تتردد عبارة "صمود الديمقراطية"، لدى الحديث عن الانتخابات الرئاسية التي أجريت في نيجيريا في 25 فبراير/ شباط الماضي، وأدّى الفائز بها حاكم مدينة لاغوس الأسبق بولا أحمد تينوبو اليمين الدستورية في أبوجا، الإثنين الماضي. كذلك يتكرّر التذكير بأن هذه الانتخابات شهدت وصول مدني إلى الحكم، ولم يكن فيها مرشح واحد من العسكر، بعد ولايتين رئاسيتين مخيّبتين للجنرال السابق محمد بخاري، الذي ترك السلطة باقتصاد منهار، ولم يعالج مسألة جماعة "بوكو حرام". وإذا ما تمّت مقارنة انتخابات نيجيريا، الواقعة في غرب أفريقيا، وأكبر اقتصادات القارة، بما يجري في دول أفريقية عدة من انقلابات عسكرية، أو انتخابات صُوَرية أو تبقي على رئيس ليُعمّر في السلطة، فإن الانتقال السلس للحكم في هذا البلد، الأكبر من حيث عدد السكّان في أفريقيا، يستحق التوقف عنده، علماً أن ما وراء الكواليس قد يقلّص كثيراً من حجم الرهان على التجربة.
"عرّاب لاغوس" رئيساً لنيجيريا
وبغضّ النظر عن أنه لا يزال على المحكمة العليا في نيجيريا البتّ بطعن المعارضة في فوزه، وهي مسألة قد تأخذ بضعة أشهر إضافية، فقد أدّى تينوبو (71 عاماً) اليمين الدستورية في احتفال ضخم في أبوجا، الإثنين الماضي، أرسلت إليه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وفداً رفيع المستوى، فيما وجّه بايدن نفسه تهنئة طويلة للرئيس النيجيري الجديد المنتخب.
وأطلق تينوبو، خلال حفل تنصيبه، وعوداً بالجملة، لجهة رأب الصدع بين الشمال النيجيري المسلم، والجنوب ذي الأكثرية المسيحية، والسعي لتطبيق تجربته كحاكم لمدينة لاغوس، أكبر مدن البلاد وعاصمة نيجيريا الاقتصادية، في تحديثها، على مدن كبرى أخرى، وهو ما يطمح إليه المعجبون بالرجل، صاحب الثروة الضخمة، والذي يتشابه وصوله إلى الحكم مع وصول رجل الأعمال سيلفيو برلسكوني إلى رئاسة حكومة إيطاليا للمرة الأولى في عام 1994.
يطمح الداعمون لتينوبو إلى أن يعيد في عموم البلاد تجربته في تحديث ونهضة لاغوس حين كان حاكماً لها
وتشوب سمعة تينوبو الكثير من الشوائب، على غرار برلسكوني، إذ اتُهم مراراً بالفساد، لكن من دون أن يدان ولو لمرة واحدة. وشكّل الخبر السيئ برفع الدعم عن الوقود في نيجيريا فاتحة تنصيبه، في إشارة بالغة الأثر حول حجم التحديات الاقتصادية التي تنتظره، مع ارتفاع نسبة التضخم والديون (للصين خصوصاً)، والتي تترافق مع تحديات أمنية واجتماعية وعرقية هائلة. وقد يكون حجم الإحباط الذي يعيشه النيجيريون، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والذين يزدادون فقراً، أحد أبرز انعكاسات تعثر الاقتصاد النيجيري، الذي سيكون على حليف بخاري مداواته.
وليس معروفاً بعد العلاج السحري الذي سينتهجه الرئيس النيجيري المنتخب، الآتي من خلفية رجال الأعمال، والذي درس وعمل في الولايات المتحدة (ومع شركة "إكسون موبيل" العملاقة الأميركية للنفط)، في بلد، غضّ الغرب طويلاً النظر عنه، في ما يتعلق بالفساد المستشري، وانتهاكات حقوق الإنسان، أو ما يعرف بالحكومات الكليبتوقراطية (حكومات الفاسدين واللصوص)، حيث ارتضت فيه الولايات المتحدة (ومعها بريطانيا)، صاحبتا المصالح القوية في نيجيريا، بديمقراطية بالحد الأدنى، للمحافظة على مشاريعهما. وقد يكون من المفارقة أن الرئيس المنتخب (رغم أن النتيجة لا يزال متنازعاً عليها)، كان ناشطاً سياسياً مطالباً بالديمقراطية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، قبل أن يصبح "صانع ملوك" أو حليف السلطة من خلف الستار.
وليس تينوبو حليفاً مقرباً للرئيس المغادر فقط، بل "العرّاب"، الذي يعمل دائماً كما يقال في الكواليس، وكان له دور كبير في وصول بخاري إلى الرئاسة للمرة الأولى عام 2015، حينما تمكن تحالفهما من الانصهار، وطرد حزب الشعب الديمقراطي من السلطة، والذي كان ممسكاً بها في ذلك الوقت منذ عام 1999. وينتمي تينوبو، وهو سيناتور سابق في مجلس الشيوخ النيجيري، إلى حزب بخاري نفسه، حزب "مؤتمر كل التقدميين"، والذي تشكّل من اندماج حزب تينوبو، "مؤتمر العمل في نيجيريا"، وحزب بخاري السابق "مؤتمر التغيير التقدمي" في عام 2010، ليبقى تينوبو يعمل من الخلف، بعد وصول بخاري إلى السلطة في أبوجا.
ويتوقع على نطاق واسع أن تحافظ الإدارة في أبوجا مع الرئاسة الجديدة (وهي الخامسة في عهد الجمهورية الخامسة والـ16 منذ استقلال نيجيريا عام 1966)، على عدد من أفراد "الحرس القديم"، أو أن تبقي على بعض "العادات السيئة"، بحسب تعبير تقرير نشر على موقع مجلة "فورين بوليسي" في تقرير نشرته على انتقال السلطة في نيجيريا. ولفت إلى أنه "بعد انتصار حزب بخاري وتينوبو في انتخابات 2015، فإن الأخير بقي نشطاً في الخلفية، داعماً عمل بخاري وواضعاً الأسس بهدوء لخلافته، وهو ما أتى أكله أخيراً، ولو في بعض الأحيان على حساب سمعة تينوبو الأصلية كمعارض شرس للحكم العسكري ولتدخل الحكومة الفيدرالية بشؤون الولايات (نيجيريا جمهورية فيدرالية مثل الولايات المتحدة).
وقد كانت لتينوبو تجربة سيئة مع حراك عام 2020، حين خرجت مسيرات شبابية عارمة، خصوصاً في ولايتي إيدا والدلتا، رفضاً للممارسات ما يسمى بـ"اللواء الخاص لمكافحة السرقة"، أو "سارس"، والتي أرسل بخاري قوات لقمعها، إذ وجّه تينوبو انتقادات لاذعة للحراك، أفقدته الكثير من شعبيته.
يتوقّع على نطاق واسع أن تحافظ الإدارة في أبوجا مع الرئاسة الجديدة على عدد من أفراد "الحرس القديم"
لكن حينها، وبعدها إثر اتخاذ بخاري إجراءات اقتصادية قاسية، وحتى سياسة استبدال الأوراق النقدية (نايرا) القديمة بداية العام الحالي، وأزمة شحّ المواد في الأسواق، حافظ تينوبو على ضبط النفس، رغم ما أشيع وبدا عن رغبة بخاري بعدم وصول حليفه إلى السلطة، أو محاولته ضرب شعبية الحزب الحاكم لإسقاطه. وبغض النظر عما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا، فإن تينوبو لم يهاجم بخاري، أو يعمد إلى محاولة خلق شقاق داخل "مؤتمر كل التقدميين".
طعن المعارضة وتحديات السلطة
وتتهم المعارضة السلطة اليوم بتزوير انتخابات فبراير الماضي، علماً أن شريحة كبيرة من الشباب كانت تعوّل على مرشح حزب العمّال بيتر أوبي، وهو الذي قدّم طعناً بالنتائج (أوبي حلّ ثالثاً خلف مرشح حزب الشعب الديمقراطي أتيكو أبو بكر).
شريحة كبيرة من الشباب كانت تعوّل على مرشح حزب العمّال بيتر أوبي
ويلعب لصالح حكم تينوبو اليوم كونه صاحب نفوذ وتأثير واسعين في دوائر القرار، وهي واحد من أهم مفاتيح اللعبة في هذا البلد، وحصل على تأييد عارم في جنوب غرب البلاد، ومن أبناء عرقية اليوروبا التي ينتمي إليها، كما أن خسارته في الشمال الغربي كانت محدودة أمام منافسيه، وبفوارق صغيرة جداً في الولايات التي خسرها، لكن النقطة الفارقة كانت خسارته لاغوس، وكذلك خسارته نسبة الـ25 في المائة المطلوبة ربما لاعتباره فائزاً في "أراضي العاصمة الفيدرالية" (أف تي سي)، وهي النقطة التي يتعيّن على المحكمة العليا البت فيها، وتفسير بند في الدستور حولها.
كما أن المرشح أوبي، وهو أحد المنشقين عن حزب الشعب الديمقراطي، وجّه اتهامات بحصول عمليات ترهيب وتخويف للناخبين. وإذا ما احتسبت كل أصوات المعارضة في الكونغرس الحالي المنبثق عن انتخابات فبراير، فإنها تفوق الحزب الحاكم.
ويعدّ إقناع تينوبو للنيجيريين، بجميع تناقضاته، من ثروته وإرثه السياسي، مهمة غير سهلة، تماماً كما فقد لاغوس، مدينته الأم، لصالح المعارضة في الانتخابات الأخيرة. ويواجه الرئيس الجديد معضلة أولى، في ما إذا كان مستعداً لتحدي "الأوضاع القائمة" والفساد المستشري، لتمرير حزمة إصلاحات ضرورية تحتاجها البلاد بشدة لخفض نسبة التضخم ومكافحة البطالة والفساد المستشريين وطمأنة الشعب، فضلاً عن مواصلة جماعة "بوكو حرام" المتطرفة سيطرتها على عدد من المناطق في الشمال الشرقي.
(العربي الجديد)