائرة الشأن السياسي. ولهذا السبب، شرعت السلطة في تشديد الخناق على رئيس الحركة راشد الغنوشي تحديداً، عندما أعلنت وزارة الداخلية عن وجود مخطط لاغتيال الرئيس، وربطت ذلك بمنعه من السفر إلى جانب 32 من شخصاً مقرّبين منه، ما يوحي بأن الأسابيع المقبلة خصوصاً بعد الاستفتاء على الدستور، قد تكون حبلى بأحداث ساخنة.
عودة سيناريو التصادم بين سعيّد و"النهضة"
ومع أن سيناريو التصادم الواسع بين سعيّد وحركة "النهضة" كان مستبعداً خلال المرحلة السابقة، لكنه اليوم أصبح ممكناً، بعد أن اشتدت رغبة رئيس الدولة في الانفراد بالحكم. لقد أصبحت ملفات "النهضة" مطروحة اليوم على طاولتي رئيس الجمهورية ووزارة الداخلية.
ووجهت العديد من التهم الخطيرة لأقرباء راشد الغنوشي، مثل ابنه معاذ وابنته سمية وصهره رفيق عبد السلام، وزير الخارجية السابق. فهل تنجح السلطة في إثبات صحة مثل هذه الاتهامات، وبالتالي إخراج الإسلاميين من المعادلة نهائياً؟ إنه رهان صعب، فشل في تحقيقه بن علي على مدار عشرين سنة من حكمه.
يوحي سعيّد بأن "النهضة" تستهدف اغتياله
في سياق الصراع المفتوح على احتمالات عديدة، تأتي الأخبار الواردة حول وجود مخططات لاغتيال الرئيس سعيّد. هناك من يعتبر ذلك جزءاً من سيناريو محتمل من أجل إشغال الرأي العام ودفعه نحو الالتفاف الشعبي حول رئيس الدولة، الذي يقود معركة كبرى من أجل سحب البساط من تحت أقدام الجميع بمن فيهم أنصاره، حتى يحافظ على صورة الشخص الملاحق من قبل خصومه.
في هذا السياق، هناك جزء لا بأس به من التونسيين الذين لا يستبعدون مثل هذا السيناريو. ويستحضر هؤلاء في هذا السياق ما حدث للرئيس المصري جمال عبد الناصر. لكن في المقابل، لا يعتقد آخرون أن تقع حركة "النهضة" في مثل هذا المطب الخطير.