جاء الرد السريع لقوات الأمن التونسية على هجوم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على مدينة بنقردان وإفشال مخططه، ليؤكد وجود معلومات مسبقة لدى السلطات التونسية عن أسلوب تحرك العدو وتكتيكاته، وطريقة تحركه على الميدان وتقنيات القتال لديه، ما يعني وفق معطيات كثيرة وتأكيدات خبراء أمنيين، أن النجاح الأمني التونسي في إسقاط مخطط "داعش" كان أساسه استخباراتياً، مدعوماً بجاهزية عالية، وهو ما يُفسّر نجاح القوات الأمنية في قلب المعركة بسرعة، وتمكنها من إجهاض الجزء الكبير من المخطط في ظرف ساعات، وسيطرتها على الوضع في المدينة بسرعة.
ولم تتأخر رسائل الإشادة من جهات متعددة بالنجاح العسكري التونسي في مواجهة "داعش"، فقد نوّه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني كريسبن بلانت إثر اجتماعه الخميس الماضي برئيس الحكومة التونسية الحبيب الصيد، بنجاح القوات العسكرية والأمنية في مواجهة الجماعات الإرهابية. كما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي، "ترحيب بلاده بالردّ السريع والشجاع لقوات الأمن التونسية'' على الهجمات المتزامنة، مندداً بـ''التهديدات الخارجية والداخلية التي يشكّلها التطرف على استقرار وازدهار تونس".
يقول المحلل العسكري علي الزرمديني، إن القوات التونسية استطاعت أن تتحوّل بسرعة كبيرة من وضعية الدفاع إلى وضعية الهجوم، وأن تسحب زمام المبادرة من عدوها، ثم تتحوّل في ما بعد إلى ملاحقة العناصر الإرهابية، بعد أن أفقدت "داعش" الكثير من قدراته، وأجهزت على عدد كبير من مقاتليه وضبطت أسلحتهم. ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن عامل المباغتة الذي كان يعوّل عليه الإرهابيون سقط أمام استبسال القوات التونسية في الدفاع عن المقرات المستهدفة، وألحق بالهجوم خسائر جسيمة، ليغيّر ميزان القوى بسرعة لصالح القوات التونسية. ويقول الزرمديني إن "معركة بنقردان ستُدرّس في المعاهد العسكرية، بسبب التكتيكات المستعملة، والنجاحات القياسية التي تحققت، وطريقة إعداد الإرهابيين لما يسمى بالغزوة"، لافتاً إلى أن العناصر التونسية التي كانت متمركزة في مراكز المراقبة المتقدّمة، استطاعت أن تصمد أمام عناصر التنظيم التي كانت تحمل أسلحة قوية وخفيفة الحمل، وتضرب ثم تتخفى، وتتميز بحركة سريعة تدربت عليها لسنوات، وهو ما مكّن من قلب وضعية الدفاع إلى هجوم.
ويشير الزرمديني إلى أن القوات التونسية كانت مستعدة لتحرك من هذا النوع، ويستدل على ذلك بزيارات وزير الدفاع فرحات الحرشاني المتكررة إلى المنطقة، وكذلك آمر الحرس الوطني، وتحرك المتقاعدين الأمنيين من أهل المنطقة، لافتاً إلى أنه "بناء على الخطة المرسومة من عناصر داعش، والأسلحة المستعملة، وطريقة التحرك، فإن عدد الفاعلين على الميدان لا يقل عن سبعين ارهابياً، أما عدد قوات الإسناد والإعداد وتخزين الأسلحة، فهو أيضاً كبير وستحدده التحقيقات التي تتقدم بسرعة".
ويرى أن "الصدأ الذي أصاب الأسلحة المستخدمة، يدل على أن العملية جرى الإعداد لها منذ ما لا يقل عن سنتين، وجرى التخطيط لها على مراحل، في الخارج والداخل"، مشيراً إلى أن "اكتشاف أن أغلب العناصر من التونسيين، يدل على أنه أمر مقصود لأسباب عديدة، أولها معرفتهم بالمنطقة وتفاصيلها، وقدرتهم على التسلل على مراحل، ثم الهروب والتخفي، بالإضافة إلى وهم الحاضنة الشعبية الذي أسقطته مدينة بنقردان".
ويؤكد الزرمديني أن القوات المتخصصة التونسية نجحت في معركة لم تكن معتادة عليها، وهي حرب الشوارع، ما يؤكد جاهزية على المستوى اللوجستي والمعلوماتي، والذهني خصوصاً، متوقعاً حصول أعمال انتقامية من قِبل "داعش" بعد الهزيمة التي تعرض لها في تونس.
اقرأ أيضاً: بنقردان تروي حكايات "الإثنين الأسود": حرب حقيقية ضد الإرهاب
من جهته، يرى المتحدث السابق باسم وزارة الداخلية، وليد الوقيني، أن "عدد مخازن الأسلحة التي تم اكتشافها، وعدد العناصر المشاركة بالهجوم الذي بلغ حوالي 100 إرهابي، يدل على أن الهدف كان بالفعل إقامة إمارة في بنقردان". ويؤكد الوقيني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن نجاح القوات التونسية بالتصدي للهجوم، يعود إلى الاستعداد المسبق لذلك، وأن فرقاً مختصة كانت موجودة في المكان قبل أن تعززها فرق أخرى، مشيراً إلى أن فرقة مقاومة الإرهاب التونسية مصنفة كثالث فرقة في الترتيب العالمي. ويلفت إلى أنه "كانت هناك معلومات دقيقة عن العملية، بعد الفيديو المنشور لأحد عناصر التنظيم الذي يتحدث فيه عن مهاجمة المدينة، وبعد عملية صبراتة، وما ذكرته السلطات الأميركية حول العملية". وكان المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" جيف ديفيس، قال إن الغارة الأميركية التي استهدفت معسكراً تدريبياً لتنظيم "داعش" في صبراتة غربي ليبيا، حالت دون وقوع هجوم في تونس. وأضاف ديفيس: "نحن متأكدون أن الغارة منعت وقوع مأساة أكبر بهجوم خارجي ما، وأن طبيعة التدريب الذي كانوا يقومون به في المعسكر قرب الحدود التونسية تشير إلى أن مخططاً كبيراً كان يجري الإعداد له".
وهو ما يعني أن "المأساة الكبيرة" التي كان يتحدث عنها البنتاغون في تونس، هي استهدافها بطريقة كبيرة مثلما حدث في بنقردان، وعلى الرغم من أن الاستهداف الأميركي للمعسكر كان عبر القصف الجوي، إلا أن القوات الأميركية تحدثت عن نوايا الإرهابيين ومخططاتهم، ما يعني امتلاكها لمعلومات دقيقة على الأرض. ومن المرجّح أن تكون القوات الأميركية قد أبلغت نظيرتها التونسية بالتفاصيل، ما جعل الأجهزة التونسية ترفع من جاهزيتها وتستعد لحدث مماثل.
وفي ما يتعلق برد فعل "داعش" بعد هذه الهزيمة، يستبعد الوقيني أن تُستهدف تونس مرة أخرى بمخطط مماثل، "لأنه يستدعي إعداداً لفترة زمنية طويلة، وإنشاء مخازن للأسلحة كما تم في بنقردان والجنوب التونسي، ولا يمكن للتنظيم إيجاد مكان آخر غيره يكون بعيداً عن أعين الأجهزة التونسية"، معتبراً أن رهان التنظيم الأساسي كان على بنقردان لقدرته على الحصول على إمدادات بالمؤونة والسلاح، وكان يتوقع أن يجد حاضنة شعبية جاهزة، ولكنه اكتشف العكس تماماً.
غير أن العملية على نجاحها، كانت باهظة الثمن، وأدت إلى سقوط العديد من الضحايا، واستنزاف عناصر الأمن والجيش، الذين ظل أكثرهم يعمل لأيام من دون نوم، بالإضافة إلى حالة الاستنفار التي شهدتها المناطق القريبة وأغلب مدن البلاد، لقطع الإمدادات من جهة، وخوفاً من عمليات انتقامية من جهة أخرى.
ويبقى السؤال حول قدرة الدولة التونسية على الاستمرار في الصمود بالجاهزية نفسها، بينما الجميع يتفرج عليها، باستثناء قلة من الدول التي ترى في ما يحدث في تونس تهديداً حقيقياً لها، ولكامل المنطقة. وتأتي إشارة وزير الخارجية المالطي جورج فيلا، في وقتها، اذ نبّه من نفاد الوقت اللازم لوقف تمدد تنظيم "داعش" في ليبيا، مشدداً على أن حكومة الوفاق الوطني المدعومة من المجتمع الدولي هي أفضل وسيلة لهزيمة التهديد الحقيقي للإرهاب في أجزاء معينة من ليبيا. وأكد الوزير المالطي خلال استقباله نظيره الإيطالي باولو جينتيلوني، الذي يقوم بزيارة رسمية إلى مالطا، ضرورة القيام بعمل ما لمنع "داعش" من الانتشار في تونس ونيجيريا، "قبل فوات الأوان".
اقرأ أيضاً: تونس: "داعش" يتبنى هجوم بنقردان ويتوعد