من ذاكرة مدن الشام: غزة عام 1960 بعدسة السوري خالد معاذ وشرح نجل [1]

17 اغسطس 2024
مدينة غزة عام 1960 بعدسة المؤرخ السوري الراحل خالد معاذ (العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **زيارة خالد معاذ لغزة وتوثيقها:** زار المؤرخ السوري خالد معاذ غزة عام 1960، موثقاً معالمها بالصور، والتي نشرها ابنه عبد الرزاق مؤخراً على "فيس بوك"، مما أثار اهتمام الدارسين.

- **مسيرة خالد معاذ في توثيق الآثار والفن:** ولد في دمشق عام 1904، وترك حوالي عشرة آلاف صورة للمباني الأثرية والأزياء الشعبية، وشارك في أول فيلم سوري، ووثق معالم القدس عام 1947.

- **مسيرة عبد الرزاق معاذ وتوثيق المدن:** حصل على دكتوراه في الفن الإسلامي، وعمل أستاذاً بجامعة هارفارد، ويعمل حالياً على نشر إرث والده الضخم من الصور والرسومات.

زار المؤرخ السوري الراحل عالم الآثار خالد معاذ (1904 - 1989) مدينة غزة أيام الوحدة السورية ــ المصرية التي لم تعمر كثيراً، فقد استطاع بصفته مواطناً في دولة الوحدة الانتقال عام 1960 من القاهرة الى غزة التي كانت تحت الحكم المصري. التقط المصور والفنان معاذ بعض الصور لتوثيق معالم المدينة، ورغم قلة الصور (حوالي 30)، فإنها أثارت اهتمام الدارسين بسبب قلة الصور عن غزة في تلك الفترة. نشر ابنه الدكتور عبد الرزاق معاذ، الذي سار على خطى والده بدارسة الآثار، بعض هذه الصور مؤخراً على صفحته الخاصة على "فيس بوك"، وقد قدمها لنا لننشرها في "العربي الجديد".

كان لخالد معاذ اهتمام خاص بتوثيق مدن فلسطين، فوثق معالم مدينة القدس عام 1947 ورسم زخارف المسجد الأقصى ومحرابه واحتفظ بها الى أن حصل حريق المسجد الأقصى عام 1969، فقدم هذه الرسومات إلى لجنة إعادة اعمار المسجد للاستعانة بها. وتعتبر هذه الرسوم للمنبر القديم (منبر صلاح الدين) الوحيدة الموجودة حاليا.

ولد خالد معاذ في مدينة دمشق عام 1904، وكان من أوائل المشتغلين بالبحث والتوثيق الأثري في سورية فضلاً عن اهتماماته الأخرى ومنها التصوير، ويعتبر من رواد الحركة التشكيلية السورية. ترك معاذ حوالي عشرة آلاف صورة للمباني الأثرية في المدن التي وثقها، بالاضافة لتوثيق الأزياء الشعبية والحياة الاجتماعية. ألّف العديد من الكتب والأبحاث منها: الكتابات العربية في دمشق، مشاهد دمشق الأثرية: صور من الوطن الخالد، بالاشتراك مع سليم عادل عبد الحق، تربة ابن المقدم، مدافن الملوك والسلاطين في دمشق، دمشق أيام ابن النفيس، دمشق أيام الغزالي، دمشق في أيام ابن عساكر وغيرها. ترك العديد من المصنفات الفنية في تاريخ الفن الأموي والعباسي والفنون الحرفية وفهارس بأسماء الملابس والخط والخطاطين.

كان خالد معاذ متعدد الاهتمامات، حتى إنه شارك في أول فيلم سينمائي سوري (تحت سماء دمشق) للمخرج إسماعيل أنزور عبر تصميم الديكور للفيلم. كان منزل معاذ في شارع 29 أيار، وقد طاوله الهدم، مجلساً ثقافياً، يحضره الأدباء والباحثون، فتجد القاص الساخر حسيب كيالي والشاعر محمد الحريري والشاعر المترجم عزمي موره لي والفنان التشكيلي فاتح المدرس والسينمائي رفيق الصبان وغيرهم.

نحاور عبد الرزاق معاذ الذي تسلم إدارة الآثار والمتاحف في سورية بين عامي 2000-2002 حول مسيرة والده الحافلة بتوثيق الآثار في مدن سورية وفلسطين ولبنان، فضلا عن مسيرته الفنية المهمة باعتباره أحد رواد الفن التشكيلي السوري. كما يتطرق الحوار إلى مسيرة الابن بعد الأب، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفن الإسلامي من "جامعة إكس - مرسيليا الأولى" عام 1991، ثم عمل سبع سنوات أستاذاً باحثاً في "جامعة هارفارد"، ثم تسلم إدارة الآثار والمتاحف في سورية مع وصول بشار الأسد إلى الرئاسة عام 2000.

التقط معاذ الابن صوراً للمدن السورية ودرس مدينة دمشق كما فعل والده، واشتبك مع مسؤولين ومشاريع أساءت لعمران دمشق كما فعل والده عندما اشتبك مع المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار (1905-1985) الذي وضع مخططاً لمدينة دمشق عام 1936 خلال فترة الانتداب الفرنسي على سورية، ولاحقاً وضع مخططات لمدن حلب وبيروت والدار البيضاء.

بين هاتين السيرتين لعلمين مهمين في الآثار كان هذا الحوار.

* نشرت عدة صور لمدينة غزة بعدسة والدك المؤرخ الفنان خالد معاذ، ماذا عن هذه الصور وظروف التقاطها؟

زار والدي مدينة غزة عام 1960 والتقط عدة صور لها كما كان يفعل في جولاته. وعندما شاهدت العدوان الصهيوني المجرم على غزة، نشرت هذه الصور لأعرف ماذا حل بهذه المعالم الأثرية لمدينة غزة. وبالفعل، استفدت كثيرا من الردود التي جاءت وقدمت توضيحات حول هذه المعالم وما حل بها. كنت أريد عندما نشرت هذه الصور على صفحتي الشخصية في "فيسبوك" سماع التعليقات من الناس ولا سيما التغييرات التي حدثت على هذه المعالم من عام 1960 وحتى يومنا هذا، والتي لا يعرفها معظم أبناء الجيل الحالي بسبب عوامل متعددة منها القصف الإسرائيلي المتكرر ومنها التغييرات العمرانية.

وثق والدي عبر مجموعة صور مسيرات التنديد بوعد بلفور التي خرجت في غزة عام 1960 بذكرى هذا الوعد المشؤوم، ونلاحظ في الصور حضور جميع شرائح المجتمع الغزي وتأكيدها رفض المشروع الصهيوني. كما وثق المعالم الأثرية في المدينة، فصوّر ساحة المسجد العمري الكبير الذي دُمّر في الحرب العالمية الأولى ورُمّم على سنوات متعددة، وقد دمر بالكامل في الحرب الحالية، ومدخل سوق القيسارية ونلاحظ في صورة السوق وجود صورتي الرئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي ملصقتين على البوابة، وسوق القيسارية في حي الدرج هو السوق الوحيد الباقي على هذا النمط المعماري وكان يستخدم للجلود، وحالياً يستخدم لبيع الذهب. كما وثق حديقة الشجاعية على شارع صلاح الدين المقابلة لمحطة قطار غزة التي دمرت بالكامل.

التقط والدي عدة صور بانورامية للمدينة، ومنها صورة نادرة تُظهر في أقصى يمين الصورة الزاوية الأحمدية، في منتصف الصورة، يظهر الخزان العلوي للمياه في شارع اليرموك، والشارع الظاهر يسار الصورة هو شارع الوحدة قبل توسيعه في فترة الحكم المصري. وصورة أخرى من حي الدرج في البلدة القديمة بغزة والُتقطت من أعلى مبنى قصر الباشا وتظهر فيها مئذنة الجامع العمري الكبير وجزء من جامع السعادة على يسار الصورة، المبنى إلى شمال العمري هو مبنى السرايا (الدبويا) وقد هُدم منتصف الستينيات وهو الآن كراج لسيارات مقابل قصر الباشا وبجوار مكتبة منصور. التقطت الصور من قصر الباشا ويظهر في إحداها زقاق جرت توسعته  ليصل إلى شارع الوحدة وتظهر مدرسة الزهراء الثانوية، ومن بعيد يظهر حاووز مياه المدينة. وقصر الباشا الأثري ومدرسة الزهراء دُمرا بالكامل خلال العدوان الصهيوني الحالي. كما التقط صورة يعتقد أحد الأخوة من غزة أنها مقبرة التفليسي ومقام أبو الكاس في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة. كما وثق والدي بعدسته صوراً للحياة الاجتماعية وبعض المهن اليدوية والتقط عدة صور لشخصيات من غزة بملابسها التقليدية.

غزة 1960 بعدسة خالد معاذ (العربي الجديد)

* اهتمام الوالد كان اساساً بتوثيق المدن السورية، صحيح؟
نعم، ولكنه اهتم بتوثيق عدد من مدن بلاد الشام، فوثق بالكثير من الصور مدينة صيدا وكذلك فعل مع مدينة طرابلس (لبنان) وأنا ابحث الآن عن طلاب دكتوراه يقومون بتحضير رسائل عن المدينتين لأزودهم بهذه الصور. لقد ترك والدي إرثاً كبيراً يحتاج إلى جهود مؤسسة متكاملة لنشرها، حيث بدأ منذ عشرينيات القرن الماضي بتوثيق مدن سورية كدمشق، وحلب، وحماة، وحمص. أعد الآن كتابا عن حمص، سينشر قريباً، أرصد فيه التغييرات التي حصلت على المدينة، لا سيما بعد الحرب الحالية، بالمقارنة مع الصور التي التقطها والدي للمدينة. لم يوثق خالد معاذ المباني الأثرية فقط مع أنها اهتمامه الأساسي، ولكنه وثق أيضا الحياة الاجتماعية والتراث الشعبي، لا سيما الأزياء والنسيج. جرت مؤخراً رقمنة الأرشيف الذي تركه الوالد بتمويل من مؤسسة ألمانية، آلاف من الصور والرسومات والتخطيطات توثق الآثار العمرانية والحياة الاجتماعية والأزياء الشعبية في مدن الشام، لا سيما فترة الخمسينيات من القرن الماضي.

قلعة طرابلس عام 1954 بعدسة خالد معاذ
​ قلعة طرابلس عام 1954 بعدسة خالد معاذ ​
المطبخ العجمي وجامع الخير في حلب 1951 بعدسة خالد معاذ
المطبخ العجمي وجامع الخير في حلب 1951 بعدسة خالد معاذ

 

*هل هناك أوراق أو مذكرات له لم تنشر؟
كان والدي يقول "إن مذكراتي موجودة في هذه الصور، إذا عدتم إليها، فبإمكانكم معرفة تاريخ حياتي".

*ما جوهر الخلاف بين خالد معاذ والمهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار حول تخطيطه لمدينة دمشق؟
هذا سؤال صعب. نحن عادة ما نضع اللوم على إيكوشار ومخططه ونلصق كل ما أصاب مدينة دمشق من تشويه له. يجب أن نلاحظ أن المخطط قد وضع في المرحلة الاستعمارية وكان التخطيط للمدن يحصل كما فعل إيكوشار، فمثلاً مدينة باريس عانت كما عانت مدينة دمشق من هدم وتغيير عمراني كما حصل في حي لو ماريه في باريس. أيضاً يجب أن نلاحظ أن أي مخطط يصلح فقط لمدة 15 عاماً ثم يُراجَع، ونحن في سورية لم نعد النظر أبداً في مخطط إيكوشار، بل يوجد عندنا قانون مجحف يقول إنه لا يجوز تنظيم ما جرى تنظيمه مسبقاً، حتى إن أحد مسؤولي محافظة دمشق كان يقول: "مخطط إيكوشار بالنسبة لنا قرآن"، وهذا ما يؤكده لنا استدعاء إيكوشار لتحديث مخططه واعتماده عام 1968. لا بد أن نذكر أن مخطط إيكوشار ورث مخططاً أقدم منه هو (مخطط دانجيه)، وهي أسرة كانت تعمل لتخطيط دمشق وشارك فيه إيكوشار، وكانت فيه خطة لتفريغ كل ما حول الجامع الأموي، وكان رد والدي والباحث الفرنسي مدير المعهد الفرنسي في دمشق جان سوفاجيه (1901-1950) أن ما تقومون به هو مضمار سباق خيل حول الجامع، فضلاً عن التضحية بالمناطق الخضراء.

جان سوفاجيه- خالد معاذ- ميشيل ايكوشار- كلود لوكور في قصر العظم
جان سوفاجيه وخالد معاذ وميشيل ايكوشار وكلود لوكور في قصر العظم (العربي الجديد)

لقد حكم المخططان بالإعدام على الأحياء القديمة خارج السور، كحي الميدان وحي ساروجة، وكانت حجة إيكوشار أن هذه الاحياء لا يمكن إنقاذها، ولكن الذي حصل أن هذه الأحياء بقيت، ولكن طاولها الكثير من التغيير والتشويه. يجب أيضا أن نلفت هنا إلى أن إيكوشار لم يكن بلدوزرا للهدم فقط، بل اشتغل بتوثيق المباني وترميمها، وقد اشترك مع والدي وجان سوفاجيه بتوثيق النسيج والأزياء التقليدية في ريف دمشق وتحديداً في يبرود. لقد كان هناك جهل وعجز وتخريب في ما يخص التعامل مع مخطط إيكوشار.