معركة المعارضة التونسية: كيف تواجه توقيفات قيس سعيّد؟

28 فبراير 2023
تظاهرة منددة بالاعتقالات في تونس العاصمة، السبت الماضي (جهاد عبد اللاوي/رويترز)
+ الخط -

تواصل قوات الشرطة في تونس حصد المعارضين من بيوتهم ليلاً وفجراً بتهم "التآمر على أمن الدولة" وغيرها، فيما يتضح أنه خيار أمني وبالتأكيد سياسي. وتتوسع قائمة الموقوفين يوماً بعد يوم، مع خوض الرئيس قيس سعيد "معركته الوطنية" كما يسميها، مستحضراً مصطلحات من قبيل "تطهير البلاد ممن عبثوا بها"، خصوصاً أن "التهم ثابتة عليهم".

ويؤكد في كل ظهور أن "لا عودة إلى الوراء"، بينما تخوض المعارضة أيضاً معركتها الأهم في هذا الصراع الدائر مع سعيد منذ انقلابه وسيطرته على كل السلطات في 25 يوليو/تموز 2021.

معركة الديمقراطية في تونس

وتطرح هذه الوضعية أكثر من سؤال على التونسيين، فهل أن الديمقراطية في تونس تخوض اليوم معركتها الكبرى ضد السقوط في حكم الفرد؟ وما هي التوقعات الممكنة لنتائج هذا الصراع بين السلطة والمعارضة في ظل المعطيات الموضوعية المتوفرة؟

وهل تملك المعارضة اليوم مقومات الصمود أمام هذه الهجمة الواسعة؟ ولماذا أقدمت السلطة على معركة كسر العظام ضد المعارضة بهذه الشراسة وألقت بكل قواها في هذا الصراع؟

مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بتونس، الوزير السابق مهدي مبروك، يعتبر أنه "مع موجة الاعتقالات التي حصلت في الأيام القليلة الماضية، يبدو أن مسار الانتقال الديمقراطي قد دخل مرحلة حاسمة، إذ لم يعد الأمر مجرد انحراف بالسلطة وحرص حثيث على الاستفراد بها، بل تؤكد كل المؤشرات أن البلاد تسير إلى مرحلة استبداد شعبوي شمولي".

ويوضح مبروك في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "السلطة الحاكمة لم تكتفِ بتجميع السلطات، بل هي بصدد إحداث استبدال كبير تغادر بموجبه البلاد نهائياً تجربة الانتقال الديمقراطي باتجاه التطبيع مع استبداد شعبوي شمولي".


خالد شوكات: سيخرج المشروع الديمقراطي أقوى بعد هذه المحنة

 

ويضيف: "لم يكتفِ الرئيس بتغيير الدستور وتفكيك مؤسسات الانتقال الديمقراطي الواحدة تلو الأخرى، بل اتجه إلى المنظومة القانونية التي عدلها كما شاء. وهو الآن يمر إلى صياغة الذهنيات والثقافة بما هي قيم ورموز، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المناخ الاقتصادي والاجتماعي المتأزم، الذي يسحق شرائح اجتماعية واسعة". ويشير مبروك إلى أن كل ذلك "يخلق قابلية لخلق ثقافة كره الديمقراطية، عداء الأجانب، التشفي، عبادة الشخص... فنحن أمام شعبوية لا يسندها الرخاء الاقتصادي ولا الريع المالي القادم من النفط أو غيره من الثروات الطبيعية، بل أمام شعبوية فقيرة لا يمكن لها أن تشتري ولاء الناس إلا بعملية تلاعب كبير على المستور الرمزي".

ويضيف مبروك أن "السلطة تحاكي النموذج الليبي السابق، هكذا توقع الأستاذ عياض بن عاشور (رئيس أول برلمان انتقالي بعد ثورة 2010 ـ 2011) بشكل مبكر بعيد انتخاب الرئيس سعيد بأسابيع قليلة، وها نحن قد بلغنا تلك المرحلة". ويبدي خشيته من "تصحير المشهد السياسي التونسي، كما وقع ذلك في الجارة ليبيا أو في عدة بلدان عربية أخرى، تحت آلة القمع ومشاعر الخوف، وفي غياب أي ضمانات حقيقية لممارسة أدنى شكل من الحريات العامة، تحديداً في ظل تطويع القضاء وصياغة قوانين سالبة للحريات".

ويرى أن "هذا سيقود إلى خنق المعارضة وقد يلوذ الجميع بالصمت الكبير والطويل، وقد تنشأ أجيال ميالة إلى الديكتاتورية وعبادة الشخص".

ويشير مبروك في المقابل إلى أن "ثمة مفارقة تجري، فمن ناحية إن عدم الإقبال على صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة (أُجريت في 17 ديسمبر/كانون الأول و29 يناير/كانون الثاني الماضيين) ترافقه موجات واسعة من السلبية وكأن ما يجري طبيعي. وهذا برأيي أخطر من الاستبداد لأن التطبيع مع كافة أشكال التنكيل بالخصوم وطمس التعددية، هو أخطر ما يهدد ثقافة الشعوب التي مرت بالشعبوية الشمولية المستبدة. وتفيد كل التجارب أن هذه الأنظمة إذا استمرت فإنها لا تورث إلى ما بعدها سوى العنف الأهلي المعمم، فلا أجسام وسيطة قادرة على التأطير ولا ثقافة مؤيدة للمحاورة ولا قوانين بإمكانها احترام قوانين اللعبة". ويحذّر مبروك من أنّ "ثمة من يتوهم أن الشعبوية تطوي أمتارها الأخيرة، فالمشروع هو حالياً بصدد التوسع الكبير".

في المقابل، يرى رئيس المعهد العربي للديمقراطية، خالد شوكات، أنه "لأول مرة في تاريخ تونس المستقلة يكون الفرز السياسي على قاعدة الموقف من الديمقراطية، فالانقسام الحاصل داخل النخب التونسية فيما بينها، وكذلك الواقع بين الحكم والمعارضة، هو انقسام بين فريقين، أحدهما متمسك بالنظام الديمقراطي التعددي القائم على التفريق بين السلطات والتداول السلمي على السلطة واحترام الحريات وحقوق الانسان، والثاني يدور في فلك الرئيس قيس سعيد وأفكاره الشعبوية".

ويعتبر شوكات في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "هذا الانقسام الحادّ يشكّل حقيقة المعركة الكبرى التي تخوضها القوى الديمقراطية ضد مشروع العودة إلى الحكم الفردي التسلطي، وهي معركة حاسمة وضرورية لتكون تونس بعد ربحها جديرة فعلاً بالريادة الديمقراطية في المنطقة العربية"، معتبراً أن "مثل هذه الانتكاسات والاختبارات ضرورية لتقوية جهاز المناعة الديمقراطي والتنبيه لنقاط الضعف والأخطاء التي ارتكبت طيلة عشرية الانتقال (2010 ـ 2020)، من أجل تفاديها مستقبلاً وضمان استدامة الديمقراطية".

وعن مآلات هذه المرحلة يتوقّع شوكات أن "يخرج المشروع الديمقراطي بعد هذه المحنة أصلب عوداً وأقوى شكيمة ومراساً، فجميع الأساطير التي روّج لها المشروع الشعبوي ستتهاوى الواحدة تلو الأخرى، وسيقف الشعب عملياً على تهافت الأوهام التي خُدع من خلالها. وسيكتشف مثلاً عجز النظام عن تحقيق التنمية والعدالة والمحاسبة، كما سيكتشف أن نظام الرئاسي ليس أسرع قراراً، وسيعرف أن مكافحة الفساد ليست سوى كلمات جوفاء. خلاصة القول أن الشعب سيدرك من خلال هذه التجربة أن النظام الديمقراطي هو الأفضل في الحرية والتنمية معاً".

ويتحدث شوكات عن المعارضة، مؤكداً أنها "ستتجدد وتتوسع ويزداد تأثيرها في مجريات الأحداث مع الوقت. وسيظهر قادة جدد يحملون خطاباً جديداً وستُطرح مبادرات سياسية جديدة، ستزداد مصداقيتها في نظر الشعب مع هذه الحملة التي تطاولها وتساهم في توحيدها. لأول مرّة يقوم نظام سياسي باعتقال معارضيه من جميع العائلات السياسية، وهو ما سيصنع كتلة تاريخية لطالما تطلعت النخب إلى بنائها دون نجاح يذكر. النظام سيزداد ضعفاً كلما عمد إلى قمع المعارضة أكثر".

ويفسر عضو مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب " زهير إسماعيل ما يسميه "طبيعة الصراع الدائر حالياً"، ويقول في حديثٍ مع "العربي الجديد" إن "ما يحدث اليوم من استهداف للحريات ولقيادات المعارضة من قبل سلطة الانقلاب بالمداهمات والاعتقال بتهمة التآمر على أمن الدولة بلا أدلة وبملفات فارغة، هو في حقيقته امتداد لصراع بين الانقلاب والديمقراطية".


مهدي مبروك: تطويع القضاء سيُنشئ أجيالاً ميالة لعبادة الشخص

 

ويرى أن "سلطة الأمر الواقع عمدت منذ يومها الأول إلى محاولة تغيير عنوان الصراع من صراع انقلاب/ديمقراطية إلى صراع بين مسار تصحيح وعشرية فاسدة، ولكنها فشلت في مواجهة ظاهرة "مواطنون ضد الانقلاب" ومنجزها السياسي المتمثل في جبهة الخلاص، على الرغم من الاستهداف الذي لم يتوقف لأكثر من سنة ونصف السنة".

ويؤكد إسماعيل أن "حملة الاعتقالات تأتي للتغطية على أمرين: الأول، فشل سلطة الانقلاب في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية الموروثة، التي حوّلتها إلى نكبة وطنية، ونزولها بسمعة الدولة في الأسواق المالية إلى الحضيض، والثاني حالة العزوف الواسعة عن المشاركة في الانتخابات والتي لم تتجاوز الـ11 في المائة، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات في تونس والعالم. وهي دليل قوي على عزلة الانقلاب ومساره التصحيحي".

قدرة المعارضة على الصمود

وبخصوص قدرة المعارضة على الصمود في وجه هذا الاستهداف المتواصل، يؤكد إسماعيل أن "نقطة قوة المعارضة الديمقراطية أنها تعمل في العلن وبخطاب مكشوف لا يُخفي تصديها للانقلاب وعملها على إزاحته واستعادة الديمقراطية بالطرق السلمية، على الرغم من عدم نجاح المعارضة في جمع قواها على برنامج مرحلي وطني يخرج البلاد من أزمتها وينقذ الدولة".

ويتوقع إسماعيل أن "يوسع الانقلاب مروحة استهدافه ليشمل الجميع تقريباً، بمن فيهم الجهات التي ما زالت تقف على أرضية 25 يوليو. وهو بذلك يدفعها إلى الخروج من سقفه حين يشعر بأنها مستهدفة في وجودها".

ويشدّد على أن "المعركة تستهدف المؤسسة القضائية، فسلطة الأمر الواقع تشن حرباً على القضاء لجعله وظيفة محكومة بتعليمات السلطة التنفيذية، بعد حل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين والمجلس الأعلى للقضاء، وعزل عشرات القضاة".

ويعتبر أن "هناك معركتين ستحددان مآلات الصراع بين الانقلاب والديمقراطية: معركة القضاء، ومعركة توحيد المعارضة الديمقراطية. غير أن ما نراه مثلاً من تردد عن جعل مأساة القاضي البشير العكرمي قضية وطنية، وما يشق المعارضة من خلافات تمنع اللقاء على برنامج للإنقاذ، يؤشران إلى تعقيد فعلي في المشهد السياسي وتركيب تعيشه القوى المتصارعة وأن الفرز لم يبلغ مداه بعد".