دخلت تركيا عام 2021، بمواقف خارجية لافتة تجاه مختلف الأطراف الدولية، بدا فيها أن أنقرة تستعد لمرحلة جديدة في علاقاتها الخارجية، تقوم على الحوار لحلّ خلافاتها مع دول عديدة، وحول ملفات مختلفة، باتت أنقرة لاعباً أساسياً فيها، أكان الصراع في شرق المتوسط، وتحديداً مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، أو في ليبيا ودول أخرى في المنطقة، مع ترقب توجهات الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن. وفيما تتنوع العوامل الداخلية والخارجية التي تقود أنقرة إلى هذا المسار، يبقى حدود الانفتاح التركي للحوار والتفاهم مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، رهن تجاوب الأطراف الأخرى، وملاقاة أنقرة، في ظلّ التحوّلات التي طرأت على المشهد الدولي.
وبعد عامٍ من التوتر على صعيد ملفات عالقة إقليمياً ودولياً، وضع أنقرة في وجه قوى دولية وإقليمية، رسم وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، في كلمة له لتقييم أداء وزارته خلال عامٍ كامل، صورة لتوجّه مختلف في العلاقات مع دول عدّة، يقوم على الحوار لحلّ الخلافات والقضايا العلاقة، بدءاً من دول المنطقة، مروراً بالاتحاد الأوروبي، ووصولاً إلى الولايات المتحدة.
تحتاج العلاقة بين أنقرة وكل من أبوظبي وتل أبيب إلى وقت أطول لتصحيحها
وقال الوزير التركي، في كلمته يوم الأربعاء الماضي، إن الولايات المتحدة عرضت على أنقرة تأسيس مجموعة عمل مشتركة بشأن العقوبات الأميركية المرتبطة بقانون "كاتسا"، بسبب شراء أنقرة منظومة صواريخ "إس 400" الروسية، وإن بلاده وافقت على المقترح الأميركي لأنها تقف إلى جانب الحوار دائماً. وأكد جاووش أوغلو استعداد تركيا في عام 2021 لتسيير العلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة بشكل أكثر سلامة. وعلى صعيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، أعلن "أننا مستعدون للسير بعلاقاتنا مع الاتحاد في بيئة أكثر إيجابية العام المقبل، وننتظر منه أن يكون كذلك". وأضاف أنه "على الرغم من وجود خلافات في الرأي في إطار مؤتمر شرق المتوسط متعدد الأطراف، إلا أنه يمكننا التباحث بخصوصه وتخفيض التوتر في البحر الأبيض المتوسط"، مشيراً كذلك إلى إطلاق عملية لإعادة العلاقات مع فرنسا إلى طبيعتها.
وتطرّق الوزير إلى العلاقات التركية مع مصر والإمارات، مؤكداً أن أنقرة والقاهرة تسعيان لتحديد خارطة طريق بشأن علاقاتهما الثنائية، وأن التواصل مع مصر على الصعيد الاستخباري مستمر لتعزيز العلاقات، والحوار قائم على مستوى وزارتي الخارجية. وحول ذلك، أشار إلى "وجود مساعٍ للتحرك وفق مبدأ عدم التضارب في المحافل الدولية". في المقابل، وصف جاووش أوغلو سياسة الإمارات تجاه بلاده بأنها "غير ودّية، وكان هناك حديث مع الجانب الإماراتي، وكانت الحجج المقدمة غير منطقية، وعلى الرغم من ذلك، استمرت (أبوظبي) في نهجها التصعيدي ضد تركيا".
وبخصوص الأزمة الليبية، أكد الوزير التركي موقف بلاده الداعم للعملية السياسية، مشيراً إلى الجهود التركية المهمة في تنفيذها، بالتعاون الوثيق مع جهات فاعلة. وحول العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، أوضح أنها "أصبحت على ما هي عليه، بسبب السياسات العدوانية لإسرائيل تجاه فلسطين، وإذا استمرت في هذه الخطوات، فإن العودة إلى علاقة سليمة غير ممكنة".
هذه المواقف تطرح تساؤلات عن العوامل التي تدفع تركيا إلى تبنّي هذه السياسة، لتبرز دوافع داخلية وخارجية. في الداخل، يبرز سعي حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى منع انعكاسات المشاكل الدولية على الوضع الداخلي، لا سيما الاقتصادي، تمهيداً للانتخابات المقبلة في عام 2023، أو استعداداً لأي انتخابات مبكرة تدفع بها المعارضة في الداخل، وقد تجري هذا العام أو العام المقبل، وبالتالي محاولة المعارضة الاستثمار في هذا الملف داخلياً.
أما الدوافع الخارجية، فتنطلق من تسلم إدارة أميركية جديدة بقيادة جو بايدن الحكم في واشنطن، وهو ما يقلق أنقرة بعد تجربة مريرة مع الإدارة الديمقراطية السابقة في زمن باراك أوباما، وحين كان بايدن نائبه. وشهدت العلاقات بين البلدين حينها تراجعاً كبيراً، لا سيما في ملف دعم التنظيمات المناوئة لتركيا، مثل "حزب العمال الكردستاني" داخل سورية، وجماعة "الخدمة" المتهمة بالمحاولة الانقلابية صيف عام 2016. وفي ظلّ هذا الواقع، تخشى تركيا عزلة في ملف شرق المتوسط وليبيا، ولذلك فهي تسعى إلى تحسين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ودول الإقليم، كما تعمل لمنع مزيد من العقوبات عليها، ما يحملها أعباء اقتصادية، وذلك في ظلّ تلمّسها مواقف إيجابية من مصر والسعودية والعراق، فيما تحتاج العلاقة مع الإمارات وإسرائيل إلى وقت أطول.
وعن ملامح السياسة التركية الجديدة ودوافعها، يرى الباحث في مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، علي باكير، أن "الجانب التركي يمهد من خلال هذه التصريحات، لخلق بيئة مناسبة لإجراء حوار متعدد الاتجاهات والمستويات مع عدد من اللاعبين الإقليميين والدوليين"، مستدركاً "لكن مثل هذه المبادرة الإيجابية والبنّاءة تحتاج إلى طرف آخر لملاقاتها". وإذ يعتقد باكير، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "جزءاً أساسياً من هذه المبادرة يأتي استجابة للتحولات التي طرأت على المشهد الدولي، لا سيما في الولايات المتحدة وفوز بايدن بالانتخابات الرئاسية"، إلا أنه يوضح "أن الأمور تتعلق بتحديد كل طرف لمصالحه وخطوطه الحمراء ومحاولة تفادي الصدام، على اعتبار أن البيئة الإقليمية معقدة للغاية، ولا تحتمل المزيد من الصراعات والحروب، وهناك حاجة لإعادة النظر في التموضع الإقليمي لجميع الدول".
يقلق وصول بايدن للرئاسة أنقرة بعد تجربة مريرة مع إدارة باراك أوباما
ويتحدث باكير عن "نقاط قوة للجانب التركي، منها أن أنقرة الآن لاعب أساسي وفاعل في جميع الساحات، في سورية وشمال أفريقيا والقوقاز والشرق الأوسط، وتجاهلها سيعقد الأمور ويزيد الأوضاع تأزماً، إضافة إلى التحسن في العلاقة مع السعودية، على الرغم من أنه من المبكر جداً القول إن الأمور ستعود بشكل سريع إلى مستوى العلاقات الجيدة".
من جهته، يرى الكاتب والصحافي حمزة تكين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "السياسة التركية لن تتغير في العام الجديد عن 2020 بشكل مبدئي، لكن يمكن للخطاب التركي أن يكون أكثر ليونة وتصالحية، مع إبقاء الثوابت نفسها، لأن أنقرة بنت قوة في العام الماضي يمكن استثمارها مع الآخرين من دون إلغاء دورها في الإقليم والعالم". ويضيف تكين أن "الكرة في ملعب الجانب الأميركي للحوار في ظلّ الثوابت التركية. وإذا تجاوبت واشنطن، سترد أنقرة بالمثل لأنها حريصة على علاقات جيدة على الرغم من الخلافات والمناكفات، كما أن واشنطن حريصة على هذه العلاقات". أما في شرق المتوسط، فيشير إلى أن "تركيا تفتح باب الحوار مع الاتحاد الأوروبي واليونان في ظلّ موقفها القوي، مع رغبتها بأن يحصل كل طرف على حقه"، فيما العلاقة مع مصر "تشوبها خلافات في وجهات النظر، ولا سيما في الملف الليبي، لكن الحوار مستمر ويُتوقع أن يشهد العام الجديد مزيداً من الإيجابية، وستتحسن العلاقات المشتركة بين الطرفين ما ينعكس إيجاباً على الملف الليبي"، وفق اعتقاده.
وبالنسبة للعلاقة مع إسرائيل، يشير تكين إلى أن "شروط أنقرة ومطالبها من تل أبيب معروفة، وبالتالي فإن المحددات التركية في السياسة الخارجية، هي حفظ الحقوق التركية، وكلام الوزير التركي هو من موقع القوة، وليس نابعاً عن ضعف، ويهدف إلى حلّ الخلافات وإزالة التشنجات".