من بحر البلطيق إلى البحر الأسود... الستار الحديدي الجديد

12 يوليو 2022
أسلاك سوفييتية بين سلوفاكيا والنمسا، نوفمبر 2016 (فلاديمير سيميتشيك/فرانس برس)
+ الخط -

عاشت أوروبا فترة من الهوس بالسلام، حتى نسيت فكرة العدو ذاتها. واعتبرت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحد أفراد العائلة، لا يهدد أمنها ولا يشكل خطراً عليها في الحاضر ولا في المستقبل، وراحت تبحث عن أعداء في مواقع أخرى، واتخذت من عمليات "داعش" خطراً وجودياً.

وحتى يوم 24 فبراير/ شباط الماضي تاريخ إعلان روسيا اجتياح جارتها أوكرانيا، لم تكن أوروبا قد عرفت حرباً بهذا الحجم منذ استسلام الرايخ الثالث (ألمانيا النازية) في ختام الحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1945).

وبينما كانت تغفو بهدوء على مدار سبعة عقود، استيقظت أوروبا فجأة لتشهد انتهاكات عسكرية تُرتكب عند بواباتها، ترقى إلى جرائم حرب. قصف بنى تحتية، بما فيها مستشفيات للأطفال ومدارس، وطوابير من آلاف الأمهات يغادرن منازلهن هرباً من هجوم الروس، ومبان سكنية تحترق وتهوي من جراء قصف ثاني أقوى جيش في العالم.

أوروبا تكتشف عدوها

كانت أوروبا تحتاج بعض الوقت كي تكتشف العدو وتتعرف إليه جيداً، وتعيد تعريف الحرب بمفاهيم مختلفة عن الماضي، ويعود السبب في ذلك إلى بوتين الذي قلب المعادلات الدولية.

وجاءت قمة حلف شمال الأطلسي الثانية خلال ثلاثة أشهر، والتي اختتمت أعمالها في مدريد في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، لتعيد التاريخ عدة عقود نحو الوراء، نحو اللحظة التي سقط فيها الستار الحديدي مع انهيار جدار برلين عام 1989.

تلك هي خلاصة قراءة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للنتائج، كون القمة صنّفت روسيا على أنها "التهديد الأكبر وأكثر تهديد مباشر لأمن الحلفاء"، ووضعت آلية لانضمام فنلندا والسويد إلى عضوية الحلف، الذي كان قد بدأ بالترهل خلال العقدين الأخيرين، حتى أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وصفه بأنه بات "نمراً من ورق".


الأطلسي وروسيا سيتقابلان عسكرياً بشكل مباشر على طول خط جديد

الستار الحديدي يحيل إلى الأوقات الصعبة، التي تم فيها الفصل بين السوفييت والغربيين بحدود حقيقية، جسدية وأيديولوجية، أقامها الغربيون أنفسهم لعزل الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية التي شكلت "حلف وارسو".

وكان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل أول من استخدم المصطلح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خلال خطاب ألقاه في الولايات المتحدة، في كلية "ويستمنستر" في فولتون من ولاية ميسوري، في 5 مارس/ آذار 1946.

ومن ثم تحول خطابه إلى حاجز فعلي بين المعسكرين الشرقي والغربي، يمتد من أعالي الحدود بين الاتحاد السوفييتي وفنلندا إلى البحر الأدرياتيكي، بين إيطاليا ويوغوسلافيا السابقة. ستار حديدي قسم قارة أوروبا بين "الشرق" السوفييتي و"الغرب" الغربي.

وبلغ طوله قرابة 7000 كيلومتر، مكوناً في كثير من مواقعه من حواجز معدنية مزدوجة بأسلاك شائكة وأجهزة إنذار كهربائية وأبراج مراقبة وممرات لكلاب الحراسة، بالإضافة إلى نقاط التفتيش وإطلاق نار آلي، وبقي منتصباً كرمز للحرب الباردة (1947 ـ 1991)، حتى سقوط جدار برلين.

وقسمت هذه الحدود ألمانيا إلى قسمين، من خلال الجدار الشهير. وفي هذه الحالة شهد "الستار الحديدي" التجسيد الأكثر إثارة، وبلغ طول الجدار 155 كيلومتراً، 43 كيلومتراً منها بين قسمي مدينة برلين، في حين أن 112 كيلومتراً أخرى كانت لفصل برلين الغربية في ألمانيا الاتحادية عن أراضي جمهورية ألمانيا الشرقية التي كانت في الكتلة الشرقية.

وتمكن قرابة 5000 شخص من الفرار عبر الجدار عبر 70 نفقاً تم حفرها لعبوره بين عامي 1961 و1989 من أجل الهرب من النظام الشيوعي، على الرغم من أنه كان محروساً بـ302 برج مراقبة و14 ألف حارس و600 كلب. وكان انهياره في عام 1989 بمثابة التاريخ الرمزي لسقوط الكتلة السوفييتية.

تصريح لافروف كان بمثابة تحصيل حاصل، ذلك أن الغزو الروسي لأوكرانيا أحيا في أذهان القادة الغربيين نذر الحرب الباردة، وذلك من خلال محاولة تغيير الحدود التي جرى رسمها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

وهذا ما جاء على لسان المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي اعتبر الحرب الروسية على أوكرانيا "محاولة لتحريك الحدود بعنف في أوروبا"، بينما رأى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن غزو أوكرانيا يشكل "نقطة تحول في تاريخ أوروبا"، وستكون له "عواقب دائمة وعميقة على حياتنا" و"على الجغرافيا السياسية لقارتنا".

وبالنسبة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، فإن "بوتين لا يريد فقط إعادة تشكيل الإمبراطورية السوفييتية"، ولكن أيضاً "استعادة مجال نفوذ" روسيا في البلدان التي كانت ذات يوم جزءاً من المجال السوفييتي، والتي انضمت إلى الأطلسي.

وبغض النظر عن النهاية التي سيؤول إليها النزاع الراهن في أوكرانيا، فإن الوضع الحالي مرشح للدوام إلى أمد غير منظور، وحتى لو حصل وقف إطلاق نار وجرى التوصل إلى تسوية بين موسكو وكييف، فإن الأطلسي وروسيا سيتقابلان عسكرياً بشكل مباشر على طول خط جديد، يمتد من دول البلطيق (لاتفيا، ليتوانيا، إستونيا)، إلى رومانيا وبلغاريا، ويمر عبر بولندا.

وعلى كل جانب من هذا الخط، ستواجه القوات والمعدات الثقيلة بعضها بعضاً مرة أخرى، بعدما أعلنت الولايات المتحدة والأطلسي عن إرسال آلاف الجنود إلى حلفائهم في أوروبا الشرقية.

ومع الإعلان عن تعزيزات قوامها سبعة آلاف رجل في الآونة الأخيرة، بات لأميركا وحدها أكثر من 90 ألف جندي في أوروبا، كما أن فرنسا بدأت في نشر قواتها في رومانيا، وأبدت إيطاليا استعدادها لنشر 3400 جندي إضافي في أوروبا الشرقية، بينما أصبحت بيلاروسيا بمثابة قاعدة عسكرية، توجهت منها القوات الروسية لمهاجمة أوكرانيا في فبراير الماضي، وتنشر فيها روسيا اليوم عشرات آلاف الجنود، بسبب موقعها المتقدم في مواجهة بلدان البلطيق.

وإذا تعلق الأمر بتهديد خارج حدود أوكرانيا، سيجد بوتين سداً قوياً للغاية في طريقه. ولن يتأخر تفعيل المادة 5 من ميثاق حلف الأطلسي، التي تنص على أن "الهجوم على بلد واحد هو هجوم على الجميع"، في وقت لا يزال فيه الرئيس الروسي يتوعد بـ"عواقب وخيمة" لكل من أحبط خططه.

وهو بذلك يلوّح بالترسانة النووية الروسية، وتلقى أكثر من إجابة غربية فحواها أن عليه أن يفهم أيضاً أن الحلف الأطلسي هو تحالف نووي، ما يعني عودة التهديد بالردع النووي إلى جدول أعمال العلاقات بين الشرق والغرب.

وحتى الآن تم حذف العامل النووي من المعادلة، لكن هناك خشية من أن تستخدم موسكو الورقة الوحيدة المتبقية لها كقوة عظمى قديمة لممارسة الضغط على الغرب. والمثير للدهشة أن روسيا تعامل وكأنها لا تمتلك ترسانة نووية ضخمة.

وكان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران قد قال وهو يغادر الحكم في عام 1995 إنه "لا معنى للردع النووي إذا تقدم الروس حتى حدود ألمانيا".

وهو ما يرجح مسألة الاستخدام التكتيكي للسلاح النووي من قبل روسيا إذا وجدت نفسها محشورة في الزاوية، وهذا غير وارد حتى الآن، في الوقت الذي أصبحت فيه الحرب الإلكترونية ساحة معركة عملاقة لحرب بلا حدود.


فرانسوا ميتران في عام 1995: لا معنى للردع النووي إذا تقدم الروس حتى حدود ألمانيا

الحرب ضد أوكرانيا ستكون لها الكثير من التداعيات على المحور الذي يمتد من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. ويعتبر خبراء أوروبيون أن الضغط على بولندا ودول البلطيق سيكون أقوى بكثير.

وليس من السهل أن يتنازل الروس عن حرية المرور من ليتوانيا للوصول إلى جيب كالينينغراد، وذلك في وقت تهيمن فيه حالة من القلق في أوساط بعض القادة الأوروبيين من احتمال توسيع الهجوم الروسي ليشمل مولدوفا وجورجيا، وذلك بذريعة وجود مناطق انفصالية موالية لروسيا، إحداها، ترانسنيستريا في مولدوفا، وتمتلك روسيا في "عاصمتها" تيراسبول قاعدة عسكرية قريبة جداً من ميناء أوديسا الأوكراني.

إعادة بناء الستار الحديدي

المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي بدأت في عام 2014 مع أزمة أوكرانيا، لها تأثير كبير على الأمن العالمي، لا سيما في أوروبا. هي أكثر قسوة من تلك التي دارت خلال الحرب الباردة، إذ إن الحرب الأخيرة كانت بين كتلتين سياسيتين وعسكريين متساويتين تقريباً، تقود كل منهما قوة عظمى.

وكانت معركة أيديولوجية، إذ كان كل طرف مغلقاً بإحكام أمام تأثير الطرف الآخر في ما يتعلق بوضعه الداخلي. وكان هناك شكل بدائي من الاحترام المتبادل بين القوى العظمى وأنظمتها، وسادت قواعد سلوك تهدف إلى تقليل مخاطر ما يسمى الصراع المركزي، أي الحرب بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. أما المواجهة الحالية فهي غير متكافئة إلى حد كبير.

روسيا أدنى من الولايات المتحدة في القوة والنفوذ والمكانة الدولية، ناهيك عن الغرب بشكل عام، وعلى الرغم من إعادة بناء "ستار حديدي"، فإنه لا يمكن أن يشكل حاجزاً أمام الناس أو الأفكار. وهذ الوضع الجديد له عواقب مهمة ويزيد من مخاطر الصدام، نظراً لأن الصراع يقع بالقرب من حدود روسيا وليس حدود الولايات المتحدة.

وتظل علاقات روسيا مع أوروبا مهمة للغاية. وتبقى أوروبا الغربية المصدر الرئيسي للتكنولوجيا والاستثمار وسوقاً رئيسياً وقطباً للثقافة. وعلى الرغم من أنها ليست جزءاً من أوروبا تظل روسيا دولة أوروبية.

ولكن طموح روسيا في رؤية أوروبا تحرر نفسها من الوصاية الأميركية سقط اليوم، وسقطت معه الاستراتيجية الأوروبية للتقارب بين موسكو ولاعبين أوروبيين رئيسيين مثل برلين وباريس وروما ومدريد، ومع وسطاء مثل فيينا وهلسنكي، وحصلت قطيعة مع لندن باعتبارها إحدى ضواحي واشنطن، وستصبح استوكهولم ووارسو وعواصم البلطيق مسورة بالستار الجديد. وستضطر روسيا إلى المواجهة مع الأوروبيين الأطلسيين التقليديين، أو مع القوميين المتعنتين.

كل جيل روسي جديد حاول كتابة صفحة جديدة في التاريخ القومي الروسي، لكنه يترك قنبلة موقوتة للجيل القادم. وصارت كل قفزة إلى الأمام تحتمل قدراً من المخاطر يصعب حسابه.

وكلما تقدم الأطلسي خطوة نحو حدود روسيا كلما زاد الخطر، ولن يغير في المعادلة سوى خسارة بوتين للحرب التي أطلقها على أسس قومية، لتدخل أوروبا في عصر جيوسياسي جديد.

المساهمون