لم يجد جيش الاحتلال الإسرائيلي مكاناً يسوق فيه "انتصاره" الوهمي في عمليته العسكرية ضد مخيم جنين يومي الثالث والرابع من يوليو/تموز الماضي، إلا بالتقاط صورة جماعية حينها، لعدد كبير من جنوده أمام بوابة مخيم جنين الحجرية، أو ما تعرف لدى الفلسطينيين بقوس النصر أو بوابة العودة، لرمزيتها البالغة بالنسبة لسكان المخيم الذي بات أيقونة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة خلال العامين الأخيرين.
لكن الاحتلال، الذي ضاق ذرعا بقدرة مخيم جنين وأبنائه على الصمود والمواجهة، أقدم يوم الاثنين، على هدم تلك البوابة بواسطة جرافة ضخمة، ضمن أشكال الانتقام المتعددة التي بات يمارسها في الضفة الغربية منذ عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
النزعة الانتقامية على جنين خاصة، ورموز المقاومة عامة، امتدت لتطاول مجسم الحصان القريب من المخيم أيضا، والمصنوع من بقايا مركبات الإسعاف وسيارات المواطنين التي دمرتها دبابات جيش الاحتلال خلال اجتياحها مخيم جنين خلال "عملية السور الواقي" في إبريل/نيسان 2002، وكذلك النصب التذكاري للعديد من الشهداء والمقاومين.
محطة انتظار لحين العودة
شيد قوس النصر على المدخل الشمالي لمخيم جنين للترحيب بالزوار، حيث تعلوه عبارة "مخيم جنين - محطة انتظار لحين العودة"، وهو الشعار المرفوع على كافة مداخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، قبل عقد من الزمان، بارتفاع يصل إلى 9 أمتار وبعرض 6 أمتار، على شكل قوسين متلاصقين، أحدهما للداخلين والثاني للمغادرين من المخيم، وفي المنتصف هناك واجهة من الحجر علقت في وسطها عبارة العودة.
لكن هذا القوس أخذ أبعادا أكثر أهمية، منذ تأسيس كتيبة جنين، عام 2021، حيث علقت عليه صور الشهداء وأعلام فصائل المقاومة، وبات رمزا للمواجهة، وأمامه تلقى البيانات العسكرية، ومن أسفله تمر جنازات الشهداء.
وعن ذلك، قال الكاتب سري سمور لـ"العربي الجديد" إن "الأمر متعلق بالرمزية أكثر من أي شيء آخر، فالقوس هو مجرد حجارة، لكنه بات مكانا يرمز للصمود والتحدي في مواجهة الاحتلال، لذلك كانت تلك الصورة التي التقطها جنوده خلال عدوانهم على المخيم، ضمن الدعاية والحرب النفسية التي يمارسها ضد أبناء الشعب الفلسطيني".
وتابع أن الاحتلال الإسرائيلي "أدرك أن دعايته لم تمر، بل على العكس تماما، فقد كانت نتائجها سلبية عليه، واتقدت معها شعلة المقاومة في المخيم من جديد، حيث كانت تلك البوابة المكان الذي تجمع حوله المئات من المقاومين محفوفين بالحاضنة الشعبية فور اندحار الاحتلال يومها يجر أذيال الهزيمة، فلم يجد أمامه وسيلة إلا بالانتقام لنفسه بهدمها".
وأضاف سمور: "الاحتلال يسعى جاهدا للبحث عن صورة ولو كانت مزيفة للانتصار، ولو على حساب مجسم حجري أو نصب تذكاري لشهيد، فما جرى له في معركة طوفان الأقصى كان ضربة قاضية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إضافة لكون هذه الخطوة انتقامية بامتياز، ليس فقط من المخيم الذي فشل في كسره، بل لكل ما يرمز إليه من مقاومة وحق العودة وقضية اللجوء".
إفلاس عسكري
من جهته، اعتبر الناشط المجتمعي، أيمن أبو سرية، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الاحتلال الإسرائيلي قد أفلس نهائياً، ولم يعد لديه أهداف حقيقية كما يدعي لذلك تراه يقتل الأطفال والنساء في غزة، ويستقوي على الحجارة الصماء في الضفة، وهو بذلك يحاول أن يرسل رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي مفادها بأنه ممسك بزمام الأمور في الضفة الغربية، مؤكدا أن الفلسطيني الذي يقدم روحه فداء لفلسطين لن يتأسف على حجارة هدمت هنا أو هناك، رغم الرمزية الكبيرة لها".
وأشار أبو سرية إلى أن "من شيد هذا القوس، سيبنيه من جديد، المهم أن تبقى المقاومة مرفوعة الرأس، ويبقى مخيم جنين شوكة في حلق الاحتلال وأعوانه".
مزار
لقوس النصر مكانة كبيرة في نفوس أبناء مخيم جنين، وقد تحول إلى مزار لمن يأتون من خارجه، حيث يقفون على مسافة منه ويلتقطون الصور التذكارية، في المكان ذاته حيث وقف الشهداء قبلهم.
وقال الصحافي أنس حوشية، الذي يغطي منذ سنوات الأحداث في مخيم جنين، إن "الانتقام من كل شيء يرمز إلى النضال الفلسطيني هو ديدن المحتل، لذلك دمر القوس ودوار الحصان"، وهو مجسم لحصان ضخم رأسه موجه صوب مدينة حيفا التي يتحدر منها الآلاف من أهالي المخيم، ويقع على المدخل الشرقي له.
وكانت جرافة عسكرية إسرائيلية سوت المجسم بالأرض، وسحبته إلى منطقة مجهولة، علماً أن هيكله صنع من بقايا المركبات التي دمرتها آليات أو قصفتها طائرات الاحتلال في إبريل/نيسان 2002، بما في ذلك مركبة الإسعاف التي كان يستقلها مدير مركز الإسعاف التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة جنين، خليل سليمان الذي استشهد خلال عملية إسعاف وإنقاذ مصابين داخل المخيم.
ولفت إلى أن شهية الانتقام من الرموز ومن كل ما يذكر الفلسطينيين بأبطالهم، همت كذلك هدم وتخريب الأنصاب التذكارية التي تعود لشهداء جنين ومخيمها، ومنها نصب الدكتور عبد الله أبو التين الذي اشتسهد في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
ونقل حوشية عن أهالي المخيم تأكيدهم أن "ما فعلته إسرائيل بحق تلك الرموز عمل بربري ووحشي، وهي تسعى لطمس معالم المخيم والنيل من كل رمز يشكل قيمة لدى الأهالي هنا، لكنهم مصرون على احتضانهم للمقاومة كي يبقى مخيم جنين رمز النضال في الضفة الغربية ككل".