من جنيف إلى فيينا... الإدارة الأميركية تواجه المراوحة بمزيد من التفاوض

12 يناير 2022
عقدت واشنطن وموسكو مباحثات في جنيف (الأناضول)
+ الخط -

تحدثت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، الموقع الرابع في الوزارة، فيكتوريا نولاند، الثلاثاء، عن مفاوضات جنيف مع روسيا، قائلة إن "المفاوضات يلزمها وقت، ونحن على استعداد لذلك"، لمعالجة جوانب الأزمة الأوكرانية. رئيسة الوفد الأميركي المفاوض ويندي شيرمان دعت هي الأخرى الإثنين إلى المزيد من التفاوض.

بالانتقال إلى مفاوضات فيينا، اكتفى الناطق باسم الخارجية الأميركية نيد برايس بالإشارة إلى "بعض التقدم"، قائلاً إنه لا يملك "أي تفاصيل" عن هذا التقدم، محمّلاً الإدارة السابقة مسؤولية الانسحاب من صفقة "كانت فعالة".

في الحالتين هناك اعتراف بالمراوحة والتعثر. محادثات جنيف انتهت بعد حوالي 8 ساعات، كما بدأت تقريباً. أبعد ما توصلت إليه كان صدور إشارات مبطنة عن رغبة الطرفين في تبريد الوضع. لكن لا واشنطن تزحزحت عن رفضها للضمانات التي تطلبها موسكو بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ولا موسكو أعربت عن استعدادها في هذه الحالة، لسحب حشودها العسكرية عن الحدود مع أوكرانيا.

واليوم الأربعاء وغداً الخميس، تتواصل اللقاءات في بروكسل لمتابعة البحث بين الروس وكلّ من حلف "الناتو" و"منظمة الأمن والتعاون الأوروبي". وليس من المتوقع أن تكون النتائج أبعد من حدود ما وصلته في جنيف.

عقدة المأزق هذا، دار حولها جدل في واشنطن. صحيح أن الغالبية من الديمقراطيين والجمهوريين والنخب المعنية بالسياسة الخارجية، تساند تشدُّد إدارة جو بايدن مع فلاديمير بوتين، وهذا ليس بجديد وتعود خلفياته إلى زمن الحرب الباردة، لكن في المقابل، كانت هناك أصوات ليبرالية ومحافظة وإن قليلة نسبياً، تدعو إلى تفهم حيثية بوتين الأمنية، "وعدم تجاهل مطالبه كلياً" ("نيويورك تايمز" واسعة التأثير)، أو تطرح التساؤل "عما إذا كانت لتوسع الناتو نهاية؟" (المحافظ المخضرم باتريك بيوكانن).

وفي هذا الصدد، جرى الرد على تأكيد الوزير أنتوني بلينكن أن مسألة الانضمام إلى حلف "الناتو" هي "قرار سيادي لا دخل لواشنطن فيه". وهذا زعم سليم من حيث المبدأ، لكن يتعذر تسويقه عملياً، إذ بإمكان واشنطن في هذه الحالة "استخدام الفيتو" ضد قبول أي عضو جديد، لأنها بالنهاية هي التي تتحمل الشق الأكبر من عبء تنفيذ المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص على أن الاعتداء على أي دولة عضو يلزم بقية الأعضاء بالمساهمة في الدفاع عنها.

ثم هناك واقعة جرى استحضارها في هذا الخصوص ولو أنها غير موثقة. فعند نهاية الحرب الباردة، عرض ميخائيل غورباتشوف على إدارة الرئيس بوش الأب مقايضة تقضي "بموافقة الاتحاد السوفياتي على إعادة توحيد ألمانيا، مقابل أن تضمن أميركا عدم تمدّد حلف الناتو شرقاً". الرواية تقول إن وزير الخارجية آنذاك جيمس بيكر رد بقوله إن الحلف في هذه الحالة "لن يتمدد مسافة إنش واحد". الوزير بيكر لم يكذب هذه الرواية حتى الآن.

بكل حال، موضوع توسيع الحلف الذي كان قد أثار تحذيرات من المضي فيه، يعود في أصله إلى الاستمرار في التعامل مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كبلد لا يحظى بامتياز تصنيفه كدولة عظمى، ولو أنه عسكريا كذلك. يضاف إلى ذلك الاعتقاد بأن الرئيس بوتين يعمل على كسر هذا التصنيف، لاستعادة خلق مناطق نفوذ في الجوار لدول تدور في فلكه، وبالتالي هو "مصدر خطر" ينبغي قطع الطريق على تمكينه.

هذا التصور المغروسة جذوره في الماضي، يمدّه بوتين من حين إلى آخر بالمزيد من الأوكسجين، عندما يلجأ إلى خيار القوة أو يلوّح به كما هي الحال الآن، بصرف النظر عن المسوغات. وبذلك، تجمعت عوامل المأزق للطرفين، والذي لا يبدو أن بالمقدور التغلب عليه بما يزيد عن تدبير مخرج يحفظ ماء الوجه للطرفين، ويكون الوقت أحد أركانه، من خلال مدّ المحادثات قدر الإمكان.

مفاوضات فيينا على النقيض من ذلك. الإدارة دخلت فيها على أساس تسريعها واختصار جولاتها. وعدت، بل توعدت، خصوصاً بعد استئنافها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحسم الأمر في غضون أسابيع. لوّحت بسقف زمني قريب، من دون تحديده. كما لوّحت ببدائل أخرى، لوحظ في المدة الأخيرة خفوت الإشارة إليها. اليوم تكرر الخارجية ذات الكلام، عن "تقدم محدود" لكن غير محدّد.

الاستخلاص أن المفاوض الإيراني تشدد على أساس أن إدارة بايدن مطوقة بالمشكلات والتحديات الداخلية: متحورات كورونا، وعرقلة الكونغرس لمشاريع الرئيس الحيوية، وأيضاً الخارجية، خاصة روسيا وأوكرانيا؛ وبالتالي فإن ظروفها لا تمكنها من انتزاع التنازلات بقدر ما تفسح المجال لمطالبتها بالتنازلات، خصوصاً أنها لا تملك الخطة "ب"، البديل، كما يتردّد منذ فترة. وهناك غمز مبطّن في هذا السياق من رخاوة الموقف الروسي تجاه إيران في مفاوضات فيينا، جرى التعبير عنه مرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي على لسان مسؤول في الخارجية، خلال إحاطة صحافية. واليوم، تسلطت الأضواء أكثر على تعثر المفاوضات، عندما لم يكن لدى الناطق في الخارجية سوى رمي الكرة في ملعب الإدارة السابقة، وغلطتها في الانسحاب من الاتفاق. ومع جنيف المعطوفة على فيينا وتحدياتها الداخلية، تواجه الإدارة وضعاً لا تُحسد عليه.

المساهمون