تشهد الفترة الحالية، التي يتوسع فيها النظام المصري، في إنشاء المشاريع المملوكة والتي تدار بواسطة الجيش في المقام الأول، أو المخابرات والرقابة الإدارية والشرطة أو شخصيات تابعة لتلك الأجهزة، إعادة خلق تحالفات بين النظام الحالي ومن يمكن وصفهم بأنهم كانوا خصوماً له في الماضي. وعلى رأس هؤلاء الخصوم فئة من رجال الأعمال الذين كانوا محسوبين على نظام الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وقيادات الحزب الوطني المنحل، وعلى رأسهم جمال وعلاء مبارك ورجل الأعمال أحمد عز. ويواصل عز محاولاته للاندماج مع الأوضاع الجديدة، من خلال شراكات محدودة مع الحكومة في بعض القطاعات، كان آخرها إنتاج إسطوانات الأوكسجين للمستشفيات، رغم محاولاته العديدة الفاشلة سابقاً للعودة للواجهة سياسياً، والتي قمعها النظام بين عامي 2014 و2017.
ويمكن اعتبار محمد أبو العينين، وكيل مجلس النواب الحالي، رائد هذا النوع الجديد من التحالفات، وأنه الذي منح فلول مبارك الأمل في إمكانية التفاهم مع السلطة الجديدة، المكونة من عسكريين وأعضاء بأجهزة لم يكونوا قد تعاملوا بتوسع مع مجتمع رجال الأعمال من قبل، بل ينتمون إلى جهات كانت تعتبر أن نظام مبارك يمضي في أواخر عهده إلى منح ذلك المجتمع أولوية غير مقبولة على حساب الجيش والأجهزة المكونة لما يمكن وصفه بـ"الدولة العميقة".
فبعد فترة قصيرة من الارتياب بين السلطة الجديدة وأبو العينين، الذي كرّس كل جهوده الدعائية والإعلامية عبر القناة والموقع اللذين يملكهما، "صدى البلد"، لخدمة النظام وأجهزته المختلفة منذ ما قبل انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، سارع لإنفاق مئات الملايين في الداخل والخارج، كهدايا لدعم الرئيس عبد الفتاح السيسي، خاصة برعايته للتظاهرات الاحتفالية بزياراته بين 2014 و2016 للعواصم الغربية الرئيسية، وشرائه صفحات إعلانية في الصحف الأوروبية للإشادة بالسيسي وتوجهاته الاقتصادية.
تنامت سلسلة محال تابعة إلى محمود منير سليمان
وتطورت العلاقة بين أبو العينين والنظام حتى بلغت ذروتها في العام الماضي، عندما استطاع، من خلال إنفاق مبالغ طائلة، أن يصبح نائباً لرئيس حزب "مستقبل وطن"، والظفر بالترشح مستقلاً لمجلس النواب عن إحدى الدوائر المهمة بمحافظة الجيزة. ورغم رفضه - في أزمة هامشية - الإنفاق على القائمة الموحدة التابعة لأحزاب المخابرات والأمن الوطني، فقد استطاع تأمين موقعه كوكيل للبرلمان الجديد، وهو أعلى منصب يبلغه أحد فلول نظام مبارك، وأحد قيادات برلمانه المنحل، بفعل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. ويومها كان أبو العينين يشغل منصب رئيس لجنة الصناعة والطاقة بالمجلس منذ 2005، إلى جانب عضويته باللجنة العليا للسياسات بالحزب الوطني. مع العلم أنه لم يستقل منها إلا في منتصف مارس/آذار من عام الثورة، بعدما أصبح مؤكداً عدم دوران العجلة للوراء.
تجربة أبو العينين كانت ملهمة بالتأكيد لعدد آخر من فلول نظام مبارك، اعتبروا أن التشارك مع الجيش والمخابرات العامة، وفقاً لشروطهما، هو الضامن الوحيد لاستمرار تمتعهم بأعمالهم واستعادتهم لنفوذهم. وفي المقابل كانت الشراكة مع هؤلاء -في مساحات محدودة من حصيلة الثروات والمشاريع- بالنسبة لنظام السيسي وأجهزته أكثر أماناً من التعامل مع رجال أعمال ذوي أفكار ورؤى أكثر ليبرالية أو تقدمية، أو من تصنفهم الأجهزة الأمنية كمقربين لجماعة الإخوان أو إسلاميي الهوى، كمالك شركة "جهينة" المحبوس حالياً صفوان ثابت.
ومن أحدث هؤلاء الفلول من أصحاب الظهور القوي في المساحات المتقاطعة بين الاقتصاد والسياسة رجل الأعمال محمود منير سليمان، مالك سلسلة المحال التجارية "Circle K" التي انتشرت بصورة متصاعدة في الأشهر الستة الماضية، وتنامى وجودها في مختلف مناطق العاصمة، ملتصقة بمعظم مشاريع الجيش، سواء محطات الوقود أو الأماكن السياحية والأثرية التي تولى الجيش ترميمها وإعادة تأهيلها، إلى حد اعتقاد المتابعين أن الجيش هو مالك هذه السلسلة، وليس رجل أعمال. وأصبح ظهور فروع جديدة لسلسلة "Circle K" مع كل مشروع ينفذه الجيش، محل سخرية وجدل واسعين على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في مناطق مصر الجديدة ومدينة نصر والقاهرة الجديدة. وكان أحدث ظهور لها إقامة كشك داخل حرم قصر البارون، ثم رفعه بعد معارضة واسعة من المواطنين.
وقبل ثورة يناير كان سليمان عضواً باللجنة الاقتصادية للحزب المنحل، ومعروفاً بقربه من مجموعة جمال مبارك، وتحديداً علاقته الوطيدة بأحمد عز من ناحية، والأمين العام للحزب المنحل صفوت الشريف ورئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي من ناحية أخرى. وقد مكنه هذا من الصعود في مسارين متوازيين، أولهما في اتحاد الصناعات المصرية والغرف التجارية، التي كانت آنذاك مركزاً أساسياً لصنع القرار الاقتصادي بالبلاد وتوجيه الوزراء المعنيين. وهو تولى رئاسة غرفة صناعة الكيميائيات، باعتباره رئيساً لمجلس إدارة الشركة المصرية الإيطالية للدهانات الحديثة "إركوارزو"، وثانيهما على المستوى السياسي، من خلال عضوية أمانة الحزب الوطني في مصر الجديدة، التي كانت تعتبر من الأمانات الرئيسية وذات الأهمية الخاصة والتابعة مباشرة لديوان مبارك، والمؤهلة لأعضائها في كثير من الأحيان للترقي الحزبي السريع.
عقب الثورة، وفي محاولة للتطهر من التبعية لنظام مبارك، اتفق رؤساء الغرف باتحاد الصناعات على الاستقالة من الحزب الوطني، ليتمكنوا من التفاهم مع السلطة الجديدة بطريقة أسهل، سواء كانت عسكرية أو مدنية. وكان سليمان أول رئيس غرفة يقدم استقالته من الحزب، ما مكنه من إعادة تموضعه سريعاً بالاتحاد والحفاظ على بعض مكتسباته. وبعد انقلاب 2013، استطاع من خلال التواصل المستمر مع إدارات المشاريع العسكرية والاستخباراتية التابعة للنظام أن يصبح رئيساً للجنة الاستثمار باتحاد الصناعات، مع احتفاظه بعضوية مجلس إدارة غرفة صناعة الكيميائيات، وعضوية غرفة الأعمال المصرية الأميركية، حيث يعتبر امتلاكه لـ"Circle K"، وهي علامة تجارية أميركية في الأساس، أبرز أعماله.
بلغت العلاقة بين أبو العينين والنظام ذروتها العام الماضي
مصدر حكومي مطلع على عدد من المشاريع الجديدة للجيش قال، لـ"العربي الجديد"، إن جهاز الخدمة الوطنية، المالك لمحطات الوقود والطرق التي يديرها الجيش، اتجه أخيراً إلى تأجير المحال التجارية لمحمود سليمان، في إطار حرصه على توجيه رسالة لمجتمع الأعمال المصري، وبصفة خاصة الغرفة المصرية الأميركية، باستعداد الجهاز لعقد شراكات مع المستثمرين المحليين، وعدم استئثاره بريع مشاريعه. ويأمل الجهاز أن يؤدي هذا الأمر إلى تغيير الرؤية النمطية الثابتة التي يصدرها مجتمع الأعمال المصري لواشنطن باحتكار الجيش للأنشطة الاقتصادية. وأضاف المصدر أن هذا التوجه سيسير بالتوازي مع التوجه الأصلي المعتاد، بتسليم مساحات العمل المختلفة داخل الأراضي والمناطق التي يديرها الجيش لشركات عسكرية مملوكة للجهاز نفسه، أو تأجيرها لشركات صغيرة أو مصطنعة من الباطن يملكها عسكريون سابقون أو أعضاء أجهزة حاليون وسابقون.
وذكر المصدر أنه بعد مرور أكثر من سبع سنوات على وصول السيسي للسلطة أصبح التعاون مع أجهزة نظامه، وفقاً لشروطها، الملاذ الآمن لرجال الأعمال، الذين كانوا يتصورون أن باستطاعتهم استغلال نفوذهم لتوجيه النظام الجديد، أو تعطيله لإعادة إنتاج نظام مبارك. وكان السيسي استهل حكمه بتشديد الخناق على المستثمرين المصريين، بتحريك أتباعه لتقديم بلاغات ضدهم إلى النائب العام، أو اتخاذ إجراءات تتعلق بالممارسة الاحتكارية وملاحقتهم بالضرائب، فضلاً عن إصدار أحكام بعدم صلاحية أبرزهم، أي أحمد عز، لمباشرة حقوقه السياسية. وفسر مجتمع الأعمال تلك التحركات "العقابية" وقتها باعتبارها رداً من السيسي على تجاهل رجال الأعمال لمطالبته لهم، خلال فترة ترشحه للرئاسة، "التبرع لصالح مصر لإنقاذها من المأزق التي تمرّ به" بعدما تساءلوا حول كيفية إدارة هذه الأموال، وطرق إنفاقها بشفافية ووضوح، وكذلك المكاسب التي سيحصلون عليها مقابل هذه التبرعات.