استمع إلى الملخص
- دعم شخصيات يهودية بارزة لـ"التجمع الوطني" استناداً إلى مواقف الأحزاب تجاه إسرائيل، يعكس تأثير القضية الإسرائيلية على الانتخابات والديناميكيات السياسية في فرنسا.
- الجدل حول معاداة السامية يبرز التوترات داخل المجتمع الفرنسي ويثير مخاوف الجالية اليهودية حول مستقبلها، مع توقعات بأن هذه القضية ستستمر في تشكيل السياسة الفرنسية.
تتقدّم معاداة السامية على غيرها من عناوين حملة الانتخابات الفرنسية. ويحتل هذا العنوان الواجهة في التنافس على مقاعد البرلمان الفرنسي بدلاً من أن تتصدر النقاش قضايا تخص حياة الفرنسيين، مثل تراجع القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف المعيشة، والهجرة والعنصرية والإسلاموفوبيا. هذا التطور الذي يحصل للمرة الأولى يعود سببه المباشر إلى الاستقطاب السياسي الحاد، الذي ولّدته حرب إسرائيل على قطاع غزة، إضافة إلى الخصوصية الفرنسية المتمثلة في معطيين مهمين، الأول هو دور فرنسا المحوري في الصراع العربي الإسرائيلي وموقفها المتأرجح بين دعم إسرائيل وبين التوازن من خلال إدانتها، والثاني هو حضور جاليتين كبيرتين هما العربية والمسلمة المساندة للقضية الفلسطينية، واليهودية المؤيدة في غالبيتها لإسرائيل.
الانتخابات الفرنسية ومعاداة السامية
كلما اقترب موعد الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية في الـ30 من الشهر الحالي، تزداد حدة الفرز السياسي، فيما تتضح المواقف على مستوى الأطراف السياسية المتنافسة وفي المنابر الإعلامية. مع العلم أن شطراً من الجدل الراهن في فرنسا كان قد بدأ خلال حملة الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي جرت في التاسع من الشهر الحالي، بينما يستجد قسم آخر من الجدل ليختص بالانتخابات التشريعية وحدها، تعكسه الهواجس والأسئلة المحلية وتضفي عليه طابعاً من الحدة لم تظهر على نفس القدر في انتخابات البرلمان الأوروبي.
يتضح أكثر فأكثر أن معاداة السامية يتوسع مداها بكونها مفهوماً على نحو كبير ولم تعد تقف عند حدودها التقليدية، التي كانت تعني التمييز ضد معتنقي الديانة اليهودية. وأول خطوة خارج التعريف القديم هي أنها تشمل الآن من يقف ضد الصهيونية، التي كانت الأمم المتحدة تعدها شكلاً من العنصرية، قبل أن تتراجع عن ذلك، ليندرج على لائحة معاداة السامية كل من يعارض السياسة الإسرائيلية ويؤيد حقوق الشعب الفلسطيني. وتأتي عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتمد المفهوم بصورة مطاطية مع إدخال إلى التصنيف كل من لا يدين حركة حماس ومن يعارض حرب إسرائيل على القطاع. المفهوم هذا هو المعتمد خلال حملة الانتخابات الفرنسية حالياً، وعلى أساسه تُوزّع المعسكرات.
الحزب الذي يُصنَّف معادياً للسامية هو "فرنسا الأبية" بزعامة جان لوك ميلانشون، مرشح الرئاسة السابق الذي حل بالمرتبة الثالثة في الدورة الأولى من انتخابات 2022 بعد الرئيس إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمن المتطرف مارين لوبان حينها. وقد حصل هذا الحزب على نسبة أكثر من 9% في انتخابات البرلمان الأوروبي، ويعد أكبر قوة سياسية داخل ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة" المشكّل أخيراً لخوض الانتخابات الفرنسية المقبلة، ويضمه إلى جانب ثلاثة أحزاب يسارية أخرى، هي الاشتراكي والخضر والشيوعي.
السبب الرئيسي في وضع "فرنسا الأبية" على لائحة المعادين للسامية هو موقفه من الحرب على قطاع غزة
يعود السبب الرئيسي في وضع "فرنسا الأبية" على لائحة المعادين للسامية إلى موقفه من الحرب على قطاع غزة. ويميّز ميلانشون نفسه عن بقية الساسة الفرنسيين، منذ اليوم الأول لعملية السابع من أكتوبر الماضي، برفض إدانة عملية حركة حماس أو وصفها بالإرهابية، مشدّداً في بيان حينها على أن "الهجوم المسلح لقوات فلسطينية بقيادة حماس يأتي في سياق تكثيف سياسة الاحتلال الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية".
على الضفة الأخرى، تُبيّض على نحو مكثف صفحة اليمين المتطرف من تهمة العداء للسامية، الموجّهة إلى مؤسس هذا التيار جان ماري لوبان، إذ حوكم وأدين بسبب تصريحه الشهير، الذي وصف فيه غرف الغاز النازية بأنها "محض تفصيل من تفاصيل التاريخ". إلا أن مارين، الابنة الصغرى للأب المؤسس، حاولت التخلص من وصمة اليمين المتطرف منذ أن بدأ حزب "الجبهة الوطنية" يتوسع شعبياً، وطردت والدها من الحزب الذي أسسه وغيّرت اسم الحزب المعروف بإنكاره المحرقة النازية وتبنيه كراهية الأجانب، ليصبح اسمه "التجمع الوطني". ونجحت مارين لوبان تدريجياً في كسب صداقة بعض المؤيدين لإسرائيل، غير أن بعض المراجع اليهودية يرى أنه لم يغير تنظيف منزل لوبان تصميمه الأساسي. ويظل "التجمع الوطني"، على الرغم من القشرة اللطيفة، حزباً قومياً عرقياً ملتزماً بوجهة نظر عالمية معادية للمهاجرين ولأوروبا، ومناهضاً للتعددية.
التصويت لمصالح إسرائيل
الانتخابات الأوروبية الماضية والانتخابات الفرنسية المقبلة هما المناسبتان اللتان دعت فيهما شخصيات محسوبة على إسرائيل مباشرة إلى عدم التصويت لـ"فرنسا الأبية" واحتمال التصويت لـ"التجمع الوطني"، مثل سيرج كلارسفيلد. وكلارسفيلد هو محامٍ اكتسب شهرة لكونه من صائدي النازيين، وأحد نشطاء إحياء ذكرى المحرقة النازية، والذي قال إنه لن يصوّت لصالح "فرنسا الأبية"، لكنه سيصوّت لصالح "التجمع الوطني" في حالة الذهاب إلى جولة إعادة. وحدد سبب موقفه في أن "التجمع الوطني" تغيّر وأصبح الآن يدعم اليهود ودولة إسرائيل، مؤكداً أنه بهذا الخصوص سيصوّت لصالح حزب مؤيد لليهود.
الموقف الثاني الذي شكل علامة لافتة هو ذلك الذي صدر عن الفيلسوف آلان فينكلكروت، الذي قال في مقابلة مع مجلة لوبوان إنه سيفكر في التصويت لـ"التجمع الوطني"، وذلك "إذا لم يكن هناك بديل". وأوضح أنه يقوم بذلك ضد "فرنسا الأبية" "الذي أسس حملته الأوروبية كاملة على كراهية إسرائيل والصهاينة". ومن المعروف أن هذا الفيلسوف ينتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين، إذ هاجر والداه من بولندا هرباً من النازيين، وهو صاحب التصريحات المعادية للمواطنين الفرنسيين من أصول مهاجرة. ومن أقواله: "يؤلمني أن أرى الخطر محدقاً بالحضارة الأوروبية في حالتها الفرنسية. فرنسا اليوم في طور التحوّل إلى مجتمع ما بعد قومي متعدد الثقافات". وقد صنفته ذات يوم مجلة نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية في عداد "الرجعيين الجدد" الذين عززوا صفوف اليمين الكلاسيكي المتطرف، وازدادوا ضراوة بعدما دخلت فرنسا سجالاً وطنياً حول إشكالات الهوية و"التعارض المشبوه بين معطى الوطن المهدد والهجرة المتربصة به".
مرافعة كل من كلارسفيلد وفينكلكروت تقوم على أساس الموقف من إسرائيل واليهود والصهيونية، وهما سيصوتان في الانتخابات الفرنسية بما يتلاءم مع مصالح إسرائيل. وليست في خطاب الرجلين أي إشارة للقضايا الفرنسية، وعلى هذا الأساس، فهما يعاديان حزباً فرنسياً لديه عدد من النواب المنتخبين كونه يتخذ موقفاً ضد إسرائيل ومؤيداً لحقوق الشعب الفلسطيني.
معاداة السامية خلقت انقساماً بين تحالف الأحزاب الأربعة، فرنسا الأبية والاشتراكي والخضر والشيوعي
مسألة معاداة السامية خلقت حالة من الانقسام بين أطراف التحالف الذي تشكل في انتخابات عام 2022 تحت اسم "نوبيس"، والمكوّن من تحالف الأحزاب الأربعة، فرنسا الأبية والاشتراكي والخضر والشيوعي. وانفضت الأحزاب الثلاثة الأخيرة من حول "فرنسا الأبية" لنفس السبب. وحسب ما تسرّب، فإن التحالف الرباعي لخوض الانتخابات الفرنسية المقبلة وجد إخراجاً لتجاوز الخلافات بين أطرافه حول الحرب على أوكرانيا والشرق الأوسط، وفي ما يخص غزة، ندد بـ"مجازر حماس الإرهابية" في السابع من أكتوبر، من دون اعتبار حركة حماس "منظمة إرهابية" كما تصنفها إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لا يبدو أن هذا التخريج يطمئن اليهود الفرنسيين. وحسب ما هو ظاهر من لهجة الخطاب الصادر عن بعض الشخصيات الإعلامية والسياسية في الجالية اليهودية، فإن هناك مشاعر ارتباك واضحة في ما يخص الموقف الفعلي من حزبي فرنسا الأبية والتجمع الوطني. وكشف استطلاع للرأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام (IFOP ) أن 92% من المشاركين اليهود في الاستطلاع يعتقدون أن "فرنسا الأبية" هو المسؤول عن صعود معاداة السامية في فرنسا، في حين أن نصف هذا العدد فقط يعتقدون الشيء نفسه بالنسبة لـ"التجمع الوطني". وما لا يقل عن ذلك غرابة هو أن ما يقرب من 60% يقولون إنهم سيغادرون فرنسا إذا أصبح أحد أعضاء "فرنسا الأبية" رئيساً للوزراء، في حين يشعر 37% فقط بالشعور نفسه تجاه حكومة برئاسة "التجمع الوطني".
حسب ما هو ظاهر من ردود الفعل واستطلاع الرأي أعلاه، يبدو أن يهود فرنسا عالقون بين احتمالين، بين حزبي فرنسا الأبية والتجمع الوطني، والخلفية هي تهمة معاداة السامية. وفي خطاب يعبّر عن القلق، قالت الحاخام المعروفة دلفين هورفيلور إنها غير قادرة على تقديم إجابة واضحة للمأزق الحالي. وأضافت: "لا يسعني إلا أن أفكر في التهديد الذي يثقل كاهل جمهوريتنا الآن". وخلصت إلى أن التوراة "أُعطيت لنا في الصحراء. وعلينا الآن أن نعترف بأننا عدنا إلى الصحراء".
جانب آخر من القلق ينبع من الاعتقاد في الأوساط اليهودية بأن معاداة السامية مسألة متقلبة، وليس هناك مقياس فعلي عن حالة المجتمع الفرنسي اليوم. ثم إن الأعمال المحسوبة على معاداة السامية في الأعوام الأخيرة لا علاقة لها بمعاداة السامية التقليدية اليمينية التي قام عليها النظام الفرنسي أثناء المحرقة. وبدلاً من ذلك، في رأي البعض، فإنها باتت تنبع من مصادر جديدة تعكس الطبيعة المتغيرة للمجتمع الفرنسي، وهو ما يظهر خصوصاً في التوتر المتزايد بين الجاليات اليهودية والمسلمة الكبيرة في فرنسا. ولذلك جرى النظر إلى نتائج التصويت في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة باعتبارها مؤشراً مهماً جداً في المدى المنظور، فإضافة إلى أن لائحة "فرنسا الأبية" حققت نسبة جيدة في فرنسا، فإنها جاءت في المرتبة الأولى لتصويت الفرنسيين في الخارج في عدة بلدان عربية، كما هو الحال في المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا ولبنان. ويحمل ذلك رسالة سياسية عنوانها الموقف من القضية الفلسطينية.