عندما افتتح مؤتمر الحوار السياسي الليبي في تونس، منذ أسبوع، قالت المبعوثة الأممية بالإنابة إلى ليبيا، ستيفاني وليامز، إن المجتمع الدولي بات على "مشارف ليبيا جديدة، بعد سنوات من الانقسام والحروب والدمار"، مضيفة "نحن نخطو للأمام بخطوات واثقة، مستندين إلى إرادة الشعب الليبي". ولدى اختتام الحوار، أكدت وليامز أن "المشاركين أنجزوا الكثير، وتوافقوا على خريطة طريق، وأقرّوا موعداً للانتخابات، وخطّة إصلاحية للمؤسسات، وتمّ الاتفاق أيضاً على الفصل بين المجلس الرئاسي والحكومة وتحديد صلاحيات كل منهما، وهذا سيُسّجل لهم، وأثبتوا أنهم مع التغيير والإصلاح وتغيير المشهد في البلاد، وهناك الآن خريطة طريق نحو الانتخابات".
كانت وليامز تدرك أن الوضع في ليبيا معقد، وأن الصراع لا يزال ساخناً، والأسلحة لم تذهب بعد إلى مستودعات جيش موحد، وأن التغيير يحتاج إلى وقت طويل وصبر أطول، ولذلك أكدت أن "عشر سنوات من الصراع لا يمكن حلّها في أسبوع واحد". لكنها لفتت إلى أن هناك "تجربة لدى المشاركين في التنازل المتبادل من أجل التوصل إلى تفاهمات، وتحدوهم رغبة كبيرة في تغيير الوضع في ليبيا، وهناك رغبة لتكون أصوات الشباب والنساء ممثلة في المشهد الجديد، وينبغي الإنصات لذلك".
سقط مقترح استبعاد المسؤولين السابقين من الترشح للحكومة الجديدة، ما شكّل ضربة للمؤتمر
هناك مؤشرات حقيقية على الأرض الليبية لا تخطئ، ويمكن أن ترفع سقف الآمال الليبية وتدعم رصيد المتفائلين، أولها أن أصوات الرصاص قد سكتت بعد اتفاق وقف إطلاق النار، ثم ما وصفته أول من أمس الإثنين، المؤسسة الوطنية للنفط، بـ"اللقاء التاريخي الذي يرسم ملامح مرحلة جديدة برعاية المؤسسة ودعمٍ أممي، حيث التقى حرس المنشآت النفطية بجناحيه الغربي والشرقي في مرسى البريقة"(خليج سرت).
ورحّب رئيس المجلس الرئاسي فائز السرّاج، بما توصل إليه المشاركون في ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عقد في تونس، مؤكداً في بيان، الإثنين، على "دعمه الكامل لهذا التوجه الذي يعزز مطالب المواطنين، ويشكل أساس مبادراته التي طرحها تباعاً للخروج من الأزمة الراهنة". وأعلن السرّاج "تخصيص مبلغ مالي للمفوضية العليا للانتخابات، وتسخير كافة الإمكانات المتاحة لتمكينها من أداء عملها بكفاءة ومهنية"، مشدداً على "أهمية الالتزام بالتاريخ المعلن لإجراء الانتخابات".
بدورها، رحبت السفارة الأميركية في ليبيا بالتقدم المحرز في مسار الحوار السياسي والانتخابات، مؤكدة وقوفها مع جميع الأطراف الليبية في الحوار السلمي، لتأكيد سيادة ليبيا ورفض التدخل الأجنبي وبناء مستقبل العملية الديمقراطية. واعتبر وكيل وزارة الخارجية الإيطالية مانيلو دي ستيفانو، أن اختتام ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس دون اتفاق على الحكومة الجديدة، ليس تباطؤاً سياسياً، بل تسارع بالنظر إلى الوضع في ليبيا قبل شهرين فقط. وأعرب دي ستيفانو في مقابلة مع وكالة "نوفا" الإيطالية في روما عن اعتقاده بأن ليبيا "مع كل أبعاد القضية اليوم، لن تعود إلى حالة الفوضى التي كانت سائدة قبل أشهر".
هذه المؤشرات الإيجابية جميعها تدلّ على أن شيئاً ما يتغير على الأرض الليبية، وأنه ربما قد آن أوان طاولة الحوار، بقطع النظر عمن يجلس حولها، على الرغم من أن وليامز كانت ترغب في إنهاء الحوار السياسي في تونس على نغمة إيجابية في حسم المناصب السيادية، وتشكيل جهاز تنفيذي جديد، لكنها اصطدمت من جديد بحقيقة الواقع. إلا أن ذلك لا يعني أن المبعوثة الأممية فشلت تماماً، وقد تتوفق فيه في المرة المقبلة. لكن أسفها الأكبر حصل بعد سقوط مقترح استبعاد المسؤولين السابقين من الترشح للحكومة الجديدة، بما يوجه رسالة قوية حول هذه الـ"ليبيا الجديدة".
وتوضح وليامز بهذا الخصوص، أن "المشاركين رفضوا ذلك بسبب عدم تحقيق 75 من جملة الأصوات، ولكن تمّ ذلك بنسبة 60 في المائة، وهي أغلبية حقيقية توجه رسالة حقيقية لكل أولئك الذين سبق لهم أن تقلدوا مناصب". وذكّرت المبعوثة الأممية بما قالته سابقاً، حول تسليط عقوبات على المعرقلين للمسار، وشدّدت على أنه لن تكون العرقلة مسموحة، محذرة من وصفتهم بـ"ديناصورات" سياسية، ومؤكدة أنه "وجب عليهم التفاعل مع الحوار وإلا كان مآلهم الإنقراض". ويبدو أن وليامز ستؤجل استبعاد الوجوه القديمة لـ12 شهراً إلى غاية الانتخابات، إذ ينص باب شروط الترشح لمهام السلطة التنفيذية على أن "كل مرشح ملزم قانونياً وأدبياً بالتعهدات التالية: يتعهد شاغلو المناصب القيادية في السلطة التنفيذية الموحدة للمرحلة التمهيدية بعدم الترشح للانتخابات العامة التي تنهي هذه المرحلة، وأن يقدم تعهداً باحترام خريطة الطريق للمرحلة التمهيدية للحل الشامل وللمسار الانتخابي والإطار الزمني المحدد لها.
وتذهب دعوة الشخصية الليبية المعروفة، علي الصلابي، في هذا الاتجاه، حين دعا في تصريح صحافي "كلّ الشخصيات التي تعتلي المناصب الكبرى في ليبيا، من أمثال عقيلة صالح وفائز السراج وخليفة حفتر وخالد المشري، إلى أخذ خطوة للوراء، وترك المساحة لليبيين للتوافق على أسماء بعيدة عن الصراع، ويمكن أن تحقق المصالحة الوطنية". وأشار الصلابي إلى أن "تصويت أعضاء الحوار بنسبة تجاوزت الـ60 في المائة ضد ترشح المسؤولين السابقين التنفيذيين والتشريعيين، يعكس رغبة الليبيين في تجديد الدماء والخروج بأسماء جديدة".
ويؤكد الباحث التونسي في الشأن الليبي، مهدي ثابت، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الحوار السياسي الليبي في تونس حقّق بعض الأهداف، لكن ليس كلّها، وذلك بالنظر لما كان يرجى، وبالآمال والتوقعات المطروحة، مبيناً أن العقبات الموجودة على الأرض لم يتم التقدم فيها. وحول هذه العقبات، تحدث ثابت خصوصاً عن المعايير الخاصة باختيار رئيس المجلس الرئاسي، أي من هي الشخصية الليبية التي يمكن أن تحكم بأقصى قدر من الإجماع، ويكون حولها توافق، وتكون قادرة على قيادة المرحلة المقبلة، خصوصاً أن من بين مهام من يتقلد هذا المنصب رئاسة القوات المسلحة، بمعنى أنه يسيطر على الكتائب العسكرية في إطار حكومة موحدة. ورأى أن العثور على شخصية توافقية تنال رضا الشرق والغرب أمر صعب جداً.
واستطرد الباحث التونسي بقوله إن إيجاد هذه الشخصية، يعني التصدي لأي مشروع من شأنه تخريب الاتفاق الليبي، والأهم حصول اتفاق على الأرض، لأن ليبيا اليوم منقسمة إلى قسمين، وهذا الانقسام عسكري أساساً. وبالتالي، برأيه، فإنه يمكن القول إن بعثة الأمم المتحدة فشلت في الوصول إلى حل، والسبب أن الاعتقاد الذي كان سائداً قبل الحوار هو أن الليبيين ملّوا الاقتتال وسيقبلون بأي حل، في حين أن منظمي الحوار لا يعرفون أن حجم الخلافات وتراكمها على مرّ السنوات سيعقد الحل، الذي ليس من السهل بتّه في مؤتمر. واعتبر أن مقاربة الأمم المتحدة في التعاطي مع الملف الليبي، كانت منذ البداية خاطئة.
وأوضح المتحدث أن البعثة الأممية لم تستوعب حجم المشاكل في ليبيا، أو ربما أرادت تمرير أجندات معينة اتفق حولها دولياً بين القوى الكبرى، أي الدول التي لديها مصالح في ليبيا، ولكنها فشلت. وأكد ثابت أن الجولة المقبلة بعد أسبوع عبر الفيديو، ثم الالتقاء بين المتحاورين بعد شهر، ربما قد يؤديان إلى بعض التفاهمات، لافتاً إلى أن طرح شخصية جدلية مثل عقيلة صالح لكي يحظى بالتوافق كان خاطئاً. واعتبر الباحث أن التقدم في الملف الليبي قد يحصل، لو أدركت بعثة الأمم المتحدة عمق الملف وتناولته من المنطلقات الأساسية الموجودة في الساحة، مؤكداً أن اللجوء لخيار رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة غير معروفين يظل من الآليات الممكنة مثلما حصل مع السراج، ولكن الظروف الحالية تغيرت وهي ليست نفسها في العام 2015.
العثور على شخصية لقيادة المجلس الرئاسي الليبي تنال رضا الشرق والغرب أمر صعب
وأشار ثابت إلى أن المطلوب ليس فقط شخصية لم تشارك في المشهد السابق، بل يجب أن يكون لديها قبول حقيقي في المنطقة الشرقية، وقادرة على التصدي لأي مشروع خارجي. وأوضح أن العثور على شخصية قادرة على التصدي للنفوذ المصري والإماراتي في الشرق الليبي، وفي نفس الوقت تكون قادرة على إخراج خليفة حفتر في إطار مصالحة شاملة، وعلى تكوين حكومة مركزية على أساس توحيد المؤسسة العسكرية، تبقى معادلة صعبة. وبرأي ثابت، فإن الأمر قد يكون أيسر عند اختيار اسم رئيس الحكومة، لأن هذه الحكومة هي حكومة خدمات، ولكن رغم ضيق اختصاصات المجلس الرئاسي، إلا أنه يضم القيادة العليا للقوات المسلحة والسياسة الخارجية، ولذلك فإن الاختيار أصعب.
وحول المسار العسكري في إطار لجنة 5+5 (التي تضم ممثلين عن حكومة الوفاق ومليشيات حفتر)، رأى الباحث التونسي أنه المسار الأهم، معتبراً أنه "على الرغم من التقدم الطفيف، إلا أنه لا يزال يراوح مكانه، ولم يتم الاتفاق سوى على مغادرة القوات الأجنبية لليبيا، وهو كلام على الورق لأن الواقع أصعب".
وبشأن الانتخابات، لفت ثابت إلى أن ليبيا منقسمة، ولا يمكن لأي طرف من الجهة الغربية إنجاز حملة في الجهة الشرقية، متسائلاً بالتالي عن كيفية إمكانية تحويل ليبيا إلى دائرة انتخابية واحدة وتوفير مناخ من الأمن والاستقرار لإنجاز الانتخابات والسيطرة على السلاح، وهذه كلّها أسئلة تبقى من دون إجابة. ورأى الباحث التونسي أنه على الرغم من الحديث عن نضج دولي ورغبة في الوصول إلى حلّ لإنهاء الأزمة، إلا أن اللاعب الأكبر وهي الولايات المتحدة، غارقة في مشاكلها الداخلية وفي تسليم السلطة بين دونالد ترامب وجو بايدن، لافتاً إلى أن الإدارة الجديدة لن تستقر قبل شهرين، وبالتالي لا يمكن انتظار مقاربة حاسمة من واشنطن حالياً، أو أي مقاربة تطرحها على حلفائها، لأنها منشغلة بوضعها الداخلي.