دخلت الأزمة اليمنية طوراً جديداً خلال الأيام الماضية، فمع انحسار الأعمال القتالية بشكل غامض في مأرب والجوف، مسرح العمليات الأخيرة الأبرز منذ منتصف العام الحالي، فتحت جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) جبهة جديدة، تطمح من خلالها للظفر بهدف صعب المنال، هو نيل الشرعية والاعتراف الخارجي.
وكشف الوصول المفاجئ للسفير الإيراني الجديد، حسن إيرلو، إلى صنعاء عن جزء من تلك الطموحات القديمة للجماعة، التي تسعى حالياً بكل السبل، إلى كسر العزلة الدولية المفروضة عليها منذ أعلنت الانقلاب رسمياً مطلع فبراير/شباط 2015، بحل البرلمان وتمكين ما يسمى بـ"اللجنة الثورية العليا" من إدارة مؤسسات الدولة. كما أن سماح التحالف السعودي-الإماراتي بدخول إيرلو إلى اليمن طرح تساؤلات عن إمكان وجود صفقة سياسية ما.
وبعد نجاح الجماعة في تثبيت وجودها التام داخل مؤسسات الدولة وإدارة كافة الشؤون الاقتصادية والعسكرية في العاصمة صنعاء وباقي المدن الخاضعة لسيطرتها، ظلت "الشرعية" هي الحلقة المفقودة بالنسبة للجماعة المعزولة عن العالم، باستثناء الاعتراف من جانب إيران، والتي اعتمدت مطلع العام 2019 قيادياً حوثياً هو إبراهيم الديلمي، كسفير لليمن لدى طهران، فضلاً عن تمثيل دبلوماسي للجماعة لدى النظام السوري.
وعلى مدار السنوات السابقة من الحرب، اقتصر العمل الدبلوماسي لخارجية حكومة الحوثيين غير المعترف بها دولياً، على تسلم أوراق اعتماد ممثلي البعثات الأممية والمنظمات الدولية الإنسانية العاملة في صنعاء. ووفقاً لمصادر أممية تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن تعاون تلك المنظمات مع السلطات الحوثية لا يعد اعترافاً دولياً بها، بل مجرد تنسيق مع الجهات المسيطرة على الأرض بهدف تنفيذ أنشطتها الإنسانية.
وخلافاً للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً برئاسة معين عبد الملك، دأبت خارجية حكومة الحوثيين على تسجيل حضور في كافة المناسبات الوطنية للدول العربية والأجنبية، في محاولة لتقمّص بروتوكولات الدول الرسمية. وخلال أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وصلت برقيات وزير الخارجية في حكومة صنعاء، هشام شرف، إلى جمهوريات ومملكات مغمورة، منها جمهوريتا فيجي وبالو، ومملكة ليسوتو.
وكانت البرقية التي بعثها شرف إلى وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح، في وفاة الأمير صباح الأحمد الجابر الصباح، أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، هي الأكثر احتفاء من قبل الجماعة، بعد إذاعتها في التلفزيون الكويتي والوكالة الرسمية، باعتبارها من وزير خارجية الجمهورية اليمنية، وتسلمه برقية شكر جوابية، قبل أن يتم حذف مضمون التهنئة من وكالة "كونا" الرسمية.
يحصر سفراء الدول الخمس الكبرى تعاملهم مع جماعة الحوثيين، بكبير مفاوضيها محمد عبد السلام
وأرجع مصدر في الحكومة الشرعية، في حديث لـ"العربي الجديد"، النشاط الحوثي المكثف في التواصل ومجاملة خارجيات العالم، خلافاً للركود الحاصل في خارجية حكومة عبد الملك في عدن، إلى امتلاك خارجية حكومة صنعاء قاعدة بيانات الحكومات اليمنية المتعاقبة وعناوين كافة الحكومات الإقليمية والدولية ودوائر المراسيم في كافة دول العالم، خلافاً للشرعية التي تفتقر إلى أبسط الإمكانات.
وباستثناء إيران التي تتواصل بشكل مباشر مع هشام شرف، يحصر سفراء الدول الخمس الكبرى تعاملهم مع جماعة الحوثيين، بكبير مفاوضيها محمد عبد السلام، المقيم في مسقط منذ نحو عامين، وغالباً ما يكون النقاش متركزاً حول بحث فرص السلام، وليس الاعتراف الدولي بالجماعة.
وشكّلت التصريحات التي أطلقها مساعد وزير الخارجية الإيراني، علي أصغر حاجي، خلال لقاء افتراضي مع نظيره في حكومة الحوثيين، في 11 أكتوبر الحالي، والتي أعلن فيها أن طهران تقف مع أكثر من دولة صديقة لوضع خطة سلام في اليمن، بداية التحول الحاصل في المسار الدبلوماسي لجماعة الحوثيين، والتي تُوّجت بالوصول المفاجئ لسفير طهران إلى صنعاء بعد أيام من ذلك الاتصال.
وفتح وصول السفير شهية الحوثيين بشكل أكبر لعودة بعثات أخرى، وأعلن القيادي البارز في الجماعة محمد علي الحوثي، في 19 أكتوبر الحالي، أن صنعاء "ترحب بعودة كافة أعضاء السلك الدبلوماسي"، وذلك عشية الأزمة التي أحدثتها طريقة الوصول الغامضة لسفير طهران، حسن إيرلو. وقال الحوثي، في تدوينة على "تويتر"، إن عودة السفراء إلى صنعاء "مرهونة بإرادتهم فقط"، لافتاً إلى زوال التخوفات مما سماها بـ"المعلومات الأمنية الأميركية السعودية"، التي اعتمدت عليها السفارات والبعثات الأجنبية العاملة في اليمن.
ولم يظهر شرف ومحمد علي الحوثي، بمفردهما في ميدان المعركة الدبلوماسية، ففي أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، قال نائب وزير الخارجية في حكومة صنعاء حسين العزّي إن "الشرعية" التي تطلقها الأمم المتحدة زيفاً على حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي، فقدت معناها وأصبحت كمفردة "البصير" التي تطلق على الشخص الأعمى. واعتبر أن الشرعية الحقيقية مصدرها صنعاء.
وتبرز حسرة جماعة الحوثيين على "الشرعية" الغائبة، بالتزامن مع انطلاق الأحداث البارزة في المحافل الإقليمية والدولية. فمع انعقاد الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، قال مهدي المشاط، وهو رئيس المجلس السياسي الأعلى (أعلى هيئة سياسية للجماعة) إن مقعد الجمهورية اليمنية في الأمم المتحدة لا يزال شاغراً، وإن من يجلس عليه لا يمثل إلا نفسه أو من وصفهم بـ"حفنة منبوذة ومطرودة من قبل الشعب اليمني"، في إشارة لحكومة هادي المعترف بها دولياً. ولم يكتف المشاط بذلك، بل نبّه المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى "أن التاريخ لن يغفر لهم خطيئة الاستمرار في الاعتراف بشرعية هم أنفسهم يعرفون أنها شرعية زائفة ومنعدمة واقعاً وقانوناً وأخلاقاً ومنطقاً"، لافتاً إلى أن اليمن اليوم أصبح فقط يعاني تحت ما يسمى بالشرعية الدولية.
ومع جودها في المنفى، تسعى جماعة الحوثيين إلى مغازلة المجتمع الدولي وضرب حكومة هادي، وذلك بالإعلان الدائم أن "الشرعية" تؤوي عناصر من تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، وتضم حفنة من الفاسدين، بل وتقيم في عواصم تقصف صنعاء وتحتل أرض اليمن، في إشارة للرياض وأبوظبي.
وعلى الرغم من التحركات الحوثية المكثفة، يستبعد خبراء أن تنجح هذه المساعي في إحراز اختراق جوهري باقتناص اعترافات دولية، على الرغم من أن الجماعة تبدو مستعدة لتقديم تنازلات في سبيل الحصول على الشرعية.
ورأى الكاتب والمحلل السياسي اليمني، عبد الناصر المودع، أن بحث الحوثيين عن شرعية واعتراف خارجي مسألة حيوية ومصيرية بالنسبة لهم منذ سنوات، لكن الأمر لن يكون سهلاً وفي المتناول، وسيبقى على ما هو عليه بالمستقبل القريب، على الرغم من وصول السفير الإيراني إلى صنعاء. وقال المودع، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "اعتراف إيران وسورية بالحوثيين ليس بالأمر الجديد، وليس له أهمية كبيرة، فالحوثيون حلفاء طبيعيون لإيران والدول والجماعات الدائرة في فلكها".
وعن الأنباء حول صدور موافقة سعودية للسفير الإيراني للهبوط في صنعاء في إطار صفقة سياسية لا تزال غامضة حتى اللحظة، استبعد المودع ذلك، وأشار إلى أن السعودية تسعى لإبعاد جماعة الحوثيين عن إيران وليس العكس. واعتبر أن وصول إيرلو إلى صنعاء مجرد "نصر دعائي حوثي ـ إيراني، لن يغيّر من الوضع في اليمن كثيراً".
تبدو الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، فاقدة الحيلة في مسألة وصول السفير الإيراني الجديد إلى صنعاء
من جهتها، تبدو الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، فاقدة الحيلة في مسألة وصول السفير الإيراني الجديد إلى صنعاء، فبعد ساعات من اتهامها طهران بـ"تهريب" أحد عناصرها إلى أراضي الجمهورية اليمنية وتنصيبه سفيراً، اكتفت "الشرعية"، مساء الإثنين الماضي، برسالة احتجاج بعثتها لمجلس الأمن الدولي، اشتكت فيها من السياسات الإيرانية "التي تسمح للدول المارقة بتمكين المتمردين من انتهاك سيادة الدول". وعلى مدار الأيام الماضية، تجنّبت الحكومة اليمنية المطالبة بتوضيحات حول الجهة التي سمحت بوصول السفير الإيراني إلى صنعاء، على الرغم من تلويحها بـ"اتخاذ كل ما تراه مناسباً للحفاظ على حقوقها".
واكتفى مكتب المبعوث الأممي فقط بإعلان تنصله من مسؤولية نقل السفير الإيراني، وأكد مصدر أممي لـ"العربي الجديد" أن الطائرات الأممية والدولية الواصلة إلى صنعاء تخضع لتدقيق صارم للمسافرين على متنها، وتُرسل قوائمهم وجوازات سفرهم إلى خلية الإجلاء التابعة للتحالف السعودي الإماراتي، قبل إقلاع الرحلات بـ72 ساعة. وأشار المصدر إلى أن نسخة مماثلة يتم إرسالها إلى وزارة الخارجية اليمنية، ولا تقلع الطائرات باتجاه اليمن إلا بعد صدور التصاريح من الجهتين.
ووفقاً لخبراء، من المرجّح أن تكون جماعة الحوثيين قد رفضت إرسال كشوفات بقوائم الجرحى العائدين من مسقط إلى صنعاء، خصوصاً أن غالبيتهم قيادات عسكرية رفيعة، وأنه إذا ما تأكد أن وصول السفير الإيراني قد تم بلا علم سعودي، فإن سلطنة عمان هي المطالبة بتوضيحات.
وكما هو الحال مع "المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم إماراتياً، لا يُتوقع أن يمنح وصول سفير إلى صنعاء جماعة الحوثيين الشرعية المفقودة، ولن يتم الاعتراف بها دولياً إلا عندما تصبح ضمن حكومة شراكة مع كافة المكونات اليمنية بعملية ترعاها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.