فلسطين هي بوابة مصر الشرقية، هذا حكم الجغرافيا، وهي خط الدفاع الأول عن مصر، وهذا حكم التاريخ والجغرافيا، فهي التي صدت عن مصر غزوات المغول والصليبيين وقبلهم السكيث. هذه النظرة التاريخية ذات البعد الاستراتيجي للأمن القومي المصري، فهمها كل من حكم مصر، منذ زمن الفراعنة الذين حكموا فلسطين، مروراً بحكم البطالمة الإغريق وأسرة محمد علي والضباط الأحرار، وخاصة محمد نجيب وعبد الناصر والفترة الأولى من حكم السادات.
كسرت معادلة الأمن القومي المصري في عام 1979، بعقد مصر صلحاً منفرداً مع دولة استعمارية ذات أهداف توسعية استراتيجية، لم يسفر عن شيء سوى سلامٍ رسميٍ هشٍّ لم يلبِّ أياً من المأمول منه، فلا الاقتصاد المصري تحسن، ولا الإنفاق العسكري قلّ، ولا سيناء حرة بالمعنى الكامل، بل ما زالت تخضع لاتفاقيات تحدّ من حركة جيشها وعدده على أرضها.
على العكس، أدت اتفاقيات كامب ديفيد إلى فقدان مصر وزنها وقيمتها السياسية على الساحات العربية والأفريقية وداخل منظومة عدم الانحياز، لمصلحة دول أقل شأناً. الغريب في الأمر أن مصر العظيمة بعظمة شعبها وتاريخها وحضارتها لم تتعظ من تجربتها، بل شجعت كل من يريد التطبيع على التطبيع، فقد رحبت باتفاقيات أبرهام علناً، واعتبرتها إنجازاً لمصلحة السلام والازدهار في المنطقة. حدث تطور كبير في فترة حكم الرئيس مبارك، فكّ عزلة النظام المصري عربياً، من خلال زيارة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عام 1983، التي أدت في النهاية إلى انفتاح عربي على مصر، وعودة مصر إلى شغل مقعدها كزعيم للعرب.
مصر بعد كامب ديفيد ليست كما كانت قبله، فقد تحولت الدولة الكبرى إلى وسيط بين الفلسطينيين والصهاينة، في أحد اللقاءات التلفزيونية، تحدث الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، قائلاً: "ما يهم مصر في النزاع العربي الصهيوني هو القدس والمسجد الأقصى". حظي قطاع غزة برعاية مصرية خاصة في فترة حكم الرئيس محمد مرسي، نتيجة حكم جماعة الإخوان المسلمين فيها، ممثلةً بحركة حماس، فقد فرض الرئيس المصري على وزراء الخارجية العرب، والأمين العام لجامعة الدول العربية، زيارة تضامن مع المقاومة الفلسطينية في القطاع عام 2012، وشهد ذلك العام تحولاً في التعامل مع الفلسطينيين عند المعابر والمطارات المصرية، ذكرتهم بالحقبة الناصرية عندما كان الفلسطيني يعامل معاملة المصري.
مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، تحولت علاقة مصر مع سلطة الحكم في غزة، ووصلت في أحيان كثيرة إلى شن الإعلام المصري حملات ممنهجة تنشر العداء والتحريض على غزة وأهلها، كذلك شهدت حركة معبر رفح تقييدات وإغلاقات كثيرة، وأغلقت مصر كل أنفاق التهريب بين قطاع غزة وشمال سيناء، ووسعت المنطقة العازلة إلى مساحة كيلومتر ونصف. فيما بعد، مارست ضغطاً متزايداً على "حماس" وعلى أهالي القطاع، ما أجبر الأولى على لسان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية على الإعلان في القاهرة عن تبرؤ الحركة من الانتماء إلى حركة الإخوان المسلمين، على إثره عقدت القاهرة اتفاقاً مع "حماس"، نص الاتفاق على أن يحارب الطرفان (مصر و"حماس") معاً الجماعات الإسلامية المتشددة في سيناء، وعلى رأسها "داعش".
تزايدت فعالية الدور المصري في السنوات الأخيرة، نتيجة الاعتداءات الصهيونية المتكررة على قطاع غزة، خلال حروب 2014 و2021 و2022، وهو دور مارسته المخابرات العامة المصرية بفاعلية.
بعد العدوان الصهيوني على قطاع غزة عام 2021، الذي واكبته انتفاضة فلسطينية شاملة داخل أراضي عام 1948 والقدس، تساءل بعضهم عن دور مصري جديد؟ بعد إرسال مصر معدات بناء بهدف إعادة إعمار قطاع غزة، استناداً إلى توجيهات السيسي.
عنونت صحيفة "جيروساليم بوست" الصهيونية أحد تقاريرها "هل تخطط مصر لاستعادة السيطرة على قطاع غزة؟"، طرح التقرير تساؤلات عن نيّات مصر بشأن "إعادة حكم" قطاع غزة، تعليقاً على مشاركتها في عملية إعادة إعمار القطاع، بعد 11 يوماً من تصعيدٍ عسكريٍ هو الأعنف إسرائيلياً منذ عام 2014. لكن لم ترغب مصر في حكم القطاع، فغير المساهمة في إعادة الإعمار، لم تطرأ أي تحولات على السياسة المصرية تجاه القطاع المحاصر، سوى تسهيل الحركة في معبر رفح، المترافقة مع تزايد تعقيدات السفر، من خلال الكمائن ونقاط التفتيش على الطريق بين رفح والقاهرة.
في العدوان الأخير الذي استهدفت فيه آلة الحرب الصهيونية حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة تحديداً، وضِعت القاهرة في موقف حرج، فقد أُخذت غزة على حين غرة، بعد طمأنات تلقتها حركة الجهاد الإسلامي من مصر، ومطالبة مصر الحركة بعدم التصعيد، مارست القيادة الصهيونية عمليات اغتيال وقتل قيادات عسكرية من الجهاد في القطاع، سبقها اعتقال قياداته في الضفة. نقلت قناة "إكسترا نيوز" المقربة من سلطات البلاد عن مصدر مسؤول لم تسمّه في أثناء العدوان على غزة قوله: "إن القاهرة "أبلغت تل أبيب بضرورة وقف القصف والعملية العسكرية فوراً". وطالبت وفق المصدر ذاته "كل الأطراف بضبط النفس كي لا تزداد الأمور سوءاً وتتطور العمليات بشكل أكبر". ونجحت الوساطة المصرية بعد قتال استمر ثلاثة أيام.
ألقى العدوان الأخير بظلاله على العلاقات المصرية الإسرائيلية، وفق تقرير محلل صحيفة هآرتس الإسرائيلية العسكري عاموس هرئيل، يوم الجمعة 19/ 8 /2022، "أزمة تسود العلاقات المصرية - الإسرائيلية على خلفية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة"، مشيراً إلى أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي طالب دولة الاحتلال الإسرائيلي "بخفض" حملات الاعتقال والمداهمات التي يشنها جيش الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة. ووفقاً للتقرير، فإن الأزمة بين الطرفين، التي تجري إدارتها بعيداً عن وسائل الإعلام، ألحقت حتى الآن ضرراً بالتنسيق الأمني بين الدولتين، الذي شهِدَ تحسناً كبيراً على مدار العقد الأخير، والعتب المصري جاء على إثر عدم توجيه لبيد شكراً إلى مصر في خطابه بعد وقف العدوان، ونتيجة تنصل لبيد وغانتس من تعهداتهما بالإفراج عن الشيخ السعدي والأسير العواودة، بالإضافة إلى التصعيد في نابلس واغتيال الشهيد إبراهيم النابلسي.
في النهاية، لا يمكن القول إن مصر جاهزة كي تلعب دوراً أكبر من دور الوسيط بين المقاومة الفلسطينية في غزة ودولة الصهاينة. فأوضاعها الاقتصادية الصعبة، والمخاطر الداخلية، والتحديات الإقليمية المتعلقة بنهر النيل مع إثيوبيا، لا يسمح كل ذلك بدور مصري أكبر. تبقى مصر الدولة العربية الأهم والأقرب إلى فلسطين، خاصة قطاع غزة، لذلك يتأثر الدور المصري بالأحداث هناك، لكنها؛ مصر، الآن حبيسة كامب ديفيد، وستبقى إرادتها مقيدة ما دامت هذه الاتفاقيات قائمة.