نتنياهو يعلن إرسال فرق إغاثة لسورية.. اختراق معلن على ركام الكارثة؟

06 فبراير 2023
زعم نتنياهو أنه تلقى طلباً من "فاعل سياسي" لإرسال فرق إغاثة (Getty)
+ الخط -

لا مكان للسياسة والبروباغندا في الكوارث الكبرى، حينما تكون النجاة بالنفس، أو إنقاذ حياة الإنسان القادم، "الخبر" الأهم، والشغل الشاغل للناجين؛ وحينما يشعر الناس على امتداد الحدود الجغرافية والهويّاتية، التي تزداد تشنّجًا وحدّة في منطقتنا على وجه الخصوص، بشيء من القرب الإنساني والمصير المشترك. لكن لكلّ تلك الأسباب بالذات، قد يمثّل حدث مثل الزلزال المأساوي، الذي أتى على حياة أكثر من 15 إنسان، فرصة مؤاتية بالنسبة لإسرائيل.

هذه المداخلة عطفًا على ما أعلنه رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، اليوم الإثنين، حول إرسال بعثة إغاثة إلى سورية، متحدّثًا عن "طلب" تلقته حكومته في هذا الإطار، من دون أن يحدد مصدره. غير أن تقارير إسرائيلية عدّة أشارت إلى أن رئيس النظام السوري ذاته، بشار الأسد، هو من أرسل الطلب إلى تل أبيب عبر وساطة من روسيا؛ وذلك ما نفاه "مصدر مسؤول" لصحيفة "الوطن" السورية المقرّبة من مصالح النظام، قائلًا إنهم "لا يطلبون المساعدة من كيان محتل".

لكن نتنياهو عاد في اجتماع لاحق مع أعضاء حزبه، "الليكود"، ليعيّن أن "فاعلًا سياسيًّا" هو من طلب المساعدة من حكومته، من دون أن يحدده ولا النطاق الذي ستتحرك فيه فرق الإغاثة الإسرائيلية. لكن عبر الجغرافيا السورية المقسّمة، والمخترقة أساساً من قبل عدّة قوى أجنبية فاعلة، لا سيما قوات الحليف الأول لإسرائيل، الولايات المتحدة، المتركّزة خصوصًا في مناطق ما يسمّى بـ"الحكم الذاتي" الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي؛ لا بدّ وأن يثير مثل هذا الإعلان الشكوك من "عمل إسرائيلي معلن ورسمي على الأراضي السورية للمرة الأولى"، والحديث هنا لمعلّق صحيفة "يسرائيل هيوم" (المقرّبة من نتنياهو) أرييل كهانا.

اختراق تحت غطاء إنساني

بعيدًا عن نقاش التطبيع، سواء بين النظام أو أي من الأطراف الأخرى العاملة على الأرض- سيما بالنظر إلى حركة تطبيع نشطة تشهدها المنطقة مع انفتاح تركيا، وهي الوسيطة في محادثات سلام سابقة بين نظام الأسد وإسرائيل، على غرمائها السابقين، وعلى رأسهم إسرائيل- قد يُترجم هذا الإعلان عمليًّا على أنه اختراق إسرائيلي للأراضي السورية تحت غطاء إنساني، سواء بإرادة النظام أو دونها. ما يدفع تلك الشكوك هو أن الإعلان جاء رسميًّا، ومن رأس السلطة في دولة الاحتلال نفسها؛ وهو بذلك يقتضي أحد الأمرين: إمّا التنفيذ، أي الاختراق الفعلي على الأرض، أو البروباغندا، أي ادعاء إرسال المساعدات لسورية لأغراض دعائية غاياتها ستكون، على الأغلب، "تطبيع" وجود إسرائيل كقطعة لا تنفك عن قضايا ومشاغل جوارها؛ و"تبييض" صورتها كفاعل إغاثي في المنطقة؛ ثمّ اختلاق جسور مستقبلية نحو شعوب الجوار. 

في الحالة الأولى بالذات، لن تكون الفرق المرسلة إغاثية بالكامل حقًّا؛ فالمؤسسة العسكرية متجذّرة في كل مفاصل الحياة الإسرائيلية إلى حد أنها تظلّ الفاعل الأول في مثل تلك الحوادث، حتى في غير ساحتها الجغرافية. الأمر بلغ حدّ تجنيد إسرائيل وكلائها في "الموساد" عبر العالم خلال جائحة كورونا من أجل أجهزة التنفس والكمامات لاحتياجاتها الداخلية. لكن الشاهد الأوثق صلة في هذه الحالة، هو أن جيش الاحتلال كان، رسميًّا، الجهة المسؤولة عن العمل الإغاثي في أعقاب زلزال نيبال في إبريل/نيسان العام 2015.

في الحالة الثانية، أي بروباغندا الإغاثة ومدّ الجسور، لا بدّ أن تذكّرنا هذه الحالة بالدبلوماسية "الإنسانوية" المكثّفة التي سبقت إعلان التطبيع بين دولة الاحتلال والإمارات، حينما رأى الطرفان في جائحة كورونا مدخلًا مؤاتيًا من أجل التمهيد للإعلان الكبير عمّا ظلّ تحت الطاولة لسنوات. وقتذاك، حطّت طائرتان إماراتيّتان في مطار بن غوريون مدشّنتين الرحلة الجوية الأولى من نوعها بين أبوظبي وتل أبيب، والغاية المعلنة كانت "نقل مساعدات للفلسطينيين لمكافحة وباء كورونا"؛ وهو ما نفت السلطة الفلسطينية، في حينها، علمها به. سبقت ذلك أحاديث صحافية متواترة عن توجّه الإمارات للتعاون مع إسرائيل لغرض مكافحة كورونا؛ وتهنئةٌ رسمية، ومتهافته، من الجانب الإماراتي، على لسان السفيرة الأممية لانا نسيبة، لعلماء إسرائيليين بتطوير "لقاح محتمل" لكورونا، تبيّن لاحقًا أنه لم يثبت أهليّته.

بروباغندا الإغاثة

خلال عملية الإنقاذ واسعة النطاق التي نفّذتها دولة الاحتلال في نيبال، كان ثمّة حملة بروباغندا أوسع نطاقًا أطلقتها أذرعها الإعلامية والرسمية باسم "جيش الدفاع الإسرائيلي للإنقاذ" (IDF Aid)، لكن لغير الجمهور الإسرائيلي، وبلغات تتجاوز الإنجليزية إلى الفرنسية وحتى الإسبانية. كان ذلك بعد أشهر من حرب إسرائيلية ثالثة على غزة امتدت لـ51 يومًا، رأى الفلسطينيون، في كل واحد منها، ما يراه آخرون مرة كل قرن في مشاهد ما بعد الزلال الكبرى. ظلّت الأنقاض على حالها، وأصحاب الأنقاض بلا مأوى، بينما كانت وحدات جيش الاحتلال توفّر المآوى والملاجئ في نيبال، وقبلها الفيليبين، حدّ تبنّي الأطفال المنكوبين الذين تركوا بلا أبوين في إسرائيل؛ وتروّج ذلك كله عبر وسائطها على امتداد "السوشيال ميديا". ذلك ما حدا حينها بمدير "هيومان رايتس ووتش"، كينيث روث، إلى توبيخ إسرائيل قائلًا: "يبدو أنه أسهل لإسرائيل معالجة كارثة إنسانية بعيدة من معالجة تلك التي تخلقها في غزة؛ أنهوا الحصار".

لكن على حدود نيبال القريبة، كانت ثمة فاجعة إنسانية أخرى تحدث بشكل يومي في ميانمار، ضحيّتها أقلية الروهينغا، وكان لإسرائيل دور صامت فيها. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2020، اتمهت جماعة "العدالة من أجل ميانمار" شركة الاتصالات الإسرائيلية "Gilat Satellite Networks" بالضلوع في الجرائم ضد الإنسانية بحق الروهينغا من خلال تقنية باعتها للجيش الميانماري، واستخدمها الأخير في نشر دعايته العنصرية ضد الأقلية المسلمة. أبعد من ذلك، في العام التالي كشفت الجماعة الحقوقية ذاتها عن أن شركة "Cognyte Software" الإسرائيلية باعت تقنيات تجسس للجيش الميانماري مكّنته من اعتراض مكالمات ورسائل نصيّة، من دون الحاجة إلى استخدام شبكة الإنترنت، وكان ذلك قبل وقت قصير من انقلابه على الحكومة المنتخبة في فبراير/شباط.

"الغسل الأزرق"

حالة نيبال، كما وصفها كاتب في موقع "THE ELECTRONIC INTIFADA"، هي نموذج لما يمكن أن يطلق عليها بـ"سياسات الغسل الأزرق" الإسرائيلية- أي توظيف دعاية الإغاثة في "غسل" ما تحمل إسرائيل من تاريخ دموي، في تحوير للنقد الذي يطاول المؤسسات الدولية التي تستخدم الدعاية البيئية لتمويه نشاطاتها المضرّة بالبيئة. في أثناء صور الإغاثة المؤثرة التي بثّتها آلة الدعاية الإسرائيلية أثناء عمليّات الإنقاذ في المدن النيبالية، كانت دولة الاحتلال، على ضفة قريبة، ضالعة من وراء الكواليس في دماء منكوبين آخرين بميانمار، وفي تجذّر العسكر في أزمتهم المزمنة منذ عقود؛ مقابل تحصيل دعم ميانمار في المحافل الدولية- وهذا ما تؤكده وثائق رفعت الخارجية الإسرائيلية عنها السرية في 2022. على هذا النحو من الدعاية والعمل في الخفاء، كانت أيضًا أدوار إسرائيل في منطقتنا؛ وكثير منها لمّا ترفع عنه السرية بعد.

لا تقتصر عملية "الغسل" تلك، في مثل هذه الحالات الإنسانية، على الجانب الدعائي فقط، بل تتعدى ذلك إلى ما قد تضمره دولة الاحتلال من مقاصد أمنية؛ ولنا في هذا الادعاء ما نستند إليه كذلك في سجل السوابق الإسرائيلي. لقد استخدمت دولة الاحتلال سابقًا منظمة "Humedica International Aid"، وهي مؤسسة غير حكومية مقرّها في ألمانيا وتقدم المساعدات الإنسانية لأبناء غزة، كغطاء ضمن عمليّتها الأمنية الفاشلة في غزة عام 2019، حينما دسّت وحدة مستعربين من فرقة "سييرت متكال" سرًّا إلى هناك عبر حافلة لزرع وسائل تنصت في شبكة اتصالات المقاومة، قبل أن يُكتشف أمرها ويُقتل قائدها وتقع كافة عدّتها الاستخبارية في يد "كتائب القسام". تلك المجموعة، كما كشف برنامج "ما خفي أعظم"، كانت تستخدم المؤسسة الإغاثية المذكورة على امتداد الأشهر السابقة كمقر لإخفاء أدواتها التجسسية.

إذاُ، ظلّ النشاط الإغاثي الإسرائيلي، في كل ما ذكر، موسوما بالدعاية الزائفة، والتجسس، والهوس الأمني، وبالانتهازية السلطوية الدائمة لـ"حالات الطوارئ"، ثم ما يستبطن ذلك كله من دسائس وأحاييل على حلبة الصراع. ولنا أن نتأمل هنا التغاير في الخطاب الإسرائيلي على مدار اليوم، بين رواية المصادر المجهولة أن إرسال فرق الإنقاذ جاء بطلب من الأسد، والرواية الموازية التي ساقها نتنياهو عن أن الطلب جاء من "فاعل سياسي"؛ فإن سرت الرواية الأولى فالنظام مطبع ومكشوف أمام معسكره، وإن سرت الثانية فمفكك ومخترق، إذ كيف لحزب أن يستدعي أذرع حكومات أخرى إلى بلد ذي سيادة؟ وفي كلتا الحالتين، إيغال إسرائيلي في الصدوع السورية، هذه الراهنة منها، وتلك التي يصعب ترميمها.

المساهمون