من مطلع العام الجاري تشهد مدينة أم الفحم حراكًا شبابيًا واسعًا، ضد العنف والجريمة وتواطؤ الشرطة الإسرائيليّة مع عصابات الإجرام. وصل الحراك إلى ذروته (حتى الآن) في الأسبوع الأوّل من شهر آذار/مارس الجاري، حين عمدت الشرطة الإسرائيليّة إلى فضّ تظاهرة السادس والعشرين من شباط/فبراير بالقوّة، عبر الاعتداء على رئيس البلديّة، د. سمير محاميد، والنائب د. يوسف جبارين، وكادت أن تقتل أحد المتظاهرين بعدما أصيب إصابة خطيرة، بالإضافة إلى اعتقال العشرات.
تصوّرت الشرطة الإسرائيليّة أنّ هذا الحلّ القمعي سيساهم في فضّ الحراك، غير أنّ النتيجة جاءت مغايرة تمامًا: نقل التظاهرات إلى محكمة حيفا. تحوّلت مظاهرة معتقلي أم الفحم، في يوم السبت، إلى مظاهرة غاضبة كبيرة جدًا أمام المحكمة، حتى الإفراج عن المعتقلين. لاحقًا، في يوم الجمعة، شهدت مدينة أم الفحم واحدة من أكبر التظاهرات داخل الخطّ الأخضر خلال السنوات الماضية، رغم عرقلة الشرطة الإسرائيليّة لها.
خلال ذاك الأسبوع تحديدًا (أي بين السادس والعشرين من شباط وبين الخامس من آذار) أثبت "الحراك الفحماوي الموحّد" (الذي ينظّم التظاهرات) قدرته على الحشد والتنظيم، لا داخل المدينة نفسها فقط، إنّما في نقل متظاهرين إلى حيفا، وما يعنيه ذلك من رسالة واضحة للمؤسّسة الإسرائيليّة بالقدرة على إرباكها وتحدّيها في أكثر من مكان. كما وفّر "الحراك الفحماوي الموّحد"، خلال الفترة الماضية، طاقم محامين كاملا للدفاع عن المعتقلين فور اعتقالهم.
شهد داخل الخطّ الأخضر خلال السنوات الماضية تظاهرات عديدة ضد العنف والجريمة وتواطؤ الشرطة، خصوصًا في مجد الكروم، التي شهدت تظاهرة ضخمة جدًا عام 2019 وفعاليّات يوميّة استمرّت لأسابيع أمام مقرّ شرطة المدينة. بدأت احتجاجات بعد جريمة قتل مروّعة راح ضحيّتها ثلاثة شبّان من القرية.
هذه الاحتجاجات المتواصلة بدأت تراكم وعيًا تجاه دور الشرطة الإسرائيليّة في قضية يفترض أنها "مدنيّة" أو "يوميّة" بامتياز. هذا الوعي بدت صلابته في مظاهرات أم الفحم الأخيرة، فإن شهدت أولى التظاهرات استخدام عبارات مثل "تقصير الشرطة في مكافحة الجريمة"، فإنّ هذا المصطلح غاب بشكل تام، ليحلّ مكانه مصطلح "تواطؤ الشرطة مع عصابات الإجرام"، والفرق بين المصطلحين كبير: فـ"تقصير الشرطة" حاولت الشرطة ردّه إلى عدم تعامل الأهالي معها، بالأحرى، عدم قدرتها على تجنيد عملاء في البلدات العربيّة، بالإضافة إلى جملة تصريحات عنصريّة أخرى عن طبيعة المجتمع العربي العنيفة. أمّا مصطلح "تواطؤ الشرطة" فيضع اليد على الجرح النازف، بمعنييه الحرفي والمجازي: مصدر الغالب الأعمّ من السلاح هو الجيش الإسرائيلي. للشرطة علاقات معروفة مع رؤوس عصابات الإجرام، ضمن مناطق نفوذ معيّنة وجودها ليس سرًّا. عمليات الإفقار والتهميش التي تعاني منها البلدات العربيّة منذ النكبة حتى يومنا هذا، حتى تحوّلت إلى ما يشبه أحياء الفقر الكبيرة.
مواجهة الشرطة ليست تفريغًا لغضب، وأبعد من ملاحظة إحصائيّة لارتفاع معدّلات الجريمة في كل بلد تُفْتَتَح فيه مراكز شرطة جديدة. إنها إشارة إلى مكمن الخلل وتعبير عن إدراك لعنصرية جهاز ومؤسّسة قاما على نفي العرب ومراقبته دائمًا.
وهذه المواجهة مع الشرطة، مع إدراك "تواطؤها" لا مجرّد "تقصيرها"، ليست دعوة إلى افتتاح مزيد من مراكز الشرطة في البلدات العربيّة، كما تنصّ "الخطّة الحكومية (الإسرائيليّة) لمواجهة العنف في البلدات العربيّة"، التي أقرّت في الشهر الأخير، إنما إلى مراجعة الطبيعة العنصريّة للشرطة أولا؛ وثانيًا إلى إجبار المؤسّسة الإسرائيليّة على منع تهريب السلاح من قواعدها العسكريّة إلى عصابات الإجرام؛ وثالثًا إجبار الشرطة على قطع علاقاتها وحتى تنسيقها مع رؤوس هذه العصابات.
حركات أوسع... اجتماعياً أيضاً
لم يشهد الداخل مظاهرات ضد العنف والجريمة وتواطؤ الشرطة خلال الأعوام الأخيرة فقط، إنّما شهد حركات ومظاهرات حول قضايا أخرى، أبرزها حراك "برافر" المنظّم جدًا، والذي أثبت قدرته على الحشد في أكثر من موقع في نفس الوقت، والتنظيم الدوري للتظاهرات، وحتى فرض إضراب عام هو الأوّل الذي لم يصدر عن لجنة المتابعة العليا، حتى النجاح في نهاية المطاف في إسقاط المخطّط، الذي هدّد بمصادرة 800 ألف دونم من أراضي النقب، في أكبر مصادرة منذ النكبة.
كما عمّت تظاهرات الغضب على جرائم إسرائيل في قطاع غزّة مدينة حيفا، وتخلّلتها اعتداءات عنيفة من الشرطة على المتظاهرين. بالإضافة إلى مظاهرات حراك "طالعات" الحاشدة، تحت شعار "لا وطن حرا دون نساء حرات".
ثمّة أمر مشترك في كل هذه الحركات/النشاطات: التضامن الاجتماعي على مستويات متعدّدة. في رفع الظلم الواقع على المرأة. في التضامن ضد مخطّط اقتلاعي في النقب. ضد جرائم الاحتلال في غزّة. وضد عصابات الإجرام في داخلنا، أيضًا، فأم الفحم مثلا لم تشهد أي جرائم قتل منذ انطلاق الحراك الشائك.
لما هذا الأمر مهم؟
خلال العقدين الأخيرين، وجدت إسرائيل نفسها أمام مأزق اقتصادي محتمل، فاستمرار تجاهلها للمجتمع العربي، الذي يشكّل 20% من سكانها، واستمرار الفقر الشخصي فيه سيعني ضررا واسعًا للاقتصاد الإسرائيلي نفسه، فأوصت "منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية" إسرائيل بتطوير الاقتصاد عند العرب والحريديّين، وخصوصًا عند النساء العربيّات، لسدّ الفجوات الاقتصادية القائمة في إسرائيل، وبالتالي مع تراجع اقتصادها.
لم تنعكس هذه التوصية مراجعة إسرائيليّة شاملة لسياسات إفقارها التي ضربت المجتمع العربي، وبالتأكيد لن تبني إسرائيل اقتصادا عربيًا في الداخل منفصلا عنها، حتى لو بشكل جزئي، فعملت على تعزيز الإنجازات الاقتصاديّة الفرديّة، لا المجتمعية.
لم تقم مؤسّسة اقتصاديّة عربية واحدة، بل دمج للعرب في شركات كبرى إسرائيلية ودولية، عبر آلة إنتاج ضخمة، تنزع العربي (والعامل عمومًا) عن سياقه الاجتماعي والسياسي، تبرز خصوصًا في شركات الهايتك الكبرى، على المستوى الرسمي، ولكن أيضًا على ازدهار "السوق السوداء" في البلدات العربية، تعزّزها الرغبة العارمة في الخلاص الفردي.
يرتبط العنف والجريمة داخل الخطّ الأخضر عمومًا بـ "السوق السوداء" (التي تتقاسمها مجموعات كبيرة مرتبطة بشكل مباشر بعصابات الإجرام) والتجارة بالدَّين وعدم القدرة على سداد الديون (في ظلّ وفرة السلاح، وتواطؤ الشرطة)، وهذا كلّه لم يكن موجودًا قبل أكثر من عقد.
أفرزت عقليّة الخلاص الفردي هذه واقعًا مشوّهًا: سيّارات غنيّة في بلدات فقيرة. عدد أطباء كبيرا مثلا مقابل عدد مشافٍ ضئيل جدًا. إنجازات فردية كبيرة جدًا، حتى داخل المؤسّسة الإسرائيلية (عربي يدير أكبر بنك إسرائيلي، وباحث عربي يدير أهم معهد تكنولوجي إسرائيلي) في مقابل غياب الإنجازات الجماعية. أي أفراد أكثر ثراءً، في مجتمع أكثر فقرًا.
أمّا الأثر الاجتماعي فكان أشد وطأة: عنف وجريمة في كلّ مكان. عنف على كلّ المستويات، داخل الأسرة الواحدة، بين العائلات داخل البلدة الوحدة. وتبرير العنف باستخدام جمل مثل "لا يقترب من السوق السوداء لن يقترب أحد منه"، وهذا ادّعاء خاطئ، فعدد كبير من ضحايا العنف غير متورّط في هذه القضايا، لا بشكل مباشر ولا بغير مباشر.
وفي ظلّ الحديث عن فردانيّة تُعزّزها إسرائيل بسياساتها الاقتصاديّة النيوليبراليّة، يكون الحديث عن النشاط السياسي، الذي هو في الأساس تعبير عن إيمان بقيم مثل العدالة ورفض الظلم – بمستوياته العديدة من الأسرة الصغيرة حتى الحرب الكبيرة – ضربًا من ضروب الجنون، ونرى كيف تنعكس نتيجتها على الحركة الوطنيّة في الداخل.
الحركات... الطرح المقابل
وفي ذروة هذه السياسات ونتائجها جاءت الحركات الشبابيّة تحمل تضامنًا اجتماعيًا كبيرًا، وتعمل على مستويين: إعادة أهمية العمل الجماعي والانتماء المجتمعي مع الأمل بأن يقود ذلك إلى نبذ تام للمجرمين، ووعي بدور المؤسّسة الإسرائيليّة، على المستوى التنفيذي في موضوع التواطؤ مع عصابات الإجرام، وفي الدور العام كله عبر العنصرية التي تأسست عليها إسرائيل، وسياساتها الاقتصادية الجديدة.
الصورة الآن في طريقها لأن تكون أوضح: العنف ضد امرأة واحدة أصبح يعني خروج تظاهرات كبيرة تناهض العنف ضد النساء في كل البلدات وإغلاق شوارع رئيسيّة؛ وجريمة عنف واحدة في أم الفحم تعني أسابيع من التظاهر والاشتباك مع الشرطة في أكثر من مكان؛ ومصادرة أراضٍ في النقب ليست شأنًا نقباويًا خالصًا، إنّما قضيّة الفلسطينيين حتى من لم يزر النقب منهم، وكذا الحصار على غزّة، فقتل طفل في مسيرة العودة، يعني إغلاق شارع في حيفا.
الطريق لتعميم هذه التجربة طويل، لكنّ تراكم الوعي على المستويين السياسي والاجتماعي، يمهّد إلى حراك شبابي أوسع وأقوى وقادر على تحقيق إنجازات سياسيّة، تبدو أنها شخصيّة أو عينيّة.