لوّح رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي بالاعتكاف في ظلّ عجز النخبة السياسية عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، رافضاً تحميله مسؤولية الفراغ الرئاسي وتداعياته الذي، وفق تعبيره، "تتحمّله القيادات السياسية والروحية وبالدرجة الأولى الكتل النيابية كافة التي فضّت النصاب خلال 11 جلسة انتخاب سابقاً، وتلك التي تعهّدت بعدم تأمينه في جلسات لاحقة من دون أن تتفق على مرشح يواجه مرشح الفريق الآخر".
وأشار ميقاتي إلى أن "لكل إنسان قدرته على التحمّل، أما قدرتي فهي قيد النفاد"، وذلك في تصريح جاء بعد جلسة مجلس الوزراء، التي عقدت اليوم الاثنين وتقرّرت فيها إعادة العمل بالتوقيت الصيفي اعتباراً من منتصف ليل الأربعاء - الخميس، عقب السجال السياسي والطائفي الحاد الذي خلّفه قرار رئيس حكومة تصريف الأعمال تمديد العمل بالتوقيت الشتوي حتى نهاية شهر رمضان، والذي أتى نتيجة طلب رئيس البرلمان نبيه بري، خلال "دردشة" بين الطرفين، خارج إطار جلسة وزارية.
ويأتي تصعيد ميقاتي في معرض ردّه على الحملة الواسعة التي شنتها عليه مراجع دينية تتقدمها البطريركية المارونية وأحزاب سياسية، ولا سيما المسيحية منها، ربطاً بقراره تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي، وعلى التصويب الذي تتعرض له حكومته بعقدها جلسات في ظلّ الشغور الرئاسي، ولا سيما من قبل المقاطعين لها، وأبرزهم "التيار الوطني الحر" برئاسة النائب جبران باسيل.
وأكد ميقاتي، في كلمته، أن قراره لم يتخذ من باب التحدي وليس له أي بعد طائفي أو مذهبي، معتبراً أنه "ما كان يستوجب كل هذه الردود الطائفية البغيضة، والتي دفعتني لأتساءل عن جدوى الاستمرار في تحمّل المسؤولية عمن عجز عن تحمّلها بنفسه، وأقصد هنا النخبة السياسية التي اتفقت على كل رفض وسلبية لهذا المرشح أو ذاك لرئاسة الجمهورية، وعجزت حتى عن وضع قائمة أسماء مرشحين للرئاسة للبدء بالعملية الانتخابية".
وأضاف: "ليست المشكلة ساعة شتوية أو صيفية تم تمديد العمل بها لأقل من شهر، إنما المشكلة الفراغ في الموقع الأول في الجمهورية"، مضيفاً "اليوم حللنا مشكلة واحدة لمواجهة الضخ الطائفي وإسكاته، لكنني أضع الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية في حماية السلم الأهلي والاقتصاد الوطني وعمل المرافق العامة".
وبدأ ميقاتي خطوته الأولى التمهيدية في طريق الاعتكاف بإعلانه، أمس الأحد، إلغاء جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقرّرة اليوم، والتي استبدلت بجلسة على جدولها بند واحد، هو توقيت الساعة الواجب اعتماده، موجّهاً سهامه نحو القيادات السياسية والوطنية من دون أن يستثني الروحية، "المتلكئة جمعيها في أداء واجبها"، على حدّ تعبيره، داعياً إياها إلى انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة جديدة، ولتحمّل كل طرف مسؤوليته.
ويقول مصدرٌ مقربٌ من ميقاتي، لـ"العربي الجديد"، إن "رئيس الحكومة يتريث في قرار الاعتكاف، نظراً لتداعياته الكبيرة على البلد، وهناك نصائح يتلقاها بعدم الإقدام على هذه الخطوة، لكنه قد يتخذها في أي لحظة في حال استمر الهجوم عليه".
دستورياً، يقول الأستاذ الجامعي المتخصص في القانون الدستوري وسام اللحام، لـ"العربي الجديد"، إن أي وزير في الحكومة، ولو كانت بهيئة تصريف الأعمال، يمكنه أن يستقيل ويأتي مكانه وزير بالوكالة، ولكن رئيس حكومة تصريف الأعمال لا يمكنه أن يستقيل باعتبار أن لا وجود لفرضية رئيس حكومة بالوكالة، الأمر الذي يحصر خطوته فقط في إطار "الاعتكاف"، ومن أبرز تداعياتها عدم صدور المراسيم، في ظل عدم دعوة رئيس الحكومة مجلس الوزراء إلى الانعقاد.
وفي السياق، ينبه وزير الشؤون الاجتماعية السابق المحامي رشيد درباس، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى عدم إمكانية التوقف عند المعايير الدستورية والقانونية لأنها بكل بساطة لا تطبق، ولا يعمل على أساسها السياسيون، بل على أساس ميزان القوى، والربح، والتحدي؛ لكنه يشير في المقابل، إلى أن للاعتكاف مخاطر كبرى على البلد، الذي يصبح عندها بحال شلل تام، علماً أنه اليوم بوضع شلل نصفي.
ويرى درباس أنه من غير الجائز رمي مسؤولية الأزمة على ميقاتي وحده الذي يستجدي في كل مرة لعقد جلسة وزارية لتصريف بندين أو ثلاثة، في حين يشير إلى أنه غير معجب بأداء ميقاتي فـ"توقيته خاطئ دائماً، كما حصل مع التوقيت الشتوي الذي كان ممكن تفاديه، واتخذه متسرعاً بتمديده، لأنه بكل بساطة هناك دولة يجب أن تدار وهي متمثلة اليوم به، وهو يديرها بحفنة مساعدين بينما تحتاج إلى ورشة كبيرة، فإدارة الدولة ليست لعبة".
من جانبه، يرى المستشار في التنمية ومكافحة الفقر أديب نعمة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "السبب الأساسي وراء تلويح ميقاتي بالاعتكاف، يعود إلى الهجمة التي تعرّض لها بسبب قراره المتعلق بتأجيل التوقيت الصيفي"، معتبراً أن "ما "فعله ميقاتي وبري لا يمكن لأحد أن يقوم به، وبهذا الشكل، في جلسة وكأنها بين صديقين، لا بين رئيسي حكومة وبرلمان، بما يدل على استخفاف فظيع بالناس ويؤكد أنهما وكل الطبقة السياسية غير جديرين بتحمل المسؤولية".
ويلفت نعمة إلى أن "اعتكاف ميقاتي لن يغيّر أي شيء باعتبار أنه أصلاً لا يقوم بأي عمل، سوى أنه يعلن من خلاله أن الأزمة وصلت إلى مرحلة تقترب من الانهيار الشامل والكامل، وبصعوبة أداء المسؤولين السياسيين أدوارهم على صعيد الاتفاق في ما بينهم، ما قد يؤثر فقط على تقاسم وتوزيع الأدوار بين الذين يتمتعون بالألقاب".
وفي وقتٍ يرى فيه المتحدث أن التغييرات الإقليمية لن تترجم في لبنان على المدى القريب، وتحتاج أسابيع وربما أشهرا ومن المبكر بناء استنتاجات حول تأثيراتها في الملف الرئاسي اللبناني، يتوقع نعمة وقوع انفجار اجتماعي قريب جداً، إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه، وبيد الطبقة السياسية والمنظومة ذاتها المسؤولة عن انهيار البلد.
ويستمرّ الجمود في الملف الرئاسي في ظلّ عدم دعوة رئيس البرلمان المجلس النيابي لعقد جلسة انتخاب رئيس جديد للبلاد منذ 19 يناير/كانون الثاني الماضي، بانتظار التوافق أو التسوية السياسية، علماً أن الخرق الوحيد يبقى في الخلوة المسيحية التي دعا إليها البطريرك الماروني بشارة الراعي في 5 إبريل/نيسان المقبل، والمتوقع تلبيتها من الأحزاب المسيحية الأساسية، ومقاطعتها من قبل بعض النواب المستقلين والتغييريين، وذلك فيما تستبعد الأوساط السياسية في البلاد أن تساهم الخلوة في أي تطور إيجابي.
ويعيش لبنان فراغاً رئاسياً منذ 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، مع استمرار الصراع السياسي حول هوية الرئيس الجديد، رغم التحذيرات الدولية بمخاطر الشغور وعدم إتمام الاستحقاقات الدستورية وشلل المؤسسات، آخرها رفع بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت بيروت من 15 إلى 23 مارس/آذار الجاري من مستوى تحذيراتها إلى المسؤولين في البلاد، منبهة إلى أن لبنان يقف حالياً عند مفترق طريق خطير، ومن دون الإصلاحات السريعة سيغرق في أزمة لا نهاية لها.
ولا يزال المرشح المعلن الوحيد رسمياً للرئاسة في لبنان هو النائب ميشال معوض، الذي يمثل الأحزاب المعارضة، التي أبدت استعدادها للبحث في أسماء أخرى ضمن مواصفات السيادة والاستقلالية والإصلاح.
بدوره، يتريث رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، المدعوم من قبل "حزب الله" و"حركة أمل" (يتزعمها بري)، بالدرجة الأولى، في إعلان ترشحه رسمياً، بانتظار أن تصب التطورات الإقليمية ولا سيما السعودية والإيرانية، لمصلحته، وكذلك الأجواء الداخلية، وسط تلويح المعارضين بتعطيل نصاب الجلسات (86 من أصل 128 نائباً) التي ستؤدي إلى انتخاب مرشح "حزب الله" وحلفائه.
أما الاسم الثالث الذي يوضع في خانة المرشح الطبيعي، فهو قائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي تقلّصت حظوظه بعد إشارة بري إلى استحالة وصوله متحججاً بذرائع دستورية، لكنه يبقى من الأسماء التي تلقى تأييداً داخلياً لافتاً وكذلك خارجياً.