نصف اعتزال لسعد الحريري: مسيرة سياسية مليئة بالأزمات والتنازلات

24 يناير 2022

+ الخط -

علّق رئيس الحكومة اللبناني السابق سعد الحريري عمله السياسي، اليوم الإثنين، معلناً عدم ترشحه ولا تيار "المستقبل" للانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو/أيار المقبل، غير أنه لم يقفل باب "بيت العائلة"، معتبراً أنه "سيبقى مفتوحاً لكل اللبنانيين".

وأكد الحريري تحت شعار "تحمّل المسؤولية" و"منع الحرب الأهلية"، رفضه المشاركة في الانتخابات في خطاب قصير من مقرّه في وسط العاصمة اللبنانية بيروت. 

تسويات سعد الحريري

وعدّد المحطات التي أجرى فيها تسوية "على حسابي من أجل لبنان"، وهي أحداث 7 مايو 2008، وزياراته إلى العاصمة السورية دمشق، وانتخاب الرئيس ميشال عون، وإقرار قانون انتخابي تضرّر منه.

وتطرّق إلى انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، والمسار الفاشل لولادة حكومة اختصاصيين بقيادته، ثم مرّ على خسارته ثروته الشخصية والعلاقات الخارجية، متحدثاً عن النفوذ الإيراني في لبنان والتخبّط الدولي، قبل أن يعلن تعليق عمله السياسي وتعليق عمل تيار "المستقبل"، شاكراً مناصريه وحلفاءه، خصوصاً رئيس "التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، والبطريركية المارونية.

دخل الحريري الحياة السياسية بعد اغتيال والده في عام 2005

 

واستعاد في ختام خطابه، مغالباً الدموع، كلام والده رئيس الوزراء المغتال رفيق الحريري، قبل استقالته من الحكومة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2004: "أستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب. وأعبر من كل جوارحي عن شكري وامتناني لكل الذين تعاونوا معي خلال الفترة الماضية".

وأنهى هذا الخيار، مبدئياً، مساراً طويلاً من حياة سياسية وُلدت فجأة للحريري، بعد اغتيال والده في 14 فبراير/شباط 2005.

خروجه إلى الواجهة وريثاً مرّ بعقبة تجاوزه دور شقيقه الأكبر بهاء، الذي اتجهت الأنظار إليه أولاً، إلا أن اتفاقاً تمّ داخل العائلة دفع سعد الحريري ليكون الممثل الجديد لـ"الحريرية السياسية".

وطيلة الـ17 عاماً في السلطة، كأكبر نيابية في البرلمان وكرئيس حكومة مرات عدة وكشاهد في المحكمة الخاصة بلبنان، لم تخلُ مسيرة الحريري من خيبات أمل عدة، بدءاً من المحكمة بالذات، التي توصلت في أغسطس/آب 2020، إلى اتهام المسؤول العسكري في حزب الله، سليم عياش، بالضلوع في اغتيال الحريري الأب، في حكمٍ وُصف بـ"الباهت" قياساً على الزخم الإعلامي والسياسي الذي رافق مسار المحكمة، التي بدأت بعدها تعاني من أزمة تمويل تمنعها من مواصلة أعمالها.

الحريري الفائز بأكبر الكتل النيابية في تاريخ لبنان في انتخابات 2005، وقائد تجمّع "14 آذار" في مواجهة فريق "8 آذار"، تعرّض لأقسى ضربة له، بدأت مع حصار حزب الله وحلفائه السراي الحكومي في ساحة رياض الصلح في بيروت، بدءاً من مطلع عام 2007، احتجاجاً على دعم الحكومة لشهودٍ في قضية الحريري، اتهموا حزب الله وسورية باغتياله.

الخلاف مع حزب الله 

تجلّت الضربة بداية مع استقالة الوزراء المحسوبين على حزب الله وأمل ورئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود، من الحكومة بقيادة فؤاد السنيورة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2006، ثم رفض الحكومة اعتبار نفسها مستقيلة، بل استمرت في مواصلة أعمالها.

وفي نوفمبر 2007، انتهت ولاية لحود الرئاسية، ما جعل صلاحياته بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، رغم تكليف لحود الجيش اللبناني تسلّم أمن البلاد وفقاً للمادة الرابعة من قانون وزارة الدفاع.

ازداد الضغط في لبنان وصولاً حتى 5 مايو 2008، حين أصدرت الحكومة قراراً بإزالة شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله (وهي منفصلة عن شبكة الدولة اللبنانية) وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير (المحسوب على حزب الله).

اعتبر الحزب القرارين "إعلان حرب" ضده، فاجتاح مراكز تيار "المستقبل" في بيروت بمشاركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي، مشعلاً معارك متنقلة استمرت حتى يوم 11 مايو، تخللتها اشتباكات بين الحزب و"التقدمي الاشتراكي" في معاقل الأخير، قبل أن تنتهي باتفاق الدوحة في قطر، الذي أوقف المعارك وسهّل المسار السياسي بتشكيل حكومة جديدة وانتخاب قائد الجيش، العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

عاد الحريري وانتصر في انتخابات 2009، لكنه فشل في استثمار انتصاره، في ظل توافق سعودي ـ سوري، تُرجم بلقاءات على مستوى رئيس النظام السوري بشار الأسد والملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز.

وعلى الأثر زار الحريري سورية ست مرات بين عامي 2009 و2010. وبعدما كال الاتهامات لها باغتيال والده، وصف من دمشق، هذا الاتهام بـ"السياسي" وأنه كان "مخطئاً فيه".

أضعفت الزيارات وهج الحريري، وصولاً إلى إسقاط حكومته من قبل وزراء حزب الله وأمل و"التيار الوطني الحر"، خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في 12 يناير/كانون الثاني 2011، بسبب المحكمة الدولية نفسها، والدور الذي كانت تؤديه "ضد المقاومة" وفقاً لأدبيات المستقيلين.

وحين طُرح اسم البديل لرئاسة الحكومة، جال عناصر من حزب الله بزيّهم بالقرب من منزل جنبلاط، في حي كليمنصو البيروتي، ليفهم رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" أنه "ملزم" في انتخاب نجيب ميقاتي خلفاً للحريري.

بعدها، ومع بدء مواسم الربيع العربي، واندلاع الثورة السورية، تغيرت المعطيات في لبنان. تدخل حزب الله بشكل علني إلى جانب الأسد في عام 2011، وبدأ السوريون يفرّون من بلادهم إلى دول الجوار، ومنها لبنان.

غاب الحريري عن البلاد لفترة طويلة، على الرغم من زيارات متقطّعة له إلى بيروت.

ثم في عام 2014، اختار الحريري رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع مرشحاً في الانتخابات الرئاسية، ثم رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، المنتمي إلى فريق "8 آذار" بعد تضاؤل حظوظ جعجع، لكن تمسك حزب الله بالنائب في حينه ميشال عون، عطّل الاستحقاق الرئاسي عامين كاملين، قبل أن يجري الحريري "تسوية رئاسية" مع صهر عون، النائب جبران باسيل، بمشاركة رئيس مكتب الحريري في حينه نادر الحريري (وهو ابن عمّته أيضاً).

شكّل الحريري أولى وثاني حكومات عهد عون، قبل أن يتعرّض في انتخابات 2018، لأكبر نكسة انتخابية، مع تراجع عدد نواب كتلته إلى 20 نائباً، بعدما وصل في مرات سابقة إلى 35 نائباً.

ثم انفجرت الأوضاع المعيشية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، مع اندلاع الاحتجاجات في مختلف المناطق اللبنانية، فأعلن استقالته في 29 أكتوبر من العام عينه، وباشر الانفكاك عن عون.

لم يقتصر تراجع الحريري أمام خصومه فحسب، بل اشتبك مراراً مع حلفائه، خصوصاً رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط وجعجع.

كما سبق له أن قدّم استقالته من رئاسة الحكومة في نوفمبر 2017، من السعودية، في أسابيع جرى الحديث فيها عن "اختطافه" هناك، قبل العودة إلى بيروت في يوم عيد الاستقلال في 22 نوفمبر من العام عينه، ومتراجعاً عن الاستقالة.

أُعيدت تسمية الحريري مجدداً رئيساً للحكومة في أكتوبر 2020، بعد استقالة حكومة حسان دياب، لكنه عاد واعتذر عن التشكيل في منتصف عام 2021، مغادراً البلاد. كما أقفل مؤسسات عدة، ومن بينها تلفزيون "المستقبل".

وهنا بدأ دور شقيقه بهاء بالبروز مجدداً، فباشر بافتتاح تلفزيون عبر الإنترنت، ثم افتتح سلسلة مكاتب في أنحاء عدة من لبنان.

ما فُسّر وكأن صفحة سعد الحريري تُطوى لمصلحة شقيقه، في ظلّ عوامل إقليمية مؤثرة، أشار إليها في خطابه.

وعلى الرغم من محاولته تحقيق التوازن مع خصومه، خصوصاً "التيار الوطني الحر" وحزب الله، إلا أن الحريري تمتع بعلاقات قوية مع رئيس المجلس النيابي، رئيس حركة "أمل" نبيه بري، المحسوب على حزب الله.

حتى أن بري دفعه مراراً لمواصلة العمل السياسي في لبنان، بل أن الحريري زاره في الأيام الأخيرة لإبلاغه قرار عزوفه عن الترشح للانتخابات.

عدّد الحريري المحطات التي "أجريت فيها تسويات على حسابي"
 

وسبق لبري أن قال بعد استقالة الحريري في عام 2019: "قدمت لبن العصفور للحريري، وإذا رفض سأكون على عداء معه إلى الأبد".

غير أن مسألة الحريري لا تتوقف هنا، فالحديث في الأوساط السياسية في بيروت يدور حول احتمال عزوف رؤساء حكومات سابقين عن الترشح، تضامناً مع الحريري.

وبدأ تمّام سلام هذه الخطوة بإعلانه عدم الترشح للانتخابات، وسط كلام عن نوايا مماثلة للسنيورة ورئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي.

ومع أن البعض ربط عزوف الحريري وتيار المستقبل عن المشاركة الانتخابية بالمقاطعة المسيحية لأول انتخابات بعد الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، وجرت في عام 1992، إلا أن المفارقة تكمن في أن انسحاب تيار "المستقبل" ليس خياراً طائفياً حتى الآن، ما لم يمنح داء الإفتاء "بركة" المقاطعة، بصورة مماثلة لما فعل البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير منذ 30 عاماً، حين دعا المسيحيين للمقاطعة الانتخابية.

ضبابية المرحلة المقبلة

وفي انتظار ردود الفعل في الساحة المؤيدة للحريري، بات من الواضح أن تعليق الأخير عمله وعمل تياره السياسي، يعني إفساح المجال لقوى أخرى بالبروز، في ظلّ حديثٍ يسود في بيروت حول تسليم راية "الحريرية" إلى بهاء الحريري، وتشكيل خطاب صلب في مواجهة حزب الله.

مع العلم أن مختلف استطلاعات الرأي تمنح الأطراف التي كانت محسوبة على فريق "14 آذار" انتصاراً نيابياً حاسماً في انتخابات مايو، خصوصاً في الساحة المسيحية، المفترض وفق الأرقام نفسها، أن تشهد سقوطاً كبيراً لتيار رئيس الجمهورية ميشال عون، بعدما أمسك بالأكثرية النيابية المسيحية 17 عاماً، أمام "القوات اللبنانية".

لكن مع اعتذار الحريري، فإن التعقيدات باتت أكبر، خصوصاً أن المعركة النيابية ستشمل أولاً الـ20 نائباً الذين كانوا يمثلون تيار "المستقبل" في السنوات الأربع الماضية، ويُرجّح أيضاً أن تكبر كرة الثلج التي رماها الحريري، لتطاول أطرافاً أخرى قد تنضم إلى مقاطعة الانتخابات.

وفي أول رد على عزوف الحريري، غرّد جنبلاط على "تويتر": "تيتّم الوطن اليوم، والمختارة (مقرّه) حزينة وحيدة".